الرئيسة \  تقارير  \  أفغانستان وحرب الأربعين عاما‏.. أفكار في الجغرافيا السياسية وحولها

أفغانستان وحرب الأربعين عاما‏.. أفكار في الجغرافيا السياسية وحولها

21.09.2022
جورج فريدمان


جورج فريدمان*‏ – (جيوبوليتيكال فيوتشرز) 3/9/2022
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
20-9-2022
‏لا بد لي من الاعتراف بأنني أجد صعوبة في الاحتفاظ بمسافة تحليلية عندما يتعلق الأمر بأفغانستان.
إنني غاضب -وليس من أحد معيّن على وجه الخصوص- لأنه تم إيلاء قدر من الاهتمام للأيام القليلة الماضية من هذه الحرب أكثر من العقود، وفي الحقيقة جميع الخسائر التي سبقتها.
لقد تراكمت الوفيات على مر السنين، ولم تذهب الحرب إلى أي مكان، وفقد الأميركيون مع مرور الوقت اهتمامهم.
ويبدو الأمر كما لو أن السنوات الأربعين الأخيرة من الحرب الأميركية في أفغانستان لم تستحق الكثير من الاهتمام العام أو والمحاكمة -وثمة الآن هوس بأيامها الأخيرة فحسب.‏
ليس هذا خطأ مطبعيًا. يعتقد معظم الناس أن مدة هذه الحرب هي 20 عامًا.
لكن طولها في الواقع كان ضعف ذلك الوقت، وانطوت على الكثير من القسوة والشجاعة من جميع الأطراف. بالنسبة لي، بدأ الأمر في كانون الأول (ديسمبر) 1979، عندما كان عمري 30 عامًا -في مؤشر على طول الزمن الذي مرّ منذ ذلك الحين. وقد غزا الاتحاد السوفياتي البلد بسبب القلق بشأن أي فصيل هو الذي سيحكم أفغانستان.
وفي تلك المرحلة، كانت آسيا الوسطى ما تزال جزءًا من الاتحاد السوفياتي، ولذلك كان الاتحاد السوفياتي يشترك في حدود مع أفغانستان. وقد أراد، ببساطة، ضمان دولة أخرى تدور في مداره على حدوده.
حدث الغزو السوفياتي مباشرة بعد أن استولت إيران على السفارة الأميركية في طهران واحتجزت دبلوماسيين فيها كرهائن.
كانت الولايات المتحدة مهووسة بإيران والخليج الفارسي.
وكان هاجس حظر النفط العربي ما يزال يطارد الاقتصاد الأميركي، وكان الرئيس آنذاك، جيمي كارتر، حساسًا للغاية تجاه قيام بلد بإغلاق الخليج والتأثير على الانتخابات المقبلة.
كان من الصعب فهم السبب في إرسال السوفيات قوات تقليدية إلى أفغانستان للسيطرة على السياسة. كانت لدى السوفيات أصول سرية ضخمة في البلاد لإدارتها.
وفي غياب فهم المنطق أو الإجراءات السوفياتية، ظهرت العديد من النظريات التي كانت كل منها معيبة بطريقة ما.
الأولى هي أن غزو أفغانستان كان الخطوة الأولى في تحرك نحو إيران لدعم “حزب توده” الشيوعي في محاولته الحصول على المزيد من السلطة.
ولم تكن هذه النظرية مناسبة حقًا، لكنها كانت الأكثر إثارة للخوف، ولذلك كان لها الوزن الأكبر. وكان على الولايات المتحدة أن تتصرف.‏
وكانت هناك ادعاءات مختلفة بأن عملية الاستيلاء كانت مدعومة من السوفيات.
ومن المحتمل أن السعوديين لم يصدقوا ذلك، لكن أعصابهم كانت متوترة على أي حال بفضل الدعم السوفياتي لأنظمة عربية علمانية معادية للسعوديين.
وكان السعوديون حساسين للغاية تجاه تحرك السوفيات في أفغانستان. وكانت باكستان أكثر حساسية.‏
‏لم يكن لدى الولايات المتحدة خيار عسكري معقول.
ولذلك وضعت استراتيجية أخرى: دعم تمرد في أفغانستان ضد السوفيات. ورأى البعض في ذلك استفادة من تجربة فيتنام.
وكانت المشكلة هي كيفية توليد مثل تلك الانتفاضة.
وهكذا تم تصور “عملية الإعصار”، كما كانت معروفة في ذلك الحين، في ثلاثة أجزاء: سوف تقوم دول تابعة لأميركا في الشرق الأوسط بتجنيد ونشر الجهاديين المتحمسين المنطوين على حوافز عميقة في أفغانستان لتحريض القوات المحلية وقيادة النضال ضد السوفيات. كما ستقوم هذه الدول بتمويل العملية.
وستوفر وكالة الاستخبارات الباكستانية مرافق التدريب والمدربين. وستشرف الولايات المتحدة على العملية وتساعد على التدريب وتقدم المعلومات الاستخبارية للمقاتلين.‏
كانت لـ”عملية الإعصار” التي بدأت في عهد كارتر، لكنها كسبت الزخم بعد أن خلفه رونالد ريغان، ميزانية كبيرة واستثنائية كانت كفيلة بتزويد المتمردين بالأسلحة المتطورة، مثل الألغام، والأنظمة المضادة للدبابات، والمضادات الجوية وأنظمة الاتصالات.
ولم تكن درجة تواجد قوات الاستخبارات والعمليات الخاصة الأميركية على الأرض في أفغانستان واضحة تمامًا.
وسيكون من قبيل التكهن فقط افتراض أن التدريب تم في أفغانستان بدلا من نقل الناس إلى باكستان، وربما تطلب الأمر وجود مدربين أو مفتشين للحكم على الأداء.‏
كانت الجهات الثلاث المذكورة في الواقع تدرب الأصوليين الإسلاميين على دخول أفغانستان -ليس للسيطرة على البلد بقدر ما هو لحشد وتجميع جيش من المتمردين المجاهدين السنة لاستنزاف السوفيات.
وقد نجحت العملية. في 15 شباط (فبراير) 1989، استدار قائد القوات السوفياتية الذي كان آخر من غادر أفغانستان وبصق على آخر قطعة من الأراضي الأفغانية التي وقف عليها. لقد استنزفت قوى الروس وأنهكتهم قوة عدوانية مسلحة جيدًا ولديها دوافع كبيرة للغاية.‏
كان الفشل في أفغانستان أحد العوامل التي أطاحت بالاتحاد السوفياتي بعد عامين.
وقد أدى قرار الذهاب إلى أفغانستان، والبقاء هناك لأكثر من 10 سنوات بينما يتم فقدان الرجال لصالح ما بدا في البداية قوة مجمّعة كيفما اتفق من المتعصبين الدينيين، إلى المزيد من إضعاف نظام متصدع مسبقاً.
وليس من الإنصاف القول إن الولايات المتحدة وباكستان وحلفاءها العرب هم الذين خلقوا هذه القوة. كان الأفغان حريصين على القتال، وكانوا في حاجة فقط إلى الحصول على الأسلحة والتدريب.
وعندما ننظر الآن إلى تلك الفترة، فإننا نرى تكراراً لقصة جميع القوى العظمى التي حاولت إخضاع أفغانستان.‏
بطبيعة الحال، كان هناك أولئك الذين جادلوا بأن السوفيات لم يكن يمكنهم الوصول إلى الخليج العربي/ الفارسي عبر أفغانستان.
وكان هناك أيضًا أولئك الذين حذروا من أن المجاهدين لن يحتفظوا بأي ولاء أو امتنان لرعاتهم الثلاثة.
سوف يكونون مدركين لحقيقة أنه تم استغلالهم، وبمجرد تمكينهم، سوف يستغلون الفرصة لمحاولة بناء أفغانستان إسلامية.
لكن الحساسية الأميركية المفرطة تجاه التحركات السوفياتية، إلى جانب عدم فهمها لأفغانستان أو نوع المسلمين الذين يرغبون في القتال في أفغانستان، تعني أن الأميركيين لم يستوعبوا ما يعنيه أن تكون جهاديًا.
في النهاية، عاد بعض المجاهدين إلى بلدانهم في الشرق الأوسط، وبقي آخرون في أفغانستان لأن البلدان التي أرسلتهم، والتي فهمت من يكون هؤلاء المقاتلون، لم تسمح لهم بالدخول.‏
لم تفهم واشنطن أبدًا ما الذي خلقته، وتعكس بعض الثقافة الشعبية الشعبية في ذلك الوقت هذا الواقع. تم إنتاج فيلم “رامبو 3” في العام 1988.
وعرض الفيلم البطل المخضرم الشهير جون رامبو، الذي جنده عملاء أميركيون، وهو يدخل أفغانستان وينضم إلى قوة للمجاهدين.
وفي أحد المشاهد، يظهر صبي وهو يُسقط طائرة عمودية سوفياتية بمنظومة دفاع جوي محمولة على الكتف. وقد أثلجت فرحة الطفل صدر رامبو.
وربما كان للفيلم مستشارون فنيون قد يكونون على دراية بأفغانستان أو لا يكونون، لكنَّ تصوير علاقة رامبو بالجهاديين كانت في كلتا الحالتين مذهلة في ذلك الوقت -وأكثر من ذلك الآن.‏
قلصت الولايات المتحدة حجم “عملية الإعصار” وفقدت الاهتمام في أفغانستان في نهاية المطاف. وكان هذا هو الوقت الذي اندلعت فيه حرب أهلية في البلد بين مختلف الفصائل، وخرجت طالبان فائزة لتصبح الحكومة.
لكن “عملية الإعصار” عاشت في روحها على الأقل. بعد هجوم 9/11، الذي يتم إحياء ذكراه في هذه الأيام، أرسلت الولايات المتحدة عملاء إلى أفغانستان للاتصال بالحلفاء السابقين وتجنيدهم لتحديد موقع أسامة بن لادن والقبض عليه.
وقاتل الأصدقاء القدامى معًا مرة أخرى، ويبدو أن الأفغان قد عثروا على بن لادن، لكنه انزلق هارباً إلى باكستان. وقد أخذ حلفاؤنا الأموال التي أُعطيت لهم، لكنهم، للأسف، لم ينجحوا في تنفيذ مهمتهم. وهكذا تحولت غارة لجلب بن لادن إلى حرب لم تكن نهايتها معروفة.‏
في العام 1989، كان هاجس الولايات المتحدة هو الاتحاد السوفياتي. وكان من المعقول في ذلك الوقت أن تكون مهووسة به. وقد استجابت واشنطن لكل خطوة خطاها، والعكس صحيح. ولم يكن من الممكن أن يتخيل أحد، بشكل معقول، كيف ستؤدي صواريخ ستينغر المحمولة على الكتف إلى الانسحاب السوفياتي الكارثي الذي كان قد حدث للتو بطريقة غير متوقعة.
ولكن، كانت هناك نقاط يمكننا من خلالها رؤية ما فعلناه، بعد فترة طويلة من البداية.
وكان ذلك إدراكًا متأخرًا جدًا. كانت هذه حرباً بدأها جيمي كارتر واستمرت بشكل أو بآخر حتى الآن.
وبالنسبة للشعب الأميركي، نادرًا ما تم التفكير في ذلك، ونادرًا ما تم احتساب ثمنه: حرب استمرت 40 عامًا، وكانت مليئة دائماً بالموت والفوضى.
كان ذلك عرضا جانبيا لأولئك منا الذين يطالبون بالمساءلة، لكننا نادرًا ما نعتبر أنفسنا مسؤولين.‏
لهذا السبب أنا غاضب من غضب الأسابيع القليلة الماضية. أين كنا على مدى العقود الأربعة الماضية؟ لم تكن الحرب سرّا، ولم تكن مخاطرها ونتائجها المحتملة مجهولة.
وأنا أحزن على جميع الذين قتلوا وأولئك الذين لا يستطيعون الآن مغادرة أفغانستان.
لكن ضحايا مرحلة النهاية كانوا مجرد شذرة صغيرة جداً من الخسائر التي تكبدتها جميع الأطراف على مر العقود. في مرحلة ما، تتطلب الديمقراطية أن يحاسب الشعب نفسه بدلاً من مجرد مساءلة الذين ينتخبهم.
إن الديمقراطية لا تتعلق بالحقوق فحسب. إنها تتعلق أيضًا بالمسؤولية، وفي هذه الحالة، بحرب دامت 40 عامًا وهي تسير متعثرة وتجر أذيالها بطريقتها القاتلة.
ولم أكن قد حثثتُ نفسي على التحدث في انتقادها علناً. وبالتأكيد لن أدين زملائي المواطنين أو حكومتي على ما فشلتُ أنا في فعله.‏
*جورج فريدمان George Friedman: متنبئ جيوسياسي معترف به دوليا واستراتيجي للشؤون الدولية ومؤسس ورئيس مجلس إدارة “جيوبوليتيكال فيوتشرز”.
وهو أيضا المؤلف الأكثر مبيعاً حسب تصنيف “نيويورك تايمز”. ويصف كتابه الأخير ‏‏”العاصفة قبل الهدوء: الخلاف الأميركي، والأزمة القادمة للعام 2020، والانتصار اللاحق‏‏”، الذي نشر في 25 شباط (فبراير) 2020، كيف أن “الولايات المتحدة تصل بشكل دوري إلى نقطة أزمة تبدو فيها في حالة حرب مع نفسها، لكنها بعد فترة طويلة تعيد اختراع نفسها، في شكل مخلص لتأسيسها ومختلف جذريا عما كانت عليه”.
وينتمي العقد 2020-2030 إلى مثل هذه الفترة التي ستجلب اضطرابات دراماتيكية وإعادة تشكيل للحكومة الأميركية والسياسة الخارجية والاقتصاد والثقافة. ‏
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Afghanistan and the 40-Year War