الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أمل باهت في مؤتمر "جنيف-2"

أمل باهت في مؤتمر "جنيف-2"

25.01.2014
د. رياض نعسان أغا


الاتحاد
الجمعة 24/1/2014
القضية ليست مسألة إرهاب رغم وجوده واستدعائه الماكر، إنها قضية شعب طلب التخلص من الظلم والاستبداد ---------- لم يكن أمام السوريين نظاماً ومعارضة سوى أن يذهبوا إلى مؤتمر جنيف، فقد مرت ثلاث سنوات عجاف ذاق فيها السوريون من الفواجع ما لم تشهده أمة منذ الحرب العالمية الثانية، وصار "الهولوكوست" السوري أفظع من التصور، وتمكن النظام من تحويل الأنظار عن الثورة الشعبية التي طالبت بإصلاح سياسي فأغرقت في طوفان دم، إلى رؤية هجمة إرهابية تستهدف صمود سوريا وإصرارها على تحرير القدس، ولعل أحد الحكماء تذكر قول أبي نواس "وداوني بالتي كانت هي الداء"، والداء الأعظم الذي ابتلي به النظام منذ عقود هو إصرار الشعب على هويته الإسلامية، وقد تجلى هذا الإصرار في أشكال عديدة، بعضها قبله النظام في الحالات الصوفية والرؤى الأشعرية التي ترى الخروج على الحاكم فتنة، وبعضها الآخر كان صدامياً، وكانت النصيحة أن يكون الدواء من جنس الداء، فيستخدم التطرف الإسلامي الذي يرفضه السوريون عامة ويفضلون عليه مهادنة النظام مهما تكن مساوئه، فهي أرحب من هجمة دينية أحادية الرؤية تعيد سوريا قروناً إلى الماضي وتلغي كل مظاهر الحياة المعاصرة، وتبني دولة على غرار دولة "طالبان"، فضلاً عن كون الغرب والعالم كله يعيش هذا الرهاب الذي شغله من يوم جريمة سبتمبر التي اعتبرها من خدعوا بحبكتها التراجيدية المثيرة بأنها إحدى "الغزوات" الإسلامية التي تفتح آفاقاً لغزو الغرب في عقر داره.
ولم يكن النظام هو من اخترع فكرة "وداوني بالتي كانت هي الداء" فالغرب نفسه دعم "طالبان" لتقدم النموذج الكريه عن الإسلام، ورحبت عواصم غربية كبرى بأن تصير مقر البث الإعلامي للفكر الإسلامي الذي استضاف دعاة أحدهم مفقوء العين والآخر يده من حديد والثالث تصل لحيته إلى قدميه، وأعلنوا على قنواتها أن العالم داران "دار كفر" و"دار إيمان"، وأعلنت "دار الإيمان" حربها الضروس على "دار الكفر"، ولعب الإعلام دوراً مريعاً في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، ولم يكن يغيب عن كبار المثقفين والسياسيين أن القصة "ملعوبة بإتقان" ولكن "صارت الكذبة تحكي" ووجدت لها أنصاراً ودعاة تفاءلوا بأنهم يستطيعون تغيير العالم وإعلان الخلافة الإسلامية ما بين كاشغر وبلاط الشهداء.
سارع النظام السوري إلى استعادة التجربة وأطلق سراح من كانوا لديه من سجناء التطرف وأمثالهم، واستعان بأعوانه القدامى يوم كان المالكي يشكو من تدفق رجال أبي القعقاع الذي انتهت مهمته دون أن ينتهي نهجه أو يتوقف صانعوه عن المهمة، وظهرت "داعش" تتحدى العالم كله أن يعرف مصادر تمويلها وأسلحتها أو أن يتنصت على اتصالاتها.
ونسي الناس كيف تم تسليم الرقة دون قتال، وروى أحد المنشقين عن دائرة النظام وكان عميلاً للمخابرات الجوية السورية في لندن، أنه كان في زيارة ضابط في فرع المطار حين دخلت إلى مكتب الضابط مجموعة "طالبانيين" بلباس أفغاني ولحى طويلة فظن الرجل أنه اقتحام للفرع وانتابه الخوف فضحك الضابط وقال له "لا تخف هؤلاء جماعتنا" وقد كبرت الجماعة وصارت عصابة إرهابية حكمت مناطق واسعة من ريف حلب وإدلب وحماة وامتدت إلى الجزيرة السورية.
وأتاح لها النظام أن تكبر وأن يتسع نفوذها، وهو يقول في سره وعلنه للسوريين "بدكم ثورة وإسلام؟ تفضلوا هؤلاء هم البديل" وأمعن "الداعشيون" في قتال الجيش الحر وفي أسر واعتقال جنوده، وسارعوا إلى تشكيل المحاكم التي استخدمت الجلد لمن فاته وقت صلاة، والعنف مع امرأة ظهرت خصلة من شعرها، وطالبوا بمنع تعليم البنات، ولو أن في سورية تمثالاً لبوذا لهدموه، واعتقلوا رجال الدين المسيحي واعتدوا على الكنائس.
وباختصار قدموا أسوأ نموذج عن الإسلام (الذي هو الحل) حتى صار بعض السوريين يستجدون النظام أن يحميهم من هؤلاء الإرهابيين الحمقى بينما كان الجيش الحر يتردد في قتالهم خشية أن يقال إنه يحارب الإسلام، أو يقال إن المعارضة يقتل بعضها بعضاً.
وأما المجتمع الدولي فقد انطلت عليه اللعبة القذرة التي لا أنكر أن كثيراً من الشباب انخرطوا في أتونها لما توفره من حماية وما تقدمه من دعم، ولما تظهره من نصوص دينية تتيح لهم بتفسيرها على هواهم أن يقتلوا كل المسلمين الذين يشكون في صحة عقيدتهم، وبدأت حملة إعلامية ضخمة لتحسين صورة النظام وتقديمه على أنه يحارب الإرهاب وعلى دول العالم أن تسانده، بل إن لافروف اقترح أن تتوحد جهود الجيش الحر مع الجيش النظامي لمقاومة الإرهاب، على رغم أن جثث الأطفال والنساء التي قتلت في الغوطة بأسلحة كيماوية من أسلحة الدمار الشامل لم تكن قد تغيرت بعد! وقد تناسى المجتمع الدولي أنه لا يمكن اتهام العصابات الإرهابية بهجمات الطيران التي هدمت المدن والقرى، ولا يمكن اتهام الإرهابيين الوافدين باستخدام صواريخ "سكود" التي تنطلق على بعد مئات الكيلومترات، فضلاً عن حيوية الحوامات التي لم تتوقف يوماً عن رمي براميل متفجراتها الذكية جداً التي تهدم وتبيد وتدمر دون تمييز بين عمارة مؤيدة للنظام وأخرى موالية، وكم من أناس فقدوا كامل أسرهم تحت الأنقاض التي لا يعلم إلا الله عدد الشهداء الذين قضوا تحتها.
والعجب أن يتركز خطاب النظام في جنيف على محاربة الإرهاب في تجاهل مطلق لوجود ثورة شعبية طالبت بالتغيير على مدى عام وواجهها النظام بالقتل والقنص العشوائي للمتظاهرين الذين كانوا يرددون "سلمية سلمية" وألا يعتذر ممثل النظام عن اقتلاع حنجرة المغني القاشوش، وعن قتل الطفلة هاجر والطفل الخطيب، وعن إهانة أهل البيضا بأحذية الشبيحة التي داست على رؤوسهم، أو عن مذبحة الحولة، وأن يتجاهل أن هذه الجرائم هي التي دفعت الشعب إلى حمل السلاح.
ولقد وددت لو أن خطاب الجربا الذي كان نصاً موفقاً في تعبيره عن القضية السورية سأل المجتمعين سؤالاً قانونياً حول الجريمة الإرهابية الكبرى التي حدثت في الغوطة في أغسطس باستخدام سلاح محرم دولياً "هل يكتفي القانون الدولي بمعاقبة السلاح دون مقاضاة من استخدمه؟" والعجب أن تكون هذه الجريمة عبر الوعد بتسليم الأسلحة بوابة النجاة للنظام من المساءلة القانونية عن دم القتلى! لكن العالم سرعان ما استعاد إدراكه لكون القضية ليست مسألة إرهاب رغم وجوده واستدعائه الماكر، إنها قضية شعب طلب التخلص من الظلم والاستبداد، وبين نظام يتمسك بالسلطة حتى لو فني الشعب كله، وكان مؤسفاً منظر السوريين وقد جلسوا وفدين، وفد يدافع عن شخص، ووفد يدافع عن شعب ووطن.