الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أوباما في "حال الاتحاد": خطابيات وتقدمية وتناقضات

أوباما في "حال الاتحاد": خطابيات وتقدمية وتناقضات

26.01.2015
حسن منيمنة



الحياة
الاحد 25-1-2015
يبدو جلياً أن الرئيس الأميركي باراك أوباما قد رسا على إبراز التوجه التقدمي كإطار لمواقفه السياسية، بل كحصانة مستقبلية في التقويمات المرتقبة لتجربته الرئاسية، إذ دخلت شقّها الأخير. لكن هذا التوصيف يظهر عند المتابعة المتأنية لخطاب "حال الاتحاد" الذي ألقاه مساء الثلثاء الماضي، والذي جاء حافلاً بتفاصيل البرامج التقدمية المرتقبة، منطوياً على تناقضات تجعله أقرب للشكل منه إلى المضمون في بعض أوجهه.
في مناسبتين مختلفتين خلال الخطاب، أكّد أوباما أنه سيلجأ إلى حق النقض الذي يسنّه الدستور للسلطة التنفيذية في حال إقدام الكونغرس، بمجلسيه اللذين يسيطر عليهما خصومه الجمهوريون، على استصدار قوانين تعيد النظر بما يعتبره الرئيس مكتسبات تقدمية. فإقرار القوانين في الولايات المتحدة يتطلب تصديق الرئيس بعد الاستصدار، وإلا أعيدت المشاريع المرفوضة إلى السلطة التشريعية التي بوسعها تجاوز نقض الرئيس بتصويت جديد، إنما بتأمين أكثرية من الثلثين لها، وهو ما ليس متوافراً اليوم عددياً للجمهوريين. وتهديد الرئيس باستعمال النقض هو تحديداً لتجنب إدراج الجمهوريين في مشروع قانون الموازنة، والذي يتوقع صدوره عاجلاً، بنوداً تقوّض بعض برامج الدعم القائمة، لا سيما منها التي أقرّت في عهده هو، وعلى رأسها التغطية الموسعة في الضمان الصحي، أي البرنامج الذي يحمل اسمه "أوباما - كير".
إلا أن الرئيس لم يكتفِ بالموقف الدفاعي، بل وضع أمام الجمهور الأميركي حزمة متكاملة من المشاريع والبرامج المندرجة ضمن التصور التقدمي لدور إقدامي للدولة في ريادة الاقتصاد والمجتمع، وذلك تحت مسمى "اقتصادات الطبقة الوسطى". وتبني هذه التسمية على المقاربة الشعبوية التي تفرز المجتمع الأميركي فئتين، الأثرياء والطبقة الوسطى، وتدعو إلى تحميل الأثرياء، والذين وفق ما تفيده الدراسات يزدادون ثراءً، مقداراً أكبر من العبء الضريبي. وقد عمد أوباما، لتعزيز الدعم إلى الدعوة لتعديل الجدول الضريبي لتحصيل المزيد من الدخل من أموال الأثرياء، إلى الربط المباشر بين هذا الدخل، في حال تحقق، ومشروع جعل الدراسة في عاميها الأولين مجانية للانتساب إلى كليات المجتمع، والتي يرتادها أربعون في المئة من طلاب الدراسات العليا في الولايات المتحدة.
ولا شك في أن الرئيس أوباما من خلال الكفاءة الخطابية المشهودة ومناوراته في الدعوة إلى تغليب قيم التعاضد الاجتماعي والحس المدني على السجال والمشاكسة في السياسة، إضافة طبعاً إلى التفاصيل المغرية للمشاريع، تمكن من وضع خصومه في موقع دفاعي، على رغم إهماله التطرق إلى بعض الأسس الثابتة لأصحاب الرؤية العقائدية التقدمية، وتحديداً التشديد على عدم المس بالبرامج القائمة وفي طليعتها الضمان الاجتماعي، والتي يطالب الجمهوريون بتعديل أسسها لتقليص الأعباء المالية المتوجبة على الدولة، مقابل الموافقة على تقليص الموازنة الدفاعية.
لا خلاف إذاً، بين النبرة والمقصود عندما يتطرق أوباما إلى المسائل الداخلية، فهي من دون شك حيث قناعاته وجهده. أما عندما ينتقل من الشأن الداخلي إلى المواضيع الخارجية، والتي لم يمنحها على أية حال إلا مقداراً ضئيلاً من كلمته، فإن الانسجام بين الشكل والمضمون يلتبس بوضوح.
بعض الإشارات التي أوردها الرئيس سجالية بيانية بطابعها. ففي حديثه عن رد الفعل على ضمّ روسيا أجزاء من أوكرانيا وتورطها في حرب مقنّعة بالأهلية هناك، اكتفى أوباما بتسجيل النقاط على نظيره الروسي فلاديمير بوتين حول اعتماد روسيا على العائدات النفطية وتأثر اقتصادها بتراجع أسعار الخام، على رغم أن هذه التطورات خارج السياق. وفي موضوع المفاوضات مع إيران، لم يقدم أي تبرير للتمديد على رغم الالتزام السابق بالامتناع عن الوقوع في فخ المماطلة. غير أن الوهن الأكبر في الكلمة كان من دون شك في مقارباته للمسائل الحربية.
فإذا سارع أوباما إلى طرح الأرقام التي تبرهن أنه أنهى، أو كاد ينهي، الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، فإنه في الوقت نفسه طالب الكونغرس بإعطائه سلطة توسيع الحرب التي باشرت بها الولايات المتحدة على تنظيم الدولة في العراق وسورية. وهذا التناقض، أي الحديث عن إنهاء الحروب ومباشرتها في زفرة واحدة، يغفل تماماً دور الولايات المتحدة في تصديع المنطقة من خلال التذبذب والتنصل من المسؤوليات، في عهده هو بالذات. وما من إشارة في الكلمة إلى رؤية ذات مضمون لمعالجة القضايا التي ساهم غياب القوة العظمى الوحيدة في استفحالها، بل ثمة إشارات إلى وقائع المنطقة، كأنها أحوال جوية تتقلب وفق عوامل لا بد من التسليم بقضائها وقدرها.
والرئيس يريد كذلك ادعاء الفضل في إنهاء التعذيب في التحقيق مع المتهمين، غير أنه لا يشير إلى الأسلوب الأنجع من وجهة نظره والذي يجري تطبيقه في أكثر من موقع، أي أسلوب قتل المتهمين عن بعد من دون تحقيق أو إثبات تهمة. بل، بعد أن تسبب هذا الأسلوب بأعداد كبيرة من الضحايا العرضيين، من المدنيين، يعتز الرئيس أنه من طلب مراجعة المنهجيات لتحسين الأداء، من دون إقرار بالأذى الذي تسبب به الأداء السابق طبعاً، كأنه ليس هو من أرسى هذه المنهجيات أساساً. ثم في موضوع معتقل غوانتانامو، يبدو الرئيس وكأنه غير ذي سلطة تنفيذية، إذ يتحدث من منبر أقوى رجل في العالم كأنه ناشط حقوق إنسان يتمنى ويطالب، فيما القرار في مكان آخر. هكذا، يشهر الموقف الأخلاقي ويعلن العزم على الإغلاق، على رغم مضي ستة أعوام على توليه السلطة مع الوعد بإنهاء هذه المؤسسة المخالفة للقيم والقوانين.
إلا أنه لا يجوز اعتبار هذه التناقضات دليل نفاق. فواقع الحال الذي التزم به أوباما من دون تخلف هو أن الشأن الخارجي بعامة والشرق - أوسطي بخاصة لا يرتقي في الأهمية إلى المستوى الذي يقتضي منه الحرص على التجانس بين القول والفعل. وفي حين أن للولايات المتحدة مصالح ثابتة ومستمرة تتفاعل معها المؤسسات الحكومية المعنية، فتركيز الرئيس هو على مشروع تقدمي داخلي يبدو جلياً من خطابه هذا العام أنه محور تفكيره وأعماله.