أهي مأساة الثورة السورية أم مأساة الحرية؟
15.02.2014
مصطفى الجرف
الحياة
الجمعة 14/2/2014
هناك شعور عام قوي يخترق وعي الثوار السوريين، مقاتلين وناشطين، مثقفين وعاميين، إسلاميين وعلمانيين، بأنهم وحدهم يواجهون العالم كله في معركة مأسوية يخوضونها بشكل متواصل منذ ما يقارب السنوات الثلاث، لنيل الحرية من نظام الأسد. فما صحة هذا التصور؟
أغلب الإجابات عن هذا السؤال، والتي تملأ العدد الهائل من أدبيات نقدية كتبها عن الثورة مثقفون وكتاب يؤيدونها بالكامل في معظمهم، تعترض على هذا التصور وتستنكره بوصفه محاولة عاطفية بائسة لرثاء النفس، أو رد فعل طفولي للتهرب من المسؤولية. وعلى العكس، يدعو كتّاب هذه الأدبيات الثوار السوريين إلى التصرف كبالغين مسؤولين، ويسعون إلى التصرف معهم بجدية كما يتوجب فعلاً على الأصدقاء الحقيقيين، الذين يجب أن تكون مهمتهم كشف العيوب والأخطاء، والتنبيه إلى ضرورة حلها، ومحاولة تقديم الحلول، أي المهة المعروفة لأي نقدٍ جاد، وليس ممارسة النفاق والإشتراك في بكائية المظلومية الثورية وعويل "ما لنا غيرك يا الله"! صحيح أنهم متعاطفون للغاية مع قضية الثوار، لكنهم يبتعدون عنهم مسافة الحياد اللازمة كي يكونوا موضوعيين كما يليق بالمثقفين الجادين.
لكنهم كي يكونوا قساة كما ينبغي في نصائحهم، يعتمدون على مفهوم صارمٍ وقاتم جداً للواقعية السياسية، مفهوم عقلاني شديد الجدية، لا مكان فيه للعاطفة والرومانسية الثورية. ومع التسليم بأن المسؤولية الأولى في الكارثة السورية تقع أولاً على عاتق النظام ذي الطبيعة الشديدة السادية والتوحش، وكذلك على النظام الدولي الذي تحكمه منظومة مصالح لا ترحم ولا تقل توحشاً، يرى هؤلاء الأصدقاء أن الواقعية تقتضي من الثوار، لا أن يشكوا مصيبتهم في النظام السوري والمجتمع الدولي إلى الله، بل أن يتحملوا بجدية مسؤولياتهم في التقصير والخطأ والتسبب بمصائب كثيرة، ساهمت أيضاً بدورها، وفي شكل كبير، في صناعة هذه المأساة. ومن ذلك:
- انحصار الثورة شعبياً في مناطق جغرافية ريفية بعينها، ذات طابع إثني ديني واحد، وعدم قدرتها على اختراق حاجز الخوف الإثني والديني عند شرائح اجتماعية أخرى ذات طبيعة مختلفة، ما حولها إلى ما يشبه الحرب الأهلية الطائفية. وأكثر من ذلك (وهذه مفارقة كبرى) لم تستطع حتى أن تخترق حاجز النرجسية الطبقية والثقافية لسكان المدن الكبيرة القديمة، وتعبر الهوة التقليدية المعروفة بين الريف والمدينة، لكي توحّد، على الأقل، أبناء الإثنية والملة الواحدة، وترتقي إلى مصاف الحرب الأهلية الكلاسيكية! لقد زاد الثوارُ المجتمعَ، المنقسم أصلاً، شرذمة وتفككاً، ولم يساهموا أبداً في توحيده.
- غلبة الطابع المحلي الضيق، أو العقائدي المتشدد، على أغلب تشكيلاتهم العسكرية، وعدم قدرتهم على التوحد في تنظيم عسكري واحد، ذي هيكلية متينة وتراتبية واضحة، ما جعل كثيراً من عملياتهم العسكرية شبيهة بالغزوات العشوائية من دون تخطيط عسكري استراتيجي محكم. وهذا حرمهم معونة الأصدقاء والأمل في تحقيق نصر عسكري مؤكد على جيش النظام وميليشياته الحليفة.
- لم يتمكنوا من إنتاج جسم سياسي جديد يمثلهم، ويعبر عن أهدافهم، ويكون بمثابة العقل السياسي الذي يطرح خطاباً سياسياً مقنعاً للسوريين وللعالم كذلك؛ عقل سياسي يسيطر على كافة أنشطة الثورة المدنية كما العسكرية، يصدر القرارات ويحالف الأصدقاء أو يفاوض الأعداء.
- أفسحوا المجال لدخول عناصر وجماعات الجهاد العالمي، وتساهلوا كثيراً مع الخطاب الإسلامي المتطرف، ما جعل الثورة مصدر قلق ورعب للعالم كله. كانت هذه خطيئة كبرى كافية لأن يصدر حكم عالمي بإعدام الثورة.
- فرط اعتمادهم على القوى الإقليمية والدولية، بحيث باتوا (ومعهم النظام نفسه كذلك) مجرد أداة عسكرية أو سياسية في أيدي هذه القوى. ولعدم فهمهم آلية عمل النظام الدولي و "لعبة الأمم"، أصبحوا هم أنفسهم لعبة يقرر نتيجتها اللاعبون الدوليون على طاولة خضراء في مدينة كجنيف مثلاً. لقد أصبحت سورية خارج أيدي السوريين، كما بات يؤكد جميع الكتاب الواقعيين، مع إبدائهم شديد الأسف طبعاً. وبالنتيجة، وباختصار شديد، يبدو أن الثوار يتحملون، من وجهة النظر "الواقعية الجادة" هذه، مسؤولية الفشل في إقناع المجتمع السوري المنقسم، والإقليم المتوتّر، وفوق ذلك غرب العالم، بأنهم بديل سياسي مناسب لنظام الأسد. هذا فضلاً عن إقناع شرق العالم طبعاً بالتخلي عن هذا النظام. إنهم ببساطة يتحملون المسؤولية تقريباً عن كل شيء يجري في هذا العالم اليوم، ويلامون لأن هذا العالم، وفي كل مكان منه، هو على ما هو عليه الآن!
لكن هذه النتيجة التي تخلص إليها الرؤية "الواقعية" مزحة بالتأكيد، لأنها تعني من جديد، وبطريقة "جادة"، أن الثوار على حق عندما يشعرون بأن العالم كله يقف في وجههم وليس لهم إلا الله! ولا يمكن بالطبع أن يسمح الذوق السليم بمزاح كهذا أمام مأساة رهيبة كالتي تشهدها سورية اليوم، فعلينا الابتعاد إذاً عن هذه السينيكية في مقاربتها ما دامت لا تؤدي في النهاية إلا إلى السخرية!
يمكننا بعكس ذلك أن نجرب تصديق الثوار والتعاطف مع مأساتهم. لا أقصد التعاطف الشعوري البسيط، أو التعبير الرخيص عن الأسف، بل التعاطف الفكري، الفلسفي تقريباً، مع حدث تاريخي كبير كالثورة السورية، التعاطف الذي يحاول أن يفهم المعنى الفينومينولوجي والإجتماعي لهذه المأساة التاريخية، وتحرضه هذه المأساة على طرح أسئلة وجودية من هذا القبيل ربما: كيف نفهم طبيعة المأساة التي يعيشها مجتمع شرق-أوسطي عربي مسلم عندما يحين وقت الإنتقال إلى عصر الحرية، وما هو النوع الخاص للحرية التي يطالب بها العرب المسلمون الشرق-أوسطيون، ولماذا تفضل شرائح اجتماعية واسعة من هذه المجتمعات الانغلاق على هوياتها القديمة الضيقة بدل الانفتاح على مشروع الحرية والاندماج فيه؟ أبعد من ذلك، ماذا تعني اليوم مأساة كهذه للبشرية عموماً؟ وبشكل أوضح: أين أصبحت قضية الحرية بالنسبة إلى العالم، وهل تراجعت أهميتها في الوعي العالمي المعاصر؟
هل نفهم وقوف العالم في وجه حرية السوريين، أو عدم اكتراثه بها على الأقل، على أنه يعني أن قضية الحرية، التي كانت القضية الرئيسة التي شغلت العصر الحديث، وكان وجودها يعني الإعلان الجوهري عن قدوم الحداثة، أصبحت ثانوية ولم تعد تؤثر كثيراً في وجدان البشر المعاصرين؟
هل يمكن القول إن الثورة كشفت أن العالم المعاصر بات على مشارف نهاية العصر الحديث، وبداية عصر جديد يمكن تسميته من الآن بأنه عصر ما بعد الحرية؟ ولو كان نيتشه حياً، هل سيكون بإمكانه أن يصرّح اليوم بأن مفهوم الحرية مات؟!
* كاتب سوري