الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أميركا ورقصة السلاح الكيماوي

أميركا ورقصة السلاح الكيماوي

23.09.2013
شاكر الأنباري


المستقبل
الاحد 23 /9/2013
بعد غزوه للكويت أعطى نظام صدام حسين للعالم مبرراً مقنعاً لإزالته من الخارطة الإقليمية والدولية، لكن ذلك لم يتم الا بعد نحو العشر سنوات. وخلال ذلك انصبت الجهود الأميركية على مفصل واحد، حيوي، من مفاصل صورة النظام، هو أسلحة الدمار الشامل. والجميع يتذكر حكاية المفتشين الدوليين التي استغرقت سنوات، وكانت وفودهم تجوب العراق من أقصاه إلى أقصاه بحثا عن ذلك السلاح، سواء ما كان منه مصنعا أو معدا للتصنيع، حتى وصل البحث إلى البرامج العلمية والأشخاص العاملين فيها، واختتمت رحلة المفتشين بدخول قصور صدام حسين المنتشرة على أرض الوطن.
هذه الحكاية المتقادمة تستعيد اليوم نفسها، وإن بأشكال مختلفة، في سوريا، مع نظام مشابه يقوده حزب البعث وعائلة تتربع على سدة الحكم، وتتوارثه عقدا بعد عقد. أمر غريب هذا التشابه في التاريخ الحديث للبلدين، المحكومين من حزب واحد، وعائلة واحدة، وتعاملت مع الأحداث المحورية في حياة شعوبها بعقلية واحدة، وسلوك مشابه. ولعل فهم بعض من سلوك هذين النظامين يعود إلى نقطة جوهرية لا يمكن اغفالها، وهي الحفاظ على السلطة. سلطة حزب وعائلة وربما طائفة، أمام منافسة داخلية، وإعادة ترتيب استراتيجية للخارطة الإجتماعية. نقطة شكلت كعب أخيل في كلا النظامين. ينبغي هنا التذكير ان صدام حسين استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه، وكذلك فعل النظام السوري، الا أن الضغط الدولي في حالة صدام حسين لم يكن موجها للنظام في هذه النقطة بالذات، فاسقاط صدام حسين ونظامه تم بعد نحو خمسة عشر عاما من ضرب حلبجة بالسلاح الكيماوي، بينما فعّل ملف أسلحة الدمار الشامل بعد غزو العراق للكويت، مع تجاهل شبه تام لما كان يفعله النظام لشعبه، من تهجير واضطهاد وقمع وممارسات عنصرية ضد الكرد وتمييز طائفي ضد الشيعة. كل ذلك، حينها، لم يستثر أخلاقيات المجتمع الدولي وقوانينه، وهذا ما بدأنا نراه أيضا في الحالة السورية.
التركيز من قبل أميركا والغرب على الملف الكيماوي، مع تجاهل ومراوغة وضبابية بما يخص قتل مئات الآلاف من السوريين بأسلحة فتاكة لا تقل خطورة من السلاح الكيماوي. ضربة صاروخ أرض أرض يمكن لها ان تبيد سكان مدينة صغيرة بلا شك. وهذا ما تفعله راجمات صواريخ روسية متطورة. وكذلك في تهجير ملايين السوريين خارج بلدهم، ونحن نعلم ان نزع الأسلحة الكيماوية لن يعيد هؤلاء الملايين إلى ديارهم، ولن يخرج مئات آلاف المعتقلين من السجون، وبالتأكيد لن يعود إلى الحياة أكثر من مئتي ألف سوري قضوا خلال سنوات المواجهة بين النظام وشعبه، ولن تدخل شركات عالمية لإعمار نصف ما هدم من الأبنية والمصانع والمدارس والجامعات. تلك، ربما، مفارقة معاصرة يصعب تفسيرها، أو تبريرها بشكل مقنع، رغم ما يحيطها من زوابع إعلامية. هل أن حكاية السلاح الكيماوي ذريعة إذن في الحالتين؟ وهل يخاف الغرب وأميركا فعلا من استخدام النظام السوري، أو العراقي قبله، لتلك الأسلحة ضد شعبه؟ وماذا يجني الشعب من تفريغ السماء من الغازات السامة لكن يسمح لها ان تمتلئ بالطائرات، وراجمات الصواريخ، والبراميل المتفجرة، والقنابل الحرارية والفراغية؟ في نهاية الحرب التي شنها التحالف الدولي لتحرير الكويت، وانتهت بهزيمة العراق عسكريا، حدث ان انتفض أكثر من عشر محافظات عراقية على النظام. وخرجت كردستان من خارطة الدولة المركزية وأوشك النظام على السقوط، لكن ما حدث في اتفاقية حفر الباطن بين العراق وأميركا ان الأخيرة سمحت لطائرات النظام بالقضاء على الانتفاضة، وإعادة سيطرته بعد أسابيع على مجمل العراق العربي. في حين منعت قوات النظام من استعادة مدن كردستان التي أصبحت لاحقا اقليما يحكم نفسه ذاتيا. هل كانت أميركا تعرف بوجود أسلحة دمار شامل في العراق لذلك لم تضع صدام حسين أمام خيار شمشون، وأجّلت الملف برمته إلى وقت آخر؟ بالمقابل هل ان هذه المقاربة تنطبق على النظام السوري اليوم أيضاً؟ فهذا النظام قارب أن يصل هو الآخر إلى عتبة الخيار الشمشوني، لكنه هذه المرة قد يتعدى بخياره الشعب السوري إلى إسرائيل، هل هذا ما فكرت به أميركا والغرب، ففضلت تأجيل الضربة إلى ان تنتهي من نزع الأنياب كما فعلت مع نظام صدام حسين؟ ليس من عاقل يفترض ان نظام بشار الأسد سيعود ليحكم سوريا كلها بعد هذه السنوات من المواجهة الشاملة، فكيف اذا ما عرفنا اننا مع سياسة دولة كبرى كأميركا تمتلك عشرات المعاهد الاستراتيجية ومئات الدوائر الاستخبارية والعسكرية والعلمية وآلاف المختصين بالمنطقة، وهي لابد تدرك تلك الحقيقة، فلماذا تتجاهل ما حدث من خراب في السنتين الأخيرتين وتوجه الرأي العام العالمي نحو الأسلحة الكيماوية فقط؟
في الضربة التي وجهها صدام حسين بصواريخ أرض أرض إلى إسرائيل في بداية حرب تحرير الكويت، كان العالم يحبس أنفاسه من أن الضربة قد تكون كيماوية، خاصة وأن تهور النظام العراقي، وعدم تقديره العقلاني لقوته، وكونه كاد يقترب بسبب اليأس والضعف من خيار شمشون، هو ما أشاع الهواجس العالمية في تلك الفترة. ربما منذ تلك اللحظة الملتبسة التقطت أميركا خيطها الكيماوي، وأدركت ان حاكما يوضع في الزاوية يمكن له فعل أي شيء، وهذا ما بدأت تحسب حسابه في الحالة السورية. أنظارها شاخصة إلى ما يمكن ان يحدثه هكذا سلاح إذا ما استخدم ضد إسرائيل، إسرائيل تحديداً، أما حشر أسماء دول أخرى على لسان أوباما فهو استهلاك انشائي لا غير، لأن مشروع نزع السلاح الكيماوي المجرب ضد الشعبين العراقي والسوري فقط، لم يتطرق إلى معاقبة من استخدم السلاح ضد شعبه. هذا ليس مهما في الحسابات الدولية الباردة، إذ أن الضحايا ليسوا ذوي أهمية حضارية يترتب عليها خلخلة تاريخية لسيناريوات المنطقة وتوازناتها. لم تطلب أميركا لا في العراق ولا سوريا معاقبة الضباط أو المخططين أو من اصدر القرار ونفذه، وهنا تصبح القضية برمتها محط تساؤل وريبات وشكوك.
الغريب أن الغرب وأميركا على استعداد لصرف مئات ملايين الدولارات لمساعدات إنسانية للاجئين السورين في دول الجوار لكنها لا تفكر بمساعدة الجيش الحر بأسلحة متطورة قد لا تكلف ربع المساعدات الإنسانية. وهي على استعداد لقبول مئات الآلاف من السوريين لاجئين في بلدانها لكنها ليست على استعداد لازاحة هذا النظام بشكل جدي، ولا يكلف الأمر نصف ما ستصرفه على قبول مئات الآلاف اللاجئن على أراضيها. وهذا ما عانى منه العراقيون في حقبة صدام حسين، ونحن أمام سيناريو يكاد أن يكون متطابقاً حتى في التفاصيل، رغم ان السيناريو السوري يحدث عيانا بعد ثلاثة عقود من الدراما العراقية التي انتهت بكارثة.
يوما بعد آخر تترسخ القناعة في أن السياسة الغربية والأميركية لا تبنى على أساس مصالح الشعوب، أو معاناتها، فهذا آخر ما تفكر به. والتعامل مع القضية السورية بدأ يؤكد هذه القناعة بعمق. ثمة جانب غير مفهوم في السلوك الأميركي في المنطقة العربية، أحيانا يناقض مصالحها هي بالذات. ما العبرة من اسقاط نظام صدام حسين لكي يسلم العراق بعد أقل من عقد إلى دائرة النفوذ الايراني، ويحكم بطريقة ثيوقراطية، مذهبية، بعيدة كل البعد عن شعارات أميركا حول حقوق الإنسان، والديموقراطية، والسلم الأهلي، والتعددية؟ حيث يتحول بلد محوري من قوة اقليمية تحفظ توازنات حساسة في المنطقة، إلى دولة تابعة تسير على الضد من المصالح الغربية والأميركية؟
يجب التذكير هنا أن الدور الأميركي الرئيس في إسقاط نظام صدام حسين لم يخلف وراءه سوى اللعنات. اللعنات لأميركا، إذ أنها دخلت ببوط عسكري وتركت وراءها آثار ذلك البوط فقط. في الثمانينات حين اشتدت موجة الهجرات من العراق صارت بعض الأصوات تقول بوجود مخطط لتفريغ البلد من سكانه، وكنا نسخر من هذه الفكرة، واليوم في الحالة السورية نشهد الحكاية ذاتها. تفريغ ملايين السوريين من البلد، هذه المرة بصفات فاقعة، قد ترفع رصيد الأقليات بين مجموع السكان السوريين في السنوات القادمة. والفكرة لم تعد ساذجة، أو تستجلب السخرية. عدم عودة هذه الملايين مرة اخرى إلى سوريا أمر وارد، والنتائج تشعل من دون شك تساؤلات منطقية، حتى لو ارتدت مظهر "المؤامرة". وهذا ما جرى في الحالة العراقية، اذ يعيش اليوم ملايين العراقيين في المهاجر، والسؤال هو: هل ان هذا السيناريو مخطط له ولآثاره المستقبلية أم حدث عفواً ولن ينعكس مستقبلاً على الديموغرافيا السورية؟ وهذا السؤال يجر خلفه سؤالاً قد يكون ذا علاقة به: هل أن استخدام السلاح الكيماوي جاء بخطوة متهورة لم تحسب حسابا لردات الفعل التي ستجري حوله؟ هل هو مناورة مرتبة لكي ينسى الحدث السوري الأبرز من تدمير للمدن، وإبادة للبشر، وتفكيك للبلد، لينحصر في المخزون الكيماوي الذي سيدفع فاتورة للدمار الآخر؟
كانت مهمة المفتشين الدوليين في العراق هي الخطوة الأخيرة في عمر النظام، اذ سرعان ما تم دفعه إلى الهاوية ليدفن بعدها إلى الأبد. لكن ذلك الدفن كانت له أثمان هائلة، فثمة جهة واحدة فقط من دفعت الثمن هي الشعب العراقي، وصورة هذا الشعب أصبحت مكشوفة للعالم كله. وكأننا في هذه الأوقات نستعيد تلك الحكاية مرة ثانية، وهي تبني تفاصيلها ليس في بلاد النهرين انما في البلد السوري. وثمة لاعبون كثر يساهمون في روايتها، والاستمتاع بهدير أحداثها، ولا أحد يعرف تحديدا من هو المستمتع الأكبر فيها، والمستفيد، وسط هذا الضجيج كله.