الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أما الثورة فلتكمل الدورة

أما الثورة فلتكمل الدورة

20.01.2014
غازي دحمان


المستقبل
الاحد 19/1/2014
يمارس البعض نقده للثورة السورية إنطلاقا من المآلات التي وصلت لها، وبما صارت تنطوي عليه من وجود قوى متطرفة، فضلاً عن حال الدمار الذي وصلت إليه البلاد، والنكبة التي خلفتها على مستوى النزوح والقتل، وحتى حال التدمير في النسيج الوطني، وحال اللاثقة التي تعيشها المكونات كافة.
بعض من هذا النقد رفع سقوفه إلى حد التمسك بالوقائع الحاصلة والانطلاق منها، إذ بحسب وجهة النظر هذه ، ليس مهما أن يكون النظام هو الذي ساهم في صناعة النكبة وعناصرها، واستدعى القوى المتطرفة، وأوصل الثورة إلى مأزقها التسليحي... المهم بالنسبة لهذا البعض، أن المشهد الآن على هذه الشاكلة، وهذه إدانة للثورة، وإن لم يقابلها مديح للنظام، لكنه مؤشر على فشل الثورة، أو على الأقل، يصب في خانة الفكرة التي تقول إن الثورة ما كان يجب أن تنطلق في توقيتها وفي وسط تلك الظروف.
نحن هنا لا نتحدث عن نقد الثورة من قبل أعدائها، فهؤلاء لم يخجلوا بالوقوف ضدها حتى عندما كانت في مراحلها الجنينية، بل إنهم غالباً ما بشروا بالمآلات التي ستصل إليها، ليس بسبب قدراتهم الإستشرافية، بل ثبت أن مثقفي الجبهة المضادة للثورة شكلوا مع الأجهزة الأمنية المضادة للثورة جسماً واحداً، تماهى فيه رجل الأمن مع المثقف، وان هذا الجسم كان يعمل على تثمير خيارات معينة للثورة من ضمنها خيار تشتيتها، لذا فإن مثقفي تلك الجبهة كانوا يتحدثون عن خيارات وليس عن تصورات.
لكننا نتحدث عن أصوات يحسبون على التيار "الربيعي"، الذي طالما وقف مع ثورات الربيع العربي، والتي جاءت متناسقة مع بنية أفكارهم السياسية. بالطبع، هم لا ينحازون بشكل مباشر للنظام ولن يفعلوا، ليس لأن نموذجه لا يغريهم ويتنافرون معه، ويستحيل أن يصلوا إلى مرحلة يصبح النظام في نظرهم أفضل، بل حتى ان النظام نفسه لا يطمح بهذا الآن، يكفي انتقاد الثورة على الفوضى والتطرف الذي فيها (سلافويجيجاك)، ليشوش الصورة عن الثورة علّ ذلك يساهم في إبعاد فكرة مساندة الثورة، ويعطي فرصة للنظام وحلفائه لتجهيز الإستراتيجية البديلة للانقضاض على الثورة. يكفي وقف زخم الثورة الآن ووقف انتشار صورة مظلومية الشعب السوري. تلك قضية مهمة لا يعرف مداها إلا النظام، الذي يروج ليلاً ونهاراً عن عودة الإتصالات الغربية معه، وعودة التنسيق حتى ولو على صعيد الملفات القذرة، ملفات المخابرات.
في الحقيقة، الواقع المعاش، دائماً، أكثر وجاهة من الواقع الافتراضي وأكثر صدقاً وملموسية، فوضى الثورة وظروفها الراهنة تغري الفريق المتمسك بتلك الرؤية وتمنحه بحبوحة سجالية. لكن أيضاً، سوريا قبل الثورة كانت وقائع يعيشها السوريون، حزمة كبيرة من التفاصيل، بعضها مخفي وكثير منها واضح للعيان، وكانت تشكل سياقات معينة لمآلات واصلة إليها، بالورقة والقلم كما يقول المثل الدارج.
وحتى نضع الأمور في سياقها الصحيح، لا بد من إدراك أن الثورة عشية تفجرها كانت محاولة لتغيير سياق تدميري، واستمراره هذا ليس إفتراضاً بقدر ما هو واقع عياني تكشف لدى شرائح عريضة في المجتمع السوري، ستشكل رافعة للثورة فيما بعد، ووفق تقديرات هؤلاء كان البلد يسير باتجاه تعميق التهميش بوتيرة متسارعة، إذ بدأت البنى الإنتاجية بالتفسخ ومع سيطرة نظام إقتصادي أسود. النظام الاجتماعي بدوره صار نظاماً مهلهلاً بفضل صعود ممثلي ذلك الاقتصاد وحصولهم على الوجاهة. وعلى المستوى الوطني، بدأت تظهر بوضوح الفواصل الوطنية، وبدأ المجتمع يتطيف بسرعة كبيرة، حتى أن دمشق المدينة التي جمعت مختلف المكونات بدأت تتحدد فيها أماكن سكن كل مكون، وهذا يتضح لدى سكان المناطق العشوائية، حيث يذكر أبناء هذه المناطق أن مناطقهم فرغت من المكونات الأخرى بوتيرة متسارعة بعد حرب العراق2003 ومعارك طرابلس اللبنانية ومقتل رفيق الحريري، من دون أن ينتبهوا للأمر.
وفق دراسات تقدير الحالة، كانت الأمور تسير إلى يوم صدام، قد يتأجل موعده لشهور أو لبضعة أعوام، لكن "مكانيزماته" كانت فعالة ولم يتبدَ إمكانية أو ملمح لوقف ديناميتها، بل أن استمرارها على تلك الشاكلة كان مستفزاً ومعطلاً ومغرياً على تسريع الدورة لاكتشاف الآتي.
وليس افتراضاً ولا تخميناً، فإن انتصار النظام وفق المعطيات الحالية لن يؤدي سوى إلى تفاقم الأزمة وزيادة حال الخراب، بل أن الأزمة أضافت معطى أكثر خطورة تمثل برهن مستقبل البلد لعقود قادمة لبعض القوى الخارجية (روسيا وإيران) مقابل تدمير كل ممكنات النمو والتطور في سوريا، وتحويلها إلى قضية لابتزاز الإقليم والتلاعب بأمنه واستقراره، لصالح تعظيم الاستثمار الإيراني - الروسي.
لم يحصل أن انتهت ثورة بالندم على قيامها. الثورة منذ قيامها تنهي الواقع القديم بأشخاصه ورموزه وقيمه وطرق إدارته، كل ذلك يصبح بدوره افتراضاً. واقعة الثورة بحد ذاتها تكفي لتشكيل مستقبل، حتى لو لم يأتِ متطابقاً مع ما رسمته تلك الثورة، لكنه لن يرجع أبداً إلى الخلف.