الرئيسة \  رؤية  \  أدب وسياسة ... مصابي جليل والعزاء جميل

أدب وسياسة ... مصابي جليل والعزاء جميل

19.09.2019
زهير سالم




كثيرا ما أستيقظ وقد طفا على سطح الذاكرة بعض ما أحفظ من المأثور أو من الشعر، محفوظاتي قديمة لعل كل علوم الإنسان لا تعلم حتى اليوم كيف يتم استدعاؤها ، وما هي الآلية التي تدفعها من عمق الوعي إلى أعلاه . وما يطفو على سطح ذاكرتي عند الفجر يغلبني على أمري سائر اليوم ، فأظل أردده بوعي أو بغيره ، حتى أقول ليتني كففت .
استيقظت هذا الصباح وقد طفا على سطح الذاكرة بيت من قصيدة أبي فراس " مصابي جليل والعزاء جميل "ثم أخذت الأبيات تتوالى فقد كانت قصائد أبي فراس من جميل ما حفظت منذ نصف قرن . . وتتلكأ الذاكرة حينا فأحثها حتى إذا أجبلت رجعت إلى الديوان فوجدتها كأنها تحكي عن حالنا نحن السوريين اليوم ، حال كل أسير بل حال كل مهجر وغريب وحال كل من خُدع واستُزل فزل..
وكان أبو فراس الحمداني قد وقع في أسر الروم ، وهو يحارب في جيش ابن عمه سيف الدولة ، وأبطأ سيف الدولة في فدائه في قصة طويلة تستحق الإفراد بالدراسة فنظم من محبسه ما سمي " الروميات " من أروع القصائد الموشاة بالنزعة الإنسانية ، والشكوى من تقلب الزمان بأهله ، مع اعتزاز بالمروءة وكرم النفس..
القصيدة التي قالها فارس حلب في القرن الرابع الهجري كأنها قيلت اليوم . يستطيع كل سوري أن ينشدها ويسقطها على حاله : عظم المصاب ، وتقلب الزمان ، وتغير الأصحاب ، وقلة الوفاء ، ونكران المعروف ، ثم التأسي بأمير المؤمنين علي وأخيه عقيل ، وبالزبير وأخيه ، وأسماء وابنها ويعطف الشاعر على ذكر أمه ومأساتها وبلاءه وما نزل به ثم العودة إلى الأم الصابرة المنتظرة ..
أعلم أن كثيرا من أبناء هذا الجيل لا يهتمون بالشعر ، ولا يطربون له ، ولا يتفاعلون معه ، ولكنني أزعم أن حكاية الوفاء والنكران في هذه القصيدة حكاية لحالة إنسانية عامة مكرورة على مر الزمان ..ما شذ عنها إلا محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، يوم قال للأنصار رضي الله عنهم ، بعد أن لقي قومه ففرحوا به وفرح بهم : بل الدم الدم ..والهدم الهدم . يقصد دمكم دمي . وهدمكم هدمي ..
ويبقى الناس هم الناس . ينظر أحدهم إلى الآخر كأنه البرتقالة فإذا تمكن منه ، تحت أي عنوان ، أثخنه عصرا ثم قالوا : تفل ورموها . والمغرور من غره منهم أحد .
أترككم مع الأبيات .. وأتمنى على كل من رزقه الله صوتا جميلا أن يسمعنا هذه الأبيات آهات وأنات ، لعلها تكون تأساء وتعزية للقلوب المعذبة الكسيرة ...
 
مُصَابي جَلِيلٌ، وَالعَزَاءُ جَمِيلُ
مُـصَـابـي جَلِيلٌ، وَالعَزَاءُ iiجَمِيلُ
جِـرَاحٌ، تـحَامَاها الأُسَاةُ، iiمَخوفَةٌ
و أسـرٌ أقـاسـيهِ ، وليلٌ iiنجومهُ
تطولُ  بي الساعاتُ ، وهي قصيرة
تَـنَـاسَانيَ الأصْحَابُ، إلاّ iiعُصَيْبَةً
ومن ذا الذي يبقى على العهدِ إنهمْ
أقـلبُ  طرفي لا أرى غيرَ iiصاحبٍ
وصـرنا  نرى أن المتاركَ iiمحسنُ
فـكـلُّ  خليلٍ ، هكذا غيرُ iiمنصفٍ
نعمْ  ، دعتِ الدنيا إلى الغدرِ iiدعوة
وَفَـارَقَ  عَمْرُو بنُ الزّبَيرِ iiشَقِيقَهُ،
فَـيَـا حَسْرَتَا، مَنْ لي بخِلٍّ iiمُوَافِقٍ
وَإنّ،  وَرَاءَ الـسّـتْرِ، أُمّاً iiبُكَاؤهَا
فَـيَـا أُمّتَا، لا تَعْدَمي الصّبرَ، iiإنّهُ
وَيَـا  أُمّـتَا، لا تُخْطِئي الأجْرَ iiإنّهُ
أمـا  لكِ في "ذاتِ النطاقينِ" iiأسوةٌ
أرَادَ ابـنُـها أخْذَ الأمَانِ فَلَمْ iiتُجبْ
تـأسّـيْ كَـفَاكِ الله ما iiتَحْذَرِينَهُ،
وكـونـي كما كانتْ "بأحدٍ" iiصفيةٌ
ولـوْ  ردَّ يوماً حمزةَ الخيرِ حزنها
لَـقِيتُ  نُجُومَ الأفقِ وَهيَ iiصَوارِمٌ،
وَلـمْ  أرْعَ لـلنّفْسِ الكَرِيمَةِ iiخِلّة،
ولـكنْ  لقيتُ الموتَ، حتى iiتركتها
ومـنْ  لـمْ يـوقَ اللهُ فهوَ ممزقٌ
ومـنْ لمْ يردهُ اللهُ ، في الأمرِ iiكلهِ























 
وَظَـنّـي  بِـأنّ الله سَـوْفَ iiيُدِيلُ
وسـقـمانِ  : بادٍ ، منهما iiودخيلُ
أرَى  كُـلّ شَـيْءٍ، غَيرَهُنّ، يَزُولُ
وفـي كـلِّ دهـرٍ لا يـسركَ طولُ
سـتلحقُ بالأخرى ، غداً ، iiوتحولُ
وإنْ كـثـرتْ دعـواهـمُ ، iiلقليلُ
يـمـيـلُ  معَ النعماءِ حيثُ iiتميلُ
وَأنّ صَـدِيـقـاً لا يُـضِـرّ iiخَلِيلُ
وَكُـلّ  زَمَـانٍ بِـالـكِـرَامِ iiبَخِيلُ
أجـابَ  إلـيـهـا عالمٌ ، وجهولُ
وَخَـلـى أمِـيـرَ المُؤمِنِينَ iiعَقِيلُ
أقُـولُ بِـشَـجـوِي، مَرّةً، iiوَيَقُولُ
عَـلَـيّ،  وَإنْ طالَ الزّمَانُ، iiطَوِيلُ
إلـى الخَيرِ وَالنُّجْحِ القَرِيبِ iiرَسُولُ
عـلـى  قدرِ الصبرِ الجميلِ iiجزيلُ
"بـمـكـةَ" والحربُ العوانُ iiتجولُ
وتـعـلـمُ ، عـلـمـاً أنهُ iiلقتيلُ
فـقَـد  غالَ هذا النّاسَ قبلكِ iiغُولُ
ولـمْ يـشـفَ منها بالبكاءِ iiغليلُ
إذاً  مَـا عَـلَـتْـهَـا رَنّةٌ وَعَوِيلُ
وَخُـضْتُ  سَوَادَ اللّيْلِ، وَهْوَ iiخيولُ
عـشـيـةَ لـمْ يعطفْ عليَّ iiخليلُ
وَفِـيـهـا  وَفي حَدّ الحُسَامِ iiفُلولُ
ومـنْ  لـمْ يـعزِّ اللهُ ، فهوَ iiذليلُ
فـلـيـسَ لـمـخلوقٍ إليهِ iiسبيلُ
 
لندن : 19 محرم / 1441
18/ 9/ 2019
____________
*مدير مركز الشرق العربي