الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أوكرانيا نهاية المغامرة الروسية

أوكرانيا نهاية المغامرة الروسية

12.04.2014
علي العبدالله


الحياة
الجمعة 11/4/2014
مع نهاية الحرب الباردة (قمة مالطا بين الرئيسين بوش الأب وغورباتشوف، 1989) وانهيار الاتحاد السوفياتي (1991)، شهد العالم توجهاً سياسياً دعا إلى تصفية بؤر التوتر والحروب وإقرار السلم العالمي. فقد سادت، لفترة وجيزة، أدبيات البيريسترويكا التي بشر بها الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، وتدعو إلى إقامة نظام دولي يعتمد "توازن المصالح" قاعدة له، وتعطي الأولوية للتعاون الدولي، ما يعني تراجع العامل العسكري وإعطاء الصدارة في العلاقات الدولية للعاملين السياسي والاقتصادي.
قاد هذا المناخ إلى بروز دعوات أوروبية إلى حل حلف الناتو بعد أن غدا، بفعل نهاية الحرب الباردة وحل حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفياتي، بلا معنى أو هدف، والى قبول دعوة غورباتشوف لإقامة أوروبا واحدة من الأورال إلى الأطلسي، والى حل النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية، وتقديم يد المساعدة للدول الفقيرة لإخراجها من حالة الانهيار الاقتصادي والصراعات العرقية والسياسية.
غير أن الولايات المتحدة رفضت هذا التوجه وقاومته بقوة، فالمحافظة على "توازن القوى" قاعدةً للعلاقات الدولية، وعلى حلف الناتو وتوسيعه وتعديل استراتيجيته وساحة عمله اعتبرت مصلحة أميركية. لذا تبنت سياسات مراوغة ودفعت باتجاه تأزيم النزاعات ودفع أطرافها إلى اعتماد الخيار العسكري، ولعل ما حدث في يوغسلافيا آنذاك خير مثال على هذا السلوك، حيث كشفت "هيرالد تريبيون" (15- 16/5/1992) ما قاله جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي، عام 1990 للرئيس اليوغسلافي ميلوزوفيتش: "إن واشنطن مع يوغوسلافيا موحدة أرضاً وشعباً"، وهذا شجع الأخير على الاندفاع في حرب مجنونة دمرت بلاده وشعبه وقادته إلى محكمة جرائم الحرب (يذكرنا هذا بلقاء السفيرة غلاسبي مع الرئيس العراقي صدام حسين قبل اجتياح الكويت، وإعلان ريتشارد ارميتاج، مساعد وزير الخارجية الأميركية، في دمشق عام 2004 ان قضية التمديد للرئيس اللبناني اميل لحود قضية تحل بالتفاهم بين سورية ولبنان).
لم يستمر حلف الناتو ويوسع ساحة عمله فقط بل واندفع بتوسيع عضويته بضم دول اوروبا الشرقية والاقتراب من الحدود الروسية أكثر فأكثر، مستغلاً ضعف روسيا وارتباكها ودخولها في حالة انعدام وزن خلال فترة حكم يلتسين، وقد جاء نشر أجزاء من الدرع الصاروخية في تشيخيا ورومانيا وتركيا، واجزاء أخرى متحركة على ظهر ناقلات في دول البلطيق ليثير مخاوف روسيا، لأنه يمنح أميركا فرصة توجيه الضربة الأولى ويشل قدرتها على الرد. ففي ذهن الروس مقولة هنري كيسنجر "روسيا ما زالت كبيرة لذا فهي خطيرة".
مع رئاسة فلاديمير بوتين تبنت روسيا، مدفوعة بنزوع قومي روسي لإعادة الاعتبار لنفسها والثأر من مرحلة الضعف والاحتقار الغربي، استراتيجية هجومية بهدف فرض هيبتها ودورها الاقليمي والدولي عبر السعي للهيمنة على الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي غلفته بمشروع سياسي اقتصادي: الاتحاد الأوراسي، وأطلقت، مستفيدة من تحسن سعر النفط والغاز الذي مكنها من تجاوز حالة العجز التجاري والمالي وحولها الى وضع ايجابي مع احتياطي نقدي كبير سمح برفع الموازنة العسكرية، برامج اقتصادية وعسكرية لإعادة التوازن لوضعها الداخلي وزيادة قدرتها على التحرك الإقليمي والدولي.
وهذا أجج الخلافات مع الغرب بعامة وأميركا بخاصة، وقد جاءت تحولات الربيع العربي والتصرف الغربي في ليبيا، وانفجار الثورة السورية على الضد من هوى الكرملين، لتزيد في سخونة المواجهة، في ضوء خشية موسكو فقدان آخر معاقلها في المتوسط، فتبنى موقفاً منحازاً للنظام في محاولة لتحقيق هدفين الاول حماية مصالحه وتواجده في المتوسط (قاعدة طرطوس) والانتقام من حرمان روسيا من الكعكة الليبية.
تزامن هذا التحرك مع ادارة أميركية تبنت لاعتبارات داخلية الرفض الشعبي للحروب الخارجية بسبب الضحايا والتكلفة المالية العالية، حيث قدرت خسائر الحرب في افغانستان والعراق بـ 8 تريليون. وظهر خلل مالي ومشكلات اقتصادية: بطالة تضخم، تآكل البنى التحتية. وكان لخيارات الحد من التدخل الخارجي، والتعاون والعمل المشترك لمواجهة المشكلات ومحاولة تحقيق المصالح بطرق أقل تكلفة مادياً وبشرياً، أن منحت التحرك الروسي فرصة تسجيل نقاط تفوّق ظاهرية عززت اندفاعة بوتين ورفعت من اسهمه الداخلية والدولية، ودفعته الى الرفع من نبرة التحدي والتوسع بعرض العضلات واستخدام القوة ضد خصومه الداخليين والخارجيين. وقد أغراه غياب الرد المباشر بالعمل على تحقيق نصر على الغرب في سورية عبر دعم النظام بأسباب البقاء وتغطيته اعلامياً وحمايته سياسياً.
ردت واشنطن على التشدد الروسي في سورية وإفشاله لـ "جنيف2"، عبر عدم قيامه بالدور المطلوب والضغط على النظام لدفعه للانخراط في مفاوضات جادة، بتشجيع المعارضة الاوكرانية وإشعال حريق في الحديقة الخلفية لروسيا.
لعب رد الفعل الروسي على سقوط يانوكوفيتش بالهجوم على القرم وضم الجزيرة الى روسيا الاتحادية، لمصلحة التوجه الغربي لضم اوكرانيا للاتحاد الأوروبي ورسم الحدود الشرقية للاتحاد وإبعاد روسيا عن دول البلطيق وبلغاريا ورومانيا.
لقد وقع بوتين في الفخ وارتكب الخطأ القاتل الذي نسف ادعاءه تبريرا لموقفه في سورية بتمسكه بسيادة الدول ورفض التدخل في شؤونها الداخلية والحفاظ على وحدة اراضيها، وعزل روسيا دولياً وخلق حالة عداء مع أوكرانيا أعطاها مبررات قوية للانضمام الى الاتحاد الأوروبي، وربما الى حلف الناتو ايضاً. وروسيا من دون اوكرانيا لن تكون دولة عظمى، وفق قول لبريجنسكي مستشار الامن القومي الاميركي الأسبق. فما حدث أعطى الغرب ما كان يسعى اليه ببسط نفوذه على جغرافية اوروبا بالكامل، وغدت على مفترق طرق: اما القبول بأوكرانيا دولة اوروبية او الدخول في صراع مديد سينعكس سلباً عليها بسبب التكلفة المادية التي ستترتب على العقوبات الاقتصادية وعلى الدخول في سباق تسلح وصراع على مناطق نفوذ في العالم في ضوء اقتصاد هش يعاني من نقطة ضعف بنيوية ثابتة وهي اعتماده على تصدير النفط والغاز.
ستعيد المواجهة التي انفجرت، والتي ستأخذ وقتاً طويلاً قبل اقتناع بوتين بالتراجع، تظهير الاوزان والأدوار وتعيد روسيا الى حجمها وتكشف وهم القيادة الروسية بالتحول الى ند لأميركا وإعادة العالم الى نظام ثنائي القطبية.