الرئيسة \  تقارير  \  أسباب للقبول بحياد أوكرانيا: لن يكون إبرام صفقة حكما بالإعدام

أسباب للقبول بحياد أوكرانيا: لن يكون إبرام صفقة حكما بالإعدام

22.03.2022
آرون ويس ميتشل


ترجمة: علاء الدين أبو زينة
آرون ويس ميتشل – (فورين أفيرز) 17/3/2022
الاثنين 21/3/2022
في خطابه الموجه إلى الكونغرس الأميركي الأسبوع الماضي، دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى توسيع الدعم الأميركي، بما في ذلك تقديم أسلحة إضافية ومنطقة حظر للطيران يفرضها الناتو، بينما تواصل بلاده قتالها ضد الغزاة الروس. ولكن، حتى أثناء القتال، يقوم الأوكرانيون أيضا باستكشاف مخارج أخرى لإنهاء الصراع -بما في ذلك احتمال قبول فكرة الحياد. والحياد هو وضع في القانون الدولي يلتزم بموجبه بلد ما بعدم الدخول في تحالفات أمنية دولية؛ وبالنسبة لأوكرانيا، من المحتمل أن يعني ذلك التخلي عن أي مستقبل مع حلف الناتو وعدم السماح بوجود قواعد عسكرية أجنبية على الأراضي الأوكرانية.
في حين أن الحياد قد ينطوي على مخاطر، فإنه لا يجب أن يكون بالضرورة حكما بالإعدام على أوكرانيا. قد يكون، في الواقع، أفضل نتيجة ممكنة بالنظر إلى الوضع الذي وصلت إليه الأمور بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من الحرب. وسيكون المفتاح لتفعيل حياد أوكرانيا هو تشكيلها بطريقة تضمن أن لا يأتي تخليها عن عضوية الناتو على حساب قدرة الدولة على الدفاع عن نفسها أو الآفاق المتعلقة بصنع مستقبل اقتصادي وسياسي لنفسها في الغرب. وقد يكون تحقيق مثل هذه النتيجة ممكنا بفضل الميزة التي يوفرها الأداء العسكري الأوكراني القوي لزيلنسكي على طاولة المفاوضات؛ وقد تصبح الفكرة مقبولة بشكل متزايد بالنسبة لموسكو إذا استمر الجيش الروسي في إثبات عدم قدرته على تحقيق أهدافه في ساحة المعركة.
عقارات مهمة              
ظهر مفهوم الحياد كطريقة لإحلال السلام في المواقف التي تنطوي على خطر إثارة الصراع بين القوى العظمى، تمامًا مثل الموقف الحاضر في أوكرانيا اليوم. وسبق أن استخدمت دول أوروبية أخرى الحياد من أجل تجنب احتوائها من قبل جار أكبر وأصبحت أعضاء مزدهرة في المجتمع الأوروبي. وقد مُنح وضع الحياد لسويسرا وبلجيكا بعد الحروب النابليونية لتجنب التوسع العسكري الفرنسي المتجدد. واكتسبت النمسا وفنلندا وضعًا مشابهًا بعد الحرب العالمية الثانية خوفًا من التعرض للاستعياب أو التقسيم على يد الاتحاد السوفياتي. وتشترك هذه الدول الأربع جميعًا في ميزة شَغل عقارات حيوية من الناحية الاستراتيجية، والتي تعتبر ذات قيمة أكبر من أن تتنازل عنها إحدى القوى للأخريات -وإنما التي يصعب الحفاظ عليها لفترة طويلة جداً أيضاً.
ربما تكون الحالتان الفنلندية والسويسرية هما الأكثر صلة بأوكرانيا، لأن كلا البلدين اتبع ما يمكن تسميته “الحياد المحصّن” (لا ينبغي الخلط بينه وبين “الحياد المسلح”، الذي يشير إلى دولة تبقى خارج نزاع بين طرفين متحاربين لكنها مستعدة للدفاع عن نفسها ضد كليهما). أما الحياد المحصن فيشير إلى دولة تتحتفظ ببوليصة تأمين في شكل جيش قوي في حالة دائمة من الاستعداد العالي، والسمعة الطيبة، على أساس التضاريس أو الانتماء الوطني، لإلحاق هزائم مؤلمة بأي معتد محتمل.
يمكن أن يكون الحياد المحصن حالة نهائية قابلة للتحقيق وقابلة للحياة في أوكرانيا اليوم. ويمكن أن يتبنى هذا الحياد وثيقة شبيهة بمعاهدة الدولة النمساوية للعام 1955، التي تنص على أنها ستتخلى عن العضوية في المنظمات الأمنية الدولية، بشرط خروج القوات الروسية من أراضيها. وإلى جانب عدد من الأمور الأخرى، يمكن أن تسمح المعاهدة أيضًا بالوصاية الدولية على مفاعلاتها النووية الخمسة عشر، نظرًا للخطر الواضح الذي تشكله هذه المفاعلات على البلدان المجاورة في حالة تجدد الصراع. ومع ذلك، يظل بإمكان البلاد الاحتفاظ بجيش كبير مزود بأسلحة غربية وتعزيزه بالتدريب، ويمكن أن تصبح أوكرانيا في النهاية عضوا في الاتحاد الأوروبي.
ما تحتاجه أوكرانيا
لكي يعمل الحياد المحصّن، سوف تحتاج أوكرانيا إلى ثلاثة أشياء. الأول هو نوع من الضمان لاستمرار وجودها بمجرد قبولها الحياد. ويمكن أن يتخذ هذا الضمان شكل معاهدة إطارية يلتزم فيها جيران أوكرانيا، إلى جانب الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، بالدفاع عنها إذا تعرضت للغزو. لكن الضمانة الأكثر أهمية -بالنظر إلى تجربة أوكرانيا مع مذكرة بودابست التي انتهت صلاحيتها الآن، والتي ضمنت السيادة الأوكرانية مقابل تخلي كييف عن الأسلحة النووية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي- ستأتي في شكل جيش كبير، غني بالأسلحة الدفاعية التي يقدمها الغرب. وبناءً على ذلك، سوف تحتاج المعاهدة الإطارية -ليس إلى تكريس حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها فحسب، ولكن أيضًا التزام بدعم تطوير جيشها بالمساعدات الأجنبية وشراء الأسلحة.
ثمة متطلب آخر هو الفضاء المادي. ويشكل الفضاء بالنسبة لأوكرانيا ما تشكله الجبال بالنسبة لسويسرا والبحيرات بالنسبة لفنلندا: الميزة الجغرافية التي تمنحها فرصة للدفاع عن نفسها ضد القوى الأكبر. وفي ظل عدم وجود عقبات طبيعية، يسمح اتساع أوكرانيا لجيشها بالدفاع في العمق ومقايضة المساحة بالوقت ضد مهاجم روسي أقوى. وعلاوة على ذلك، تسمح الكتلة الأرضية الكبيرة لأوكرانيا لها بإدامة القاعدة الديموغرافية والمالية لجيش دائم كبير. وبالتالي سيكون من الضروري أن تحتفظ أوكرانيا بالجزء الأكبر من أراضيها في تسوية تفاوضية. وهذا يعني أن مكاسب روسيا يجب أن تقتصر إلى حد كبير على الأراضي التي كانت تسيطر عليها قبل الحرب -أي شبه جزيرة القرم والأراضي الشرقية الانفصالية في لوهانسك ودونيتسك. وقد أشار زيلينسكي إلى الانفتاح على مثل هذه النتيجة، والتي من المحتمل أن تستلزم الموافقة على الاعتراف بشبه جزيرة القرم كأراضٍ روسية ومنح وضع الحكم الذاتي للوهانسك ودونيتسك، في انتظار إجراء استفتاء تديره الأمم المتحدة يكون من شأنه التأكد من رغبات السكان المحليين وتوفير الحماية لحقوق الأوكرانيين الذين يعيشون في هذه الأراضي. ويمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تقوية موقف زيلينسكي من خلال تعليق شرط رفع العقوبات على انسحاب روسيا من جميع الأراضي التي احتلتها خلال الحرب.
أخيرًا، سيتطلب موقف الحياد المحصن لأوكرانيا حصولها مساعدات اقتصادية مستدامة من الغرب. وفي حين أن تصرفات بوتين تستدعي بالتأكيد دفع تعويضات روسية لأوكرانيا (والتي يمكن أن يسعى الأوكرانيون إلى تحصيلها بشكل غير مباشر من الأصول الروسية المصادرة في الغرب)، فإن التعويضات الرسمية غير مرجحة، لأن من المرجح أن يظل بوتين راسخاً في السلطة حتى في حالة الخسارة العسكرية. وعلى أي حال، سوف يترأس على اقتصاد منهك. ولكي يكون لديها أي أمل في إعادة البناء الاقتصادي، ستحتاج أوكرانيا إلى مساعدات طويلة المدى لإعادة الإعمار، والتي يمكنها، من بين أمور أخرى، ضمان أن تكون الدولة قوية بما يكفي للدفاع عن نفسها ضد تدخل روسي في المستقبل. ويجب أن يلعب الاتحاد الأوروبي الدور الرائد في إعادة بناء أوكرانيا، بمساعدة الولايات المتحدة واليابان؛ كما سيحتاج أيضًا إلى تطوير مسار قابل للتطبيق لأوكرانيا نحو عضوية الاتحاد الأوروبي. وعلى عكس الناتو، فإن الاتحاد الأوروبي ليس تحالفًا أمنيًا دوليًا، ولهذا يجب أن تعترف المعاهدة الإطارية بحق أوكرانيا في متابعة مساعي العضوية في المنظمات السياسية والاقتصادية. وسوف يساعد منح الأوكرانيين آفاق مستقبل كهذا، مهما كان بعيدًا، في منعهم من الاستسلام ببساطة والموافقة على مستقبل في المجال الروسي، مثل بيلاروسيا.
في حال تحقق جميع الضمانات الثلاثة -الدفاع عن النفس، والاحتفاظ بمعظم الأراضي الأوكرانية، وإعادة البناء الاقتصادي- يجب أن يكون الهدف من العمل السياسي الغربي -ليس استمرار وجود أوكرانيا ذات سيادة فقط، ولكن أيضًا أن تكون لديها إمكانية جيدة للاستدامة. وبخلاف ذلك، حتى الجهود الأكثر إلهامًا ستصل إلى أكثر قليلا مما قدمه الألمان في فترة ما بين الحربين العالميتين، الذين وصفوا الدول الصغيرة التي تم إنشاؤها بموجب “معاهدة فرساي”، بأنها (دولة لموسم واحد) –وهي بناء يعتمد وجوده على الطقس الجيد، ومصيره الموت بمجرد أن يتعافى المعتدي.
أفضل حاصل ممكن
لن يكون التوصل إلى اتفاق قابل للتطبيق بشأن الحياد الأوكراني أمرا سهلا، ولكن، هناك سبب وجيه للاعتقاد بأنه قد يصبح ممكنا. فقد أجبرت الانتكاسات الروسية بوتين على تقليص مطالبه مسبقاً، بما في ذلك التخلي عن إصراره على نزع سلاح أوكرانيا وعزل زيلينسكي من منصبه. وهذا هو السبب في أن تسليح أوكرانيا حتى النخاع وفرض عقوبات مؤلمة على روسيا ستظل أموراً بالغة الأهمية، حتى عندما يكون الهدف النهائي هو الحياد. وما لم يتحسن أداء جيشه الذي ما يزال حتى الآن سيئاً للغاية، يغلب أن يصبح بوتين أكثر استعدادًا لتسوية تفاوضية.
كيف يمكننا الوصول إلى مثل هذه التسوية من هنا؟ إذا توقفت الجهود الروسية الأوكرانية المباشرة للوصول إلى اتفاق، فسيكون السبيل الأكثر ترجيحًا هو التواصل عبر وسيط يثق به الطرفان -مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، الذي يحتفظ بعلاقة وثيقة مع كل من بوتين -وعلى الرغم من التوترات الأخيرة، مع زيلينسكي. وثمة نافذة فرصة محتملة أخرى من خلال الحاجة إلى إجراء مناقشات حول تأمين المفاعلات النووية الأوكرانية التي يمكن أن يكون انصهار أي منها كارثة بأبعاد دولية، والتي تبدأ بوقف إطلاق النار للسماح للفرق الدولية باتخاذ مواقع لها في المفاعلات بينما يتم إجلاء المدنيين من المدن الأوكرانية. وسيوفر كلا الإجراءين فرصًا لتقييم حسن نية روسيا؛ وإذا تبين أنها تحترم وقف إطلاق النار، يمكن للمحادثات أن تمضي قدما نحو توسيع جدول الأعمال السياسي بالتدريج، بدءا من مجالات الاتفاق التي يبدو الآن أنها تتضمن وضع الحياد لأوكرانيا ومستقبل المناطق الشرقية.
بطبيعة الحال، من الممكن أن ينتهك بوتين وقف إطلاق النار المفترض كما فعل مع سابقاته. لكن الخسائر المستمرة للحرب ومخاطر التصعيد تعطي سببًا وجيهًا للمحاولة. وحتى لو انتهك بوتين محاولة لوقف إطلاق النار من هذا القبيل، فمن المحتمل أنه لن يجد أمامه خياراً في نهاية المطاف سوى التحرك نحو قبول الحياد المحصَّن لأوكرانيا، لسبب بسيط هو أن جيوشه غير قادرة على إخضاع البلد بالوسائل العسكرية. ومن المحتمل أيضًا أنه حتى لو تصالح مع هذه النتيجة، فإن بوتين سيحاول مرة أخرى في المستقبل إخضاع أوكرانيا -التي تعد بعد كل شيء أكثر أهمية لروسيا من الناحية الجغرافية والتاريخية مما كانته فنلندا والنمسا خلال الحرب الباردة. وهو السبب في أن من المهم للغاية أن لا يقبل الأوكرانيون، بمساعدة الغرب، أي نسخة من الحياد تحرم أوكرانيا من الحق الذي اكتسبته، بتضحيات كبيرة، في الاحتفاظ بجيش كبير يزوده الغرب بالإمدادات.
بالنسبة للأوكرانيين، سيكون الحياد المحصن نتيجة أفضل من بديل الاستيعاب في إمبراطورية روسية جديدة. وسيكون من شأن مثل هذه النتيجة أن تعزز الأداء العسكري الأوكراني المثير للإعجاب خلال الأسابيع الثلاثة الماضية ليصبح شيئًا ذا قيمة دائمة لشعبها. وبكلفة المناطق الشرقية التي كانت مسبقاً ولايات روسية فعلياً، والتخلي عن عضوية الناتو التي لم يكن الحلف نفسه يميل إلى منحها لها، ستكسب أوكرانيا انسحاب القوات الروسية والقدرة على إعادة بناء اقتصادها المحطم. وتبقى أوكرانيا وحدها هي التي يمكنها اختيار هذا المستقبل –لكنها إذا فعلت، فسيكون الأمر متروكًا للغرب لتزويدها الأسلحة والمال والدعم الدبلوماسي المطلوب لجعل هذا المستقبل قابلاً الحياة حقًا.
 
*أ. ويس ميتشل A. Wess Mitchell: خبير في السياسة الخارجية الأميركية، ,مدير مبادرة “ماراثون” ودبلوماسي سابق. كان مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأوروآسيوية من تشرين الأول (أكتوبر) 2017 حتى شباط (فبراير) 2019. كان قبل توليه المنصب في وزارة الخارجية رئيسا ومديرا تنفيذيا لمركز تحليل السياسة الأوروبية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Case for Ukrainian Neutrality: A Deal Doesn’t Have to Be a Death Sentence