الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أنقرة تذهب الى الحرب ... لكن ضد من؟

أنقرة تذهب الى الحرب ... لكن ضد من؟

03.08.2015
هوشنك وزيري



الحياة
الاحد 2/8/2015
أخيراً وبعد طول انتظار، أعلنت تركيا الحرب وحشدت قواتها على حدودها الجنوبية، متأهّبة لدخول المنطقة العازلة المزمع إقامتها داخل الأراضي السورية. يأتي ذلك بعد إصرار الدولة التركية ولأكثر من سنة، على رفضها دخول نادي التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة "الدولة الإسلامية"، التي نهضت حدودها فجأة بمحاذاة أجزاء واسعة من حدود تركيا الجنوبية، وفضّلت في تحدٍّ واضح للعالم أجمع غضّ الطرف عن النشاطات المحمومة والفاضحة لمسلّحي هذه "الدولة" الجديدة على حدودها، من تهريب وقود الى عمليات تجنيد وتهريب جهاديين قادمين من كل صوب وحدب، مستخدمين الأراضي والمعابر التركية.
كثيراً ما كانت هذه النشاطات تجري تحت أنظار أجهزة المخابرات التركية وجندرمتها، بل بتعاون معهما في أحيان كثيرة ما دامت هذه "الدولة" تشكّل ضغطاً على النظام السوري من جهة، والأهم من ذلك، أنها تزيل، بتوسّعها السريع، خطراً تقليدياً يتمثّل في الأكراد، وتحديداً الأوجلانيين الجدد منهم. وهذا الخطر الكردي لا يتوجّه نحو الكيان الجغرافي للدولة التركية، كما كان الجنرالات الأتراك التقليديون يقرأون في الماضي التهديد الذي كان يشكّله حزب العمال الكردستاني، بل يتوجّه مباشرة، وفق قراءة تركيا الأردوغانية، نحو جوهر أيديولوجيتها الإسلامية المتمثّل في الحنين الى إمبراطورية الخلافة العثمانية ووصايتها على أراض شاسعة.
لكن، ما الذي تغيّر على الأرض ليقنع الأتراك بضرورة دخولهم الحرب قبل فوات الأوان؟ الجواب الأولي الذي يقترحه المشهد على الأرض، يشير الى خسارة مسلّحي دولة "داعش" أراضيَ وبلدات كثيرة، منها استراتيجية، أمام الأكراد، وآخرها بلدة تل أبيض الحدودية، الأمر الذي أدى الى توسّع الكيان الكردي الجديد داخل سورية، وهيمنته التدريجية على ما يقارب 400 كلم من الشريط الحدودي مع تركيا. وبعد خسارة الحرب في مدينة كوباني (عين العرب)، التي أضافت هالة من الأسطرة الى المقاتلين الكرد، لم يعد في وسع تركيا تحمّل مزيد من تضخّم الكيان الكردي الحديث المنشأ على حدودها.
هناك عاملان في غاية الأهمية يجب أخذهما في الاعتبار في سياق قراءة القرار التركي بدخول الحرب، أولهما استيلاء الأكراد على تل أبيض عسكرياً في 15 حزيران (يونيو) الماضي، الحدث الذي شكل ناقوس تحذير دفع بالرئيس أردوغان الى الدعوة في اليوم التالي، الى اجتماع أمني طارئ مع رئيس الوزراء، ومع أبرز قادته العسكريين والسياسيين. وقد عقد الاجتماع على مدار يومين في 17 و18 حزيران، لمناقشة "تطوّرات الشمال السوري"، ووضع "خطوط حمراء" للتقدّم الكردي على الأرض، خصوصاً في المناطق الحدودية.
وتمثّل العامل الآخر في اكتساب المقاتلين الكرد، والنساء قبل الرجال، من جماعة وحدات حماية الشعب المرتبطة بحزب العمال الكردستاني وهم يرتدون الزي الكردي الخاكي، صورة الحليف العسكري لدول التحالف، الذي يعتبر وجود الكرد على الأرض ضرورياً ومكملاً للحرب الجوية لطائرات التحالف على مسلّحي "داعش". وتضخّمت هذه الصورة تدريجياً ليس عبر الانتصارات العسكرية فقط، بل عبر استقبال زعماء كرد بزيّهم الحربي التقليدي في قصور رئاسية ومحافل ديبلوماسية دولية. هكذا، أخذت الصورة أبعاداً أخرى ذات دلالات رمزية وسياسية رفيعة.
مثّل هذان العاملان، الانتصار العسكري والرمزية السياسية، الكابوس الذي أوقظ الأتراك من وهم انتظارهم واعتمادهم على "داعش" لتغيير موازين القوى والقضاء على الخطر الكردي، ودفعهم بالتالي الى دخول الحرب مع الأكراد لإنهاء المهمة بأنفسهم. ولكي تكتسب الحرب على الأكراد شرعية دولية ورضا عالمياً، كان عليها أن يصاحبها إعلان حرب أخرى، أقلّه في الخطاب الرسمي التركي، فكان إعلان الحرب على دولة "داعش" أفضل غطاء شرعي. ولسبب الشرعية هذا، يتم دوماً زجّ اسمَي "داعش" وحزب العمال في جملة واحدة في سياق تصريحات المسؤولين الأترك وخطاباتهم، متبوعةً بصفة الإرهابي.
وكثيراً ما ردّد الإعلام التركي اليميني ومسؤولون كبار أخيراً، أن الأكراد وتقدُّمهم على الأرض أخطر كثيراً من "داعش" على أمن الدولة التركية. ومن الممكن إثبات عمق إيمان الدولة التركية بهذه المقولة، ورعبها من نتائجها عبر مقارنة بسيطة بين القصف الجوي التركي ضد مواقع "داعش" في أجزاء محدودة من الشمال السوري، والقصف المكثّف والقوة النارية المدفعية المصاحبة في ضرب مواقع العمال الكردستاني على طول الشريط الحدودي من تركيا الى إيران داخل محافظتي أربيل ودهوك في إقليم كردستان العراق، حيث يظهر أن ما تقوم به تركيا ضد "داعش" ليس حرباً جدية بقدر ما هو استرضاء دولي وشرعنة لإعلان الحرب الموازية الأخرى ضد الكردستاني، وهي الحرب الأكثر ضراوة وجدّية بالنسبة اليها.
لكن على رغم الاتفاق التركي – الأميركي، لا يزال الخلاف عميقاً في سلّم الأولويات بين استراتيجّيتي الدولتين، بل بين تركيا ودول التحالف عموماً. فقد أصرّ أردوغان، الذي لا يزال مجبراً على الجلوس تحت صورة عملاقة لأتاتورك يشبه فيها صدراً أعظم عثمانياً، ولمدة أكثر من عام، على أن يطالب الغرب باتباع رؤيته للحل السوري، التي تتجسّد في تجفيف مستنقع النظام السوري، وبعد ذاك الالتفات إلى مسلّحي "داعش" الذين لا يمثلون، في نظر أردوغان، إلا بعوضاً وذباباً. لكنْ في هرم أولوية أميركا والدول الأخرى في التحالف، يأتي أولاً القضاء على "داعش" الذي تحوّل سرطاناً في المنطقة، ومن ثم الالتفات الى العملية الانتقالية في سورية.
لكن على رغم الخلافات، حصلت أميركا على قاعدة أنجرليك الجوية مقابل حصول تركيا على منطقة داخل الأراضي السورية، لا لكي تفصل بين الحدودين السورية والتركية وتخلق منطقة آمنة، كما يسود الوهم وسوء الفهم، بل لتعزل المناطق الكردية عن بعضها وتضمن الفشل الكردي في تجربة الإدارة الذاتية.