الرئيسة \  تقارير  \   روسيا و"الخوذ البيضاء".. قصة "حرب تضليل" بين ساحتين 

 روسيا و"الخوذ البيضاء".. قصة "حرب تضليل" بين ساحتين 

20.11.2022
ضياء عودة

 روسيا و"الخوذ البيضاء".. قصة "حرب تضليل" بين ساحتين 
ضياء عودة - إسطنبول
الحرة
السبت 19/11/2022
لم ينقطع ذكر اسم منظمة "الدفاع المدني السوري" (الخوذ البيضاء) على لسان المسؤولين الروس العسكريين والسياسيين، منذ تدخل موسكو العسكري في سوريا، وبينما كال هؤلاء الاتهامات وقادوا "حرب تضليلٍ" ضدها، سرعان ما انتقلوا لتصديرها في الرواية الخاصة بحربهم ضد أوكرانيا.
وتأسست هذه المنظمة الإنسانية عام 2013، تحت شعارٍ "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، وقبل أسابيع كانت فرقها ومتطوعوها احتفلوا بعيدهم الثامن. 
يضعون خوذا بيضاء على رؤوسهم ولذلك عرفوا بهذا اللقب. قتل منهم المئات من جراء الضربات الجوية الروسية، بينما كانوا ينفذون مهمة إسعاف الضحايا وتبديد آثار ما خلفته الصواريخ والقنابل العنقودية. ولم يتوقف ذلك عند هذا الحد ليكونوا هدفا بين تصريح وآخر، بتهمة "تمثيل مسرحيات واستفزازات"، وفقا للرواية الروسية.
ولطالما قادت موسكو "حربا إعلامية" ضد هذه المنظمة في سوريا، ولا تزال تستمر بها حتى الآن، لكن ومنذ فبراير الماضي كان لافتا اتجاه المسؤولين الروس لاستنساخها في أوكرانيا، ولاسيما في المحطات التي راح فيها ضحايا مدنيون، ولاحت فيها رائحة "جرائم حرب".
في أواخر شهر أبريل 2022، أي بعد شهرين من بدء الحرب الروسية على أوكرانيا خرج نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي، بتصريح لافت، محذرا "من خطر تدبير نظام كييف برعاية الغرب استفزازات، باستخدام أسلحة الدمار الشامل ولاسيما الكيماوية في أوكرانيا".
وقال في ذات السياق: "المشرفون على نظام كييف يحضرون سيناريو مماثلا لأوكرانيا"، وإن "الخوذ البيضاء وصلوا إلى أوكرانيا"، حسب تعبيره.
وفي تصريح آخر للجنرال إيغور كيريلوف، قائد قوات الدفاع الإشعاعي والكيماوي والبيولوجي الروسية، في أغسطس الماضي، قال إن "تقنيات حرب المعلومات، على غرار استفزاز القنبلة القذرة التي أعدتها كييف، قد تم استخدامها بالفعل في سوريا بمشاركة الخوذ البيضاء".
وما بين هذين التصريحين كانت هناك أخرى خاصة بسوريا، إذ استمرت موسكو بتوجيه الاتهامات للمنظمة الإنسانية، بأنها "تحضّر لاستفزازت كيماوية" في مناطق شمال غربي البلاد. 
علاوة على ذلك، كان القصف الروسي الأخير الذي تعرضت له مخيمات للنازحين في محافظة إدلب، وأسفر عن ضحايا مدنيين قد سبقته تصريحات من هذا القبيل.
وقال نائب رئيس "المركز الروسي للمصالحة" التابع لوزارة الدفاع الروسية، أوليغ إيغوروف، عشية الاستهداف إن "المسلحين، بالتعاون مع منظمة (الخوذ البيضاء)، يخططون لقصف مخيمات اللاجئين في قريتي كفردريان وكفرجالس في محافظة إدلب، لاتهام قوات النظام السوري بذلك".
"مخزون وثائق كبير"
ويتركز عمل "الدفاع المدني السوري" بشكل أساسي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري. وقبل نشاط فرقه في الشمال السوري، كانوا في محافظة درعا وريف محافظة حمص وسط البلاد، وإلى الشرق من العاصمة دمشق، حيث الغوطة الشرقية.
وبينما ينحصر هذا العمل في عمليات الإسعاف الفوري لضحايا القصف ونقل المصابين إلى المشافي الميدانية، يرتبط جزء آخر منه بـ"سياق توثيقي" للجرائم الحاصلة، ومؤخرا في المشاريع الخاصة بـ"التعافي المبكر".
وكان متطوعو "الخوذ البيضاء" شاهدين على القصف الكيماوي الذي استهدف الغوطة الشرقية، عامي 2013 و2018، إضافة إلى القصف بالغازات السامة على مدينة خان شيخون بريف إدلب، في 2017، والكثير من حوادث القصف التي تم تنفيذها بأسلحة أخرى في سوريا.
وتم توثيق أغلب "الاستجابات" عبر كاميرات مثبتة على خوذ المتطوعين، وبالتالي تمتلك المنظمة الإنسانية توثيقا لأغلب الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها روسيا حليفة النظام السوري.
وتحدث مدير "الخوذ البيضاء"، رائد الصالح، أن "الحرب الإعلامية التي شنتها روسيا على مؤسستهم بدأت تظهر بشكل واضح مع تبلور دورها وتحولها إلى مؤسسة في نهاية عام 2014".
بعد هذا العام توسعت أعمالها وانتشرت بأغلب المناطق السورية، لتبدأ "حرب التضليل الإعلامي تأخذ منحى منهجيا ومدروسا من قبل وروسيا، مع تدخلها العسكري المباشر والمعلن لدعم نظام الأسد في قتله السوريين في سبتمبر عام 2015"، كما يقول الصالح.
ويضيف لموقع "الحرة": "ماكينة البروباغندا التابعة لروسيا لم تتوقف يوما عن نشر الادعاءات الكاذبة عن عمل الخوذ البيضاء. هم الشهود الأوائل على الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين، ويمتلكون وثائق وأدلة على جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد وروسيا بحق المدنيين في سوريا".
"كون المتطوعون هو المستجيبون الأوائل، ويتم توثيق أغلب الاستجابات عبر كاميرات مثبتة على الخوذ، لا تدخر الخوذ البيضاء جهدافي عرض هذه الوثائق في أي محفل دولي لإدانة نظام الأسد و روسيا"، وفق المتحدث.
"3 أنواع من الاتهامات"
تتألف كوادر "الخوذ البيضاء" من 3 آلاف متطوع، وأنقذت حسب تعريفها أكثر من 125 ألف شخص من تحت الأنقاض أثتاء القصف الجوي، بينما فقدت 297 فردا من كوادرها خلال أداء واجبهم.
وقد قتل أكثر من نصفهم في ضربات استهدفتهم "عمدا"، وتقول المنظمة إنها "تؤمن بأنه لا سلام مستدام في سوريا من دون مساءلة وعدالة"، ولذلك تعمل على "توفير وثائق انتهاكات حقوق الإنسان لاستخدامها في عمليات المساءلة".
وفي عام 2016 منحت جائزة نوبل البديلة الخاصة بحقوق الإنسان إلى هذه المنظمة، وبعد عام حصل فيلم يحكي قصتها على جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير، خلال الدورة 86 لجوائز الأوسكار.
كما صُنف مديرها الصالح وفق مجلة "تايم" الأميركية، نهاية أبريل 2017، كأحد أكثر 100 شخصية تأثيرا حول العالم، فيما تسلم عن منظمته جائزة "صناع الأمل" في الإمارات، منتصف العام المذكور.
فيما يتعلق بتكرار الاتهامات الروسية ضدهم، يشير الصالح إلى 3 أنواع منها، بقوله إن "التضليل الأول هو إيقاعي، أي يسير وفق رتم ولا يرتبط بأي عامل آخر بمجرد تكرار الكذب".
وتحضر في هذا النوع نظرية جوزيف غوبلز، "بوق الإعلام النازي وذراع هتلر القمعية ضد حرية الفكر والتعبير: اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس. وروسيا والنظام لا يختلفون بشيء عن النازية"، وفق تعبيره.
أما النوع الثاني من "التضليل" فيرتبط بأحداث مباشرة كتحقيقات دولية أو جلسات لمجلس الأمن حول سوريا، أو ظهور أدلة جديدة تدين النظام وروسيا، أو محاولة التغطية على موضوعات مهمة في الشأن السوري، وإما حرف البوصلة عنها أو تبرئة النظام السوري من أي تهمة يتداولها الإعلام.
ويضيف الصالح: "النوع الثالث هو الأخطر على حياة السوريين، إذ تروج روسيا قبل شنها أي هجوم قاتل على المدنيين بأن جهات أخرى تجهز لهذا الهجوم".
ويرى أن "محاولة تشويه صورة متطوعي الخوذ البيضاء طوال سنوات كانت تهدف لرسم صورة ذهنية سلبية، بهدف قطع الطريق أمام وصول الوثائق التي تملكها المؤسسة إلى المحافل الدولية".
لماذا تستهدفها روسيا؟
وتتلقى المنظمة التمويل من عدد كبير من الدول والجهات المانحة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وكندا.
وخضع أفرادها لدورات تدريب على عمليات البحث والإنقاذ والاجلاء في تركيا.
ويتهم النظام السوري وأنصاره مجموعة "الخوذ البيضاء" بأنها "أداة" في أيدي المانحين الدوليين الذين يقدمون الدعم لها، وبأنها "جزء من تنظيم القاعدة"، وكذلك الأمر بالنسبة لموسكو.
بدوره يقول كير جايلز، كبير الزملاء الاستشاريين في برنامج روسيا وأوراسيا في "تشاتام هاوس"، مؤلف كتاب "قواعد موسكو: إن المنظمة "تقدم دراسة حالة حول كيف يمكن لأي فرد أو منظمة، بغض النظر عن أهدافها، أن تصبح هدفا لروسيا".
"روسيا تكرههم وتستهدفهم على وجه التحديد بسبب ما يفعلونه - إنقاذ حياة الأشخاص الذين تحاول روسيا قتلهم".
ويضيف جايلز لموقع "الحرة": "هم بذلك يسلطون الضوء أيضا على الأساليب الوحشية التي تتبعها روسيا، والطريقة التي تسعى بها إلى إخضاع السكان المدنيين، من خلال التسبب في أكبر قدر ممكن من البؤس والمعاناة بينهم".
وذلك ما يتعارض ليس فقط مع قواعد القانون الإنساني الدولي، ولكن أيضا مع أبسط الأخلاق الإنسانية، وفق الباحث الروسي.
وعلى هذا النحو، "تمثل الخوذ البيضاء تحديا لوصف الدعاية الروسية لما تفعله في سوريا وأماكن أخرى – وذلك تنشر روسيا وسائلها العلنية والسرية لتحييد المنظمة وقادتها".
ويوضح جايلز أن الاستهداف الروسي للمنظمة الإنسانية يلبي أهدافا لموسكو "محلية وعالمية".
محليا، "تساعد روسيا في تدمير المجتمع المدني وتجعل الحياة مستحيلة لأي شخص يرغب في مقاومة روسيا وحلفائها".
أما على الصعيدالعالمي، يتابع جايلز: "يخدم الاستهداف أهداف المعلومات الروسية المتمثلة في قمع الحقيقة حول الأساليب التي تستخدمها موسكو لتحقيق أهدافها".
وزاد: "لذا فإن موسكو تستهدف الخوذ البيضاء تماما مثلما استهدفت المنظمات الدولية مثل منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، بوسائل مختلفة فقط - على وجه التحديد لأنها كانت كذلك. تشارك في تسجيل وتوثيق الجرائم الروسية".
"موسكو: فبركات"
في المقابل يقول الباحث السياسي الروسي، أندريه مورتازين، إنهم "يعرفون جيدا من هو جيمس لو ميسورير"، في إشارة منه إلى الضابط السابق في المخابرات الحربية البريطانية، الذي عثر عليه مقتولا بظروف غامضة في نوفمبر 2019 بمدينة إسطنبول.
وكانت الراحلة إليزابيث الثانية كرمت "لو ميسورير" على عمله مع جماعة الدفاع المدني، بعدما أسس جماعة الاستجابات الطارئة المعروفة باسم "ميدي للإنقاذ"، وهي التي تولت تدريب متطوعي "الخوذ البيضاء".
واعتبر مورتازين في حديثه لموقع "الحرة" أن "لو ميسورير تم القضاء عليه في إسطنبول، وهو ضابط في المخابرات البريطانية بصفة ما يسمى الدفاع المدني".
وكرر الباحث الروسي رواية بلاده بأن المنظمة الإنسانية "تعمل لصالح جبهة النصرة، وأنها تبرر الجرائم التي يرتكبها ما يسمى بالمعارضون للنظام السوري"، قائلا: "المعارضون هم الإرهابيون. لم يكن هناك هجوم كيماوي في دوما. هذا كاذب وإدارة المخابرات البريطانية هي من فبركته"، حسب تعبيره.
بدوره يقول مدير المنظمة، رائد الصالح، إن الاتهام الروسي الأسوأ ضدهم "هو محاولة وسمنا بالإرهابيين".
وأوضح: "هذا التوصيف يعني الموت، فهو تبرير للهجمات واستهداف المتطوعين، باعتبار العمال الإنسانيين محيدين بموجب القانون الدولي الإنساني واستهدافهم هو جريمة حرب، بينما عندما يكون هناك محاولات لنزع هذه الصفة عنا يعني ذلك أننا باختصار نتحول لهدف مشروع لهم. هذا ما حاولت روسيا طوال سنوات على صناعته".
ويضيف: "الأدلة التي نمتلكها تشكل مستند قوي وهي ملك للعدالة ولكل السوريين، وسيكون لها دور كبير في محاكمة نظام الأسد وجميع من دعمه. هذا هو الرد على الحرب الإعلامية والتضليل الروسي الذي نقوم به، وهذا الأمر يفهمه الروس جيدالذلك نرى هذه الشراسة في التضليل".
"تنميط صورة"
ومنذ شهر فبراير الماضي سلط الكثير من وسائل الإعلام الغربية الضوء على أوجه التشابه بين الحرب التي قادتها روسيا في سوريا، والتي تواصلها الآن في أوكرانيا.
وحتى أن جزءا من هذه التقارير شرح كيف أن فلاديمير بوتين بات يستخدم "دليل الحرب السورية" في سياق ما بدأه ضد كييف.
ومن الساحة الأولى إلى الثانية نقلت الدفاع الروسية عتادا عسكريا وأنظمة دفاع جوي، بينما اعتمدت على قادة عسكريين على الأرض، سبق أن تولوا مهاما بعد التدخل في سوريا عام 2015.
ولطالما وصف النظام السوري نشطاء المعارضة بأنهم "إرهابيون"، بينما قال عن المنظمات الإنسانية والحقوقية السورية الخارجة عن نطاق سيطرته بأنها "عميلة للخارج".
وأيدت روسيا هذا المسار في سوريا لسنوات طويلة، خاصة فيما يتعلق بالهجمات الكيماوية التي ثبت ضلوع النظام السوري بتنفيذها، حيث ذهبت لمهاجمة منظمة "الدفاع المدني السوري"، وحاولت تشويه صورتها بـ"تصاريح الفبركة والتضليل".
وفي السياق الإعلامي الذي ارتبط إلى حد كبير بين سوريا وأوكرانيا، كانت "الخوذ البيضاء" قاسما مشتركا حاولت موسكو الزج بها في محطات كثيرة، وعلى لسان مسؤوليها.
ويرى رائد الصالح أن "روسيا حاولت تنميط مصطلح الخوذ البيضاء وربطه بالتزييف والفبركة والإرهاب، لتشكل حالة في اللاوعي الجمعي للجمهور الغربي بشكل خاص، وترسم في أذهانهم هذه المصطلحات الثلاث عند ذكر اسم المؤسسة".
وتسعى موسكو من ذلك، وفق الصالح، إلى تحقيق "هدفين أساسيين"، الأول هو التشويش على الجرائم التي ترتكبها بحق السوريين، والثاني هو استخدام هذا التنميط في حربها العابرة للحدود".
"رأينا كيف لجأت للزج باسم الخوذ البيضاء معتمدة على التنميط الذي صنعته طوال سنوات عن المؤسسة، للادعاء بأن المشاهد في أوكرانيا أيضا مفبركة".
ويقول الصالح: "ما تقوم به روسيا عملية ممنهجة، معتمدة على نظرية الطرق في الاتصال الجماهيري بتكرار الاتهامات على مدى طويل، لتتحول عند الجمهور إلى حقائق لا يجادل فيها بسبب كثرة استخدامها".
"الدفاع المدني السوري اليوم لم يعد يمثل مجرد مؤسسة تنقذ الأرواح، وتقدم الخدمات. باعتقادي بات يمثل اليوم حالة أنتجها مشروع التغيير والتحول الديمقراطي في سوريا الذي بدأ عام 2011".
واعتبر الصالح أن "هذه الحالة باتت اليوم تحمل شعلة العدالة مع منظمات حقوقية أخرى، وتمثل حالة فريدة تحتاجها المجتمعات. قتل هذه الرسالة أو إخمادها لن يكون بتلك السهولة".