الرئيسة \  واحة اللقاء  \  آفاق الحل السياسي في الصراع السوري

آفاق الحل السياسي في الصراع السوري

28.12.2013
لؤي صافي



الحياة
26/12/2013
يكثر الحديث اليوم عن حل سياسي للصراع الدموي في سورية والذي راح ضحيته أكثر من مئة وعشرين ألف قتيل من المدنيين وأكثر من أربعين ألفاً من مرتبات الجيش. الحل السياسي الذي يحقق أهداف الثورة في الانتقال إلى نظام ديموقراطي وينهي نزيف الدم السوري المستمر منذ قرابة ثلاث سنوات هو الحل الأمثل لهذا الصراع. السؤال الذي يدور في الأذهان ويتردد على الألسن هو سؤال الإمكان: هل الحل السياسي للصراع العسكري في سورية ممكن؟
من المفيد قبل النظر في إمكان الوصول إلى حل سياسي أن نتحدث عن معنى الحل السياسي الذي يمكن أن يخرج البلاد من حالة الاستقطاب الشديد بين مكونات المجتمع السوري ويضعها على بداية طريق المصالحة الوطنية، ويسمح بتجاوز حالة الاستبداد وما رافقها من استقطاب طائفي والتي ولدتها ممارسات نظام الأسد منذ مطلع سبعينات القرن الماضي.
الإطار النظري للحل السياسي في سورية يعني إنهاء الاقتتال بين قوات النظام وحلفائه من جهة، والكتائب المقاتلة لإسقاطه بمختلف أصنافها واصطفافاتها، والوصول إلى بنية سياسية وآليات عمل مشتركة تسمح بحل الخلافات القائمة بين الأطراف سلمياً ومن دون اللجوء إلى القوة واستخدام العنف لفرض رأي أو رؤية يحملها طرف من أطراف الصراع على الآخر. وهذا يعني بطبيعة الحال نقل القرار السياسي من العسكريين والمقاتلين إلى السياسيين والشخصيات الوطنية التي تمثل القوى المتصارعة. البنية السياسية المطلوبة للوصول إلى الحل السياسي يجب أن تعطي مكونات الشعب السوري المختلفة حيزاً كافياً من الحريات يضمن عدم تحكم أي مكون في الممارسات الاجتماعية والثقافية والدينية للمكونات الأخرى، وآليات العمل المشترك هي آليات القرار الديموقراطي عبر صناديق الاقتراع والمشاركة الحرة في الحياة السياسية.
ثمة تقاطعات كبيرة بين القوى السياسية والاجتماعية المتصارعة على الإطار العام للحل السياسي. فالنظام وأعوانه يتحدثون عن الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لاختيار القيادة السياسية، وهم لذلك يطالبون المعارضة بقبول مسألة تحديد مصير بشار الأسد من خلال صناديق الاقتراع. المشكلة هنا أن النظام السوري بتركيبته الحالية غير قادر على إجراء انتخابات حرة ونزيهة من جهة، وأن اختيار النظام لطريق الحسم العسكري للتعامل مع الدعوات الإصلاحية يجعل مسألة القبول بالأسد على رأس دولة ساهم بتدميرها أمراً مستحيلاً.
قوى المعارضة دعت نظام الأسد منذ بداية الصراع السياسي وقبل تحوله إلى صراع عسكري إلى إدخال إصلاحات سياسية ودستورية وبدء حياة ديموقراطية تسمح بالمشاركة السياسية الواسعة وإنهاء نظام الحزب الواحد وحكم القائد الرمز المتعالي فوق الحياة السياسية الذي بدأ مع تولي الأسد الأب مقاليد السلطة في القرن الماضي. وبطريقة مشابهة، ولكنها بالتأكيد غير مطابقة، تحدثت القوى المقاتلة ذات النزعة الإسلامية عن نظام يقوم على الشورى والانتخابات التي تفرز القيادة السياسية، ولكنها تختلف في فهمها لمعنى الشورى وآليات الانتخاب وصلاحيات ممثلي الشعب (وفق مفهوم أهل الحل والعقد التاريخي) وفق طرح فضفاض لتحكيم الشريعة في الحياة العامة.
وعلى رغم تسليمنا بوجود صعوبات عدة ومهمة في التوافق على إطار نظري لحل الأزمة، فإن بذور التوافق النظري موجودة، على الأقل على مستوى القيم الأساسية، مثل المساواة والمشاركة والمساءلة والحريات والعدالة الإجرائية والاجتماعية. هذا التشارك القيمي يحتاج بطبيعة الحال إلى تفسير بنيوي وتنظيمي، مما يتطلب دخول الأطراف في حوار واسع ومتعدد المستويات لتوضيح المفاهيم والتصورات والتعاطي مع المخاوف والتحفظات والوصول إلى لغة سياسية مشتركة تسمح ببدء حياة سياسية في المجتمع السوري بعد انقطاع دام نصف قرن مذ أن تولى حزب البعث السلطة في البلاد.
الصعوبة الأساسية اليوم في الوصول إلى حل سياسي هي غياب القوى السياسية المؤثرة التي تؤمن بالحل السياسي والقادرة في الوقت نفسه على توفير الأجواء السياسية والأمنية، وتسهيل سبل الحوار بين الأطراف المتنازعة للوصول إلى إطار سياسي مشترك ولغة سياسية مشتركة. فالقوى الإقليمية والدولية القادرة على ممارسة هذا الدور تنقسم إلى قسمين: من يسعى إلى حل عسكري ويرى في الحديث عن حل سياسي وسيلة لإطالة أمد الصراع والاختباء خلف موقف أخلاقي لرفع اللوم عنه وعن خياره الدموي، ومن يؤمن بالحل السياسي ولكنه لا يسعى بالضرورة إلى تحقيق تحول ديموقراطي.
فروسيا وإيران تنظران إلى سورية من منظار جيوسياسي باعتبارها منطقة نفوذ ونقطة ارتكاز متقدمة في الصراع مع الولايات المتحدة وحلفائها. التدمير الكبير في البنية التحتية لسورية والخسائر البشرية الهائلة والحالة الإنسانية المتدهورة في البلاد أمور لا تحتل موقعاً متقدماً على قائمة أولويات روسيا وإيران. روسيا ترى في سورية قاعدة متقدمة لمواجهة النفوذ الأميركي وحليفاً مهماً ضد التعاطف السنّي مع الجمهوريات الإسلامية الغنية بالنفط والراغبة في تحقيق مزيد من الاستقلال عن الهيمنة الروسية. وعلى رغم أن هذا التعاطف موهوم ومبالغ به إلى حد بعيد، إلا أنه يشكل جزءاً من المخاوف الروسية من التيارات الإسلامية الناشطة في المنطقة العربية التي تفهم عادة في روسيا من خلال تجربة حرب الشيشان. في حين ترى إيران في سورية ممراً مهماً للسلاح إلى جنوب لبنان، وفي النظام السوري شريكاً لتسهيل توسع النفوذ الإيراني من خلال التوسع الشيعي ودعم الأقليات الشيعية في سورية والمشرق العربي.
الغرب بقيادة الولايات المتحدة محكوم من جهة أخرى في تعاطيه مع الشأن السوري بالتزاماته بحفظ أمن إسرائيل من جهة والصراع مع المنظمات الإسلامية المتطرفة والمتحالفة مع تنظيم "القاعدة". إضعاف نظام الأسد واحتواء البرنامج النووي الإيراني كانا في مقدم العوامل التي وجهت سياسة أوباما في السنتين الأوليين من الثورة. في حين أصبح هاجس "القاعدة" وحلفائها في سورية العنصر الأساسي في تحركات الولايات المتحدة الأخيرة في ما يتعلق بالملف السوري، كما كان تزايد تأثير الحركات الإسلامية الدافع الرئيسي لتحركها لإنهاء الحرب في البلقان في منتصف التسعينات.
الموقف الأميركي من الصراع السوري أضعف مواقف حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة المتعاطفين مع الثورة السورية، وبشكل خاص موقف تركيا وقطر (حليف تركيا الرئيسي) في التعاطي مع ثورات الربيع العربي من جهة، والسعودية ودولة الإمارات من جهة أخرى. الموقف الأميركي دعا السعودية إلى اتخاذ موقف متمرد على الموقف الأميركي والذي برز في رفض توليها مقعد العضو غير الدائم في مجلس الأمن، وذلك عقب تراجع أوباما عن ضرب نظام الأسد ودخوله في صفقة مع إيران.
من جهة أخرى كان للتغييرات في التحالفات العسكرية أثرها على الأرض. فقد انفصلت أكبر المجموعات العسكرية التابعة لـ "الجيش السوري الحر"، وفي مقدمها لواء التوحيد ولواء الإسلام، عن هذا الجيش وقررت الالتحاق بـ "الجبهة الإسلامية" التي تشكلت أساساً من لواء صقور الشام ولواء أحرار الشام والتي أخذت موقفاً رافضاً للائتلاف الوطني السوري.
أما الائتلاف الوطني، الجبهة الأوسع في صفوف المعارضة السياسية، فلم يتمكن من تحقيق مستوى أدنى من التنسيق مع القوى العسكرية الرئيسية في الداخل. بل إن العلاقة بين الائتلاف وهيئة الأركان من جهة، وقيادات الكتائب الإسلامية المقاتلة ازدادت توتراً خلال الأشهر القليلة الماضية، بعد أن عجز الائتلاف عن إيجاد آليات للتواصل والتشاور مع هذه القوى نتيجة الاستقطاب السياسي الحاد داخل الائتلاف والذي عكس الاستقطاب السياسي الإقليمي بين القوى الإقليمية المؤيدة للثورة السورية.
تراجع دور القوى العسكرية والسياسية السورية نتيجة تحالفات مع دول إقليمية متصارعة على الساحة السورية، يجعل الوصول إلى حل سياسي أمراً بالغ التعقيد. ويبدو أن أوراق الحل السياسي انتقلت من أيدي السوريين، سواء كانوا في المعارضة أو النظام، إلى أيدي القوى الإقليمية والدولية التي لم تكن منذ البداية معنية بالتحول الديموقراطي أو الحل السياسي، بل بصراعاتها الجيوسياسية والأيديولوجية. أعمال القتل والتدمير المتزايدة في سورية مع اقتراب مؤتمر جنيف تظهر أن الحل السياسي ليس هو الهم الرئيسي للقوى المتصارعة، بل خوض حرب بالوكالة للدفع بالمشاريع الإقليمية والدولية.
الهوة الكبيرة والمتزايدة بين قيادات الائتلاف الوطني والجبهة الإسلامية تضعف موقف المعارضة السورية وتنقل الثقل في مفاوضات جنيف إلى الدولتين الراعيتين لهذا المؤتمر. اتفاق الدولتين على عقد المفاوضات لا يعني وجود تفاهم تفصيلي حول أهداف المؤتمر. ففي حين تصر روسيا على أن المفاوضات غير مشروطة وأن كل الخلافات بين النظام والمعارضة قابلة للنقاش، تؤكد الولايات المتحدة، نزولاً عند رغبة الائتلاف، أن المفاوضات تهدف إلى قيام هيئة حكم انتقالية بكامل الصلاحيات التنفيذية.
الموقف الأميركي لا يزال يلفه الكثير من الغموض. فوزير الخارجية جون كيري والسفير الأميركي في سورية، روبرت فورد، يدعمان مطالب الائتلاف، ويدعوان إلى استبدال بشار الأسد والدخول في عملية انتقالية نحو نظام ديموقراطي. ولكن موقف المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي المتماهي مع الموقف الروسي، والمصر على الدخول في محادثات غير مشروطة وعلى مشاركة إيران في محادثات جنيف، ورفضه انفراد الائتلاف في تمثيل المعارضة السورية، يزيد من ضبابية الموقف الأميركي. ذلك أن قدرة الولايات المتحدة على التأثير في مواقف مسؤولي الأمم المتحدة، وجميع المبعوثين الأمميين خاصة في قضايا حساسة بالنسبة للولايات المتحدة، معروفة لدى الجميع، ومن المستبعد أن يستطيع الإبراهيمي الاحتفاظ بموقعه كل هذه الفترة من دون موافقة أميركية ضمنية.
هذا يعنى أن قدرة المعارضة السورية على استرداد زمام المبادرة، والاستفادة من الخلافات الدولية والإقليمية، تتوقف على قدرتها على العمل كجبهة واحدة. ومع الأسف لا يزال هذا المشهد بعيد الاحتمال نتيجة الاستقطابات الحادة داخل أروقة المعارضة السياسية والعسكرية، واستمرار الاصطفاف الإقليمي وغياب الراعي الدولي الملتزم بالتحول الديموقراطي في سورية.
توحيد صفوف المعارضة السياسية والعسكرية يمثل الأمل الوحيد المتبقي لتغيير الحراك الحالي وفرض واقع سياسي وعسكري جديد يدفع بالقوى الدولية إلى قبول عملية التحول الديموقراطي، وممارسة الضغوط اللازمة على نظام الأسد للوصول إلى حل سياسي ينهي الاستبداد ويعلن بداية الحياة السياسية الحرة والكريمة في سورية.
فهل يرتفع السياسيون والثوار السوريون إلى مستوى المسؤولية الوطنية والتاريخية؟