الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أمريكا و"داعش": مَنْ مهّد أرض الإرهاب في العراق؟

أمريكا و"داعش": مَنْ مهّد أرض الإرهاب في العراق؟

22.06.2014
صبحي حديدي



القدس العربي
الجمعة 21/6/2014
لا يُلام هوشيار زيباري، وزير خارجية العراق (الذي يناشد واشنطن قصف "داعش"، اليوم؛ هو الذي اعترض بشدّة على قصف ألوية بشار الأسد عندما شنّت على الغوطة هجمة كيماوية همجية، الصيف الماضي)؛ إذا كانت ثلة "المحافظين الجدد" في أمريكا قد استفاقت مجدداً على ملفّ قصف العراق، وأخذ البعض يلمّح إلى جولة غزو جديدة تكمل ما ابتدأه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، سنة 2003. تعلّم زيباري، دون عناء كبير في الواقع، كيف يقتدي بأمثال ديك شيني، دونالد رمسفيلد، بول ولفوفيتز، ريشارد بيرل، وسواهم من قادة الثلّة إياها، في الكيل بمكاييل عديدة، وقلب المعاطف على أيّ قفا تقتضيه تبدلات الأحوال.
وذاك تعليم في الحدود الدنيا، كما يلوح، لأنّ زيباري تتلمذ أصلاً على يد الاحتلال الأمريكي، وخاصة بول بريمر، "المتصرّف" الأمريكي سيء الذكر والصيت، وفي كنف حكومة نوري المالكي، الفاسدة والفئوية والطائفية، أكثر بكثير ممّا لقنه إياه سيّده جلال الطالباني، أو استجمعه خلال عقود المنفى وأطوار "النضال" في سبيل حقوق أكراد العراق. ولهذا نراه اليوم في سباق محموم إلى محاكاة أصوات "المحافظين الجدد" هؤلاء، وإلى ترديد أصداء تصريحاتهم النارية التي اجتاحت وسائل الإعلام الأمريكية، وكأنّ مواقفه، بصدد رفض التدخل في الشأن السوري تحت ذريعة "السيادة الوطنية"، كانت قد صدرت بلسان زيباري آخر، طُوي لسانه أو طواه وانطوى معه!
والحال أنّ معاطف زيباري المقلوبة، مثله في هذا مثل معظم ساسة العراق، في الحكم كما في "المعارضة"، تهون كثيراً، بل لعلها تنقلب إلى طرافة فكاهية، على مبدأ شرّ البلية الذي يضحك، إذا تابع المرء المواقف الراهنة لرجل مثل ديك شيني، نائب بوش الابن، عضو الحلقة الأضيق من رجالات "المحافظين الجدد"، وأحد كبار مهندسي غزو العراق. ففي مقال، وقّعه مع ابنته ليز، ونشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" أمس، يتباكى شيني على سياسات الرئيس الأمريكي الحالي، باراك أوباما، ويرى التالي في سطور الاستهلال وفي الخلاصة القصوى: "ندر أنّ رئيساً للولايات المتحدة كان مخطئاً حول الكثير، على حساب الكثيرين"!
وإذْ لا تستهدف هذه السطور، البتة، تبرير سياسات أوباما أو الدفاع عنها، سواء في أفغانستان أم في العراق أم في سوريا؛ وتناهض، في المقابل، أي شكل من أشكال الغزو العسكري الأمريكي وقصف الأوطان والشعوب تحت ذريعة "معاقبة" الطغاة ومجرمي الحروب، فإنّ خلاصة شيني كلمة حقّ يُراد بها الباطل: لم يفلح أوباما، على نقيض ما يزعم، في "إنهاء" حربَيْ أمريكا في أفغانستان والعراق، لأنّ سحب الجيوش في ذاته لا ينهي الحرب، لأنه ببساطة لا يحلّ السلام بالضرورة، كذلك فإنّ إدارته تواصل سلسلة حروب أخرى، في أماكن أخرى، بوسائل أخرى تبدأ من العمليات الخاصة (اغتيال اسامة بن لادن)، وتمرّ بالخطف غير القانوني لمن تزعم واشنطن أنهم "مطلوبون للعدالة"، ولا تنتهي عند عمليات الاغتيال وقتل المدنيين الأبرياء بطائرات من غير طيار.
ومن جانب آخر، فإنّ أقوال شيني وابنته مردودة عليهما، وهي تدين إدارة بوش الابن في ولايتيه الرئاسيتين، وتشمل رهط "المحافظين الجدد" أجمعين؛ قبل أن تشمل أوباما ورجالاته، أو سياساته في المنطقة، أخطأت كثيراً أم أصابت قليلاً. خير للمرء، هنا، أن يرصد مفاعيل هذه الحال في العراق البلد، على الأرض وفي صفوف البشر، حيث يضرب الإرهاب جذوره الأولى قبل التنظيرات اليمينية والرجعية حول "القرن الأمريكي الجديد"، وقبل التخرصات حول "فيروس الديمقراطية" الذي توقّع أمثال ولفوفيتز وبيرل، ثمّ شيني وبوش الابن نفسه، أن ينقله الاحتلال الأمريكي للعراق، إلى سائر بلدان الشرق الأوسط. وخير أن يبدأ المرء من شهور الاحتلال الأولى، مع تنصيب بريمر حاكماً أمريكياً أوحد على العراق، كامل التفويض ومطلق الصلاحيات، فلم يتردد في سنّ القوانين الماراثونية التي ما يزال العراق يرزح تحت مفاعيلها.
على سبيل المثال، أصدر بريمر الأمر رقم 39، الذي نصّ على تأمين 200 شركة ومؤسسة وهيئة كانت تابعة للقطاع العام، فسمح لتملّك الاستثمارات الأجنبية أن يبلغ نسبة 100 في المئة، وأجاز للشركات الأجنبية تحويل كامل أرباحها ومداخيلها دون ضرائب أو اقتطاعات، ضمن تراخيص لا تقلّ عن 40 سنة. أمّا الأمر رقم 1، الأشهر بالطبع، لأنه استهدف "اجتثاث البعث" من الدولة العراقية، فقد دمّر كلّ مؤسسة حكومية صمدت بضعة أسابيع تحت نير الاحتلال، كما فكك الجيش والشرطة وقطع الرواتب عن مستخدميها، بحيث حوّلهم تلقائياً إلى ضباط في صفوف مقاومة الاحتلال، أو عاملين لدى عزت الدوري وأنصار العهد البائد، أو متطوعين لصالح العشائر، أو مقاتلين في كتائب "القاعدة" ذاتها أيام أبو مصعب الزرقاوي وقبل ولادة "داعش".
وفي خطبته عن حال الاتحاد الأمريكي، مطلع العام 2004، بعد مرور شهور قليلة أيضاً على استكمال الاحتلال؛ أطلق بوش حبال البلاغة على عواهنها، ولم يلجم حكمة فلسفية تقليدية هنا، أو يعيد صياغة شعار مكرور هناك، وغَرَف، على هواه ودون وازع، من معين خُطَب سابقة تصف حال الاتحاد، ألقاها بوش نفسه أو ألقاها سواه. وكان المسرح حاضراً أيضاً، حين أطلق رئيس القوّة الكونية الأعظم ـ حارس الديمقراطية، وصائد الأنظمة المارقة، وهادم ملذّات الطغاة، وإطفائي الحرائق ـ ابتسامة عريضة هاشّة باشّة صوب عدنان الباججي، الذي كان يومها رئيس مجلس الحكم المؤقت في العراق… المحتلّ عسكرياً!
قبلئذ، في أيار (مايو) 2003، اعتلى بوش حاملة طائرات أمريكية، فألقى خطبة قيصر معاصر وخلفه رُفعت لافتة تقول "أُنجزت المهمة"! بعدئذ، في ايلول (سبتمبر) 2004، الجمعية العامة للأمم المتحدة، قدّم بوش المزيد من البراهين على تفوّقه في فنون الخطابة وألعاب الكلام وأحابيل القول، وهو المسلك الذي طبع الجزء الثاني من رئاسته، خصوصاً بعد غزو أفغانستان والعراق، حيث بلغ تدريبه وتدرّبه مستوى لا يُقارن البتة بحاله حين رشّح نفسه للرئاسة الأولى قبل أربع سنوات. ولقد ألقى خطاباً طافحاً بالبلاغة والمجاز واللغة الخشبية، جرياً على عادته ـ وللإنصاف: عادة سواه من رؤساء وحكّام وملوك العالم في مناسبات كهذه، جوفاء احتفالية طنّانة بلا معنى.
ولكن لأنه اعتلى المنبر بوصفه رئيس الدولة التي تعتلي العالم بأسره، فقد طالب بوش البشرية جمعاء ـ وليس فقط زعماء هذه البشرية، المنتخبين منهم وغير المنتخبين، الديمقراطيين والمستبدّين والإمّعات… ـ بأن تنشر الديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان وتحارب الإرهاب، وأن تهتدي في هذه كلها بما تفعل الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان! "لأننا نؤمن بالديمقراطية، فإنّ على الدول المسالمة أن تدعم تقدّم الديمقراطية"، و"الحرية تشقّ طريقها في العراق وأفغانستان، ويجب أن نستمرّ في اثبات التزاماتنا تجاه الديمقراطية في هذين البلدين"، قال بوش؛ و شدّد على تحويلهما إلى "نموذج للشرق الأوسط الأوسع، المنطقة التي يُحرم فيها الملايين من حقوقهم الإنسانية الأساسية والعدالة البسيطة".
فإلى أين انتهى ذلك الإيمان اليوم؟ وكيف هي حال النموذج، العراقي دون سواه؟ وأية بذاءة في أن يتناسى شيني أنه، أسوة برئيسه وثلة "المحافظين الجدد" إياها، مهدوا الأرض لولادة التشدد والتطرف والإرهاب؟ ومَنْ يلوم زيباري، حقاً، إذْ يعاود الرقص على أنغام قصف العراق، اليوم وكأنّ عقارب الساعة ارتدت 11 سنة إلى الوراء!
 
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس