الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أية ثقافة لسوريا المستقبل؟

أية ثقافة لسوريا المستقبل؟

05.11.2018
حسام ميرو


سوريا تي في
الاحد 4/11/2018 
كانت لي مؤخراً فرصة المشاركة في لقاء أقامته جامعة Loccum في مدينة هانوفر الألمانية، وتضمن اللقاء جلسة موسعة، طرحت دور الثقافة في سوريا المستقبل، وكان واضحاً من جدول الفعالية أنها تنحو إلى اختزال الثقافة في الفعل الثقافي الأدبي والفني، وهو أمر يحدث بشكل كبير حين يكون الحديث عن الثقافة، حيث يتم حصرها بالمنتج، وليس بالجذر التاريخي والفكري والقانوني والسياسي، وهو ما يضرّ فعلياً بأي نقاش حول دور الثقافة، خصوصاً عندما يكون الأمر متعلقاً بالدول التي شهدت نزاعات وحروب، وتحوّلت إلى دول فاشلة، ومنها سوريا.
يقرُّ علماء الاجتماع المعاصرون بأنه لم يعد من الممكن التعاطي مع مفهوم الثقافة من دون النظر إلى ارتباطات المفهوم بأنماط الحياة والفكر
وللكشف عن تباين السياقات الثقافية للمجتمعات، فإن البحث في الجذور التاريخية يعد إحدى الطرق الناجحة في تحديد الاختلافات، كما أن البحث في طبيعة النظم الفكرية والسياسية السائدة في مجتمع ما من شأنها أن تفسر إلى حد بعيد طبيعة الثقافة السائدة، في نجاحاتها وإخفاقاتها، أو مدى قدرتها على التكيّف مع المتغيرات التي يطرحها الواقع في صيرورة تحولاته.
إن تحديد مفهوم الثقافة، من قبل جماعة ما، وخصوصاً الجماعات السياسية، ليس بريئاً من أيديولوجيا ومصالح الجماعة السياسية، كما أن تحديد نطاق معين للثقافة، أو المجال الثقافي، مرتبط أشدّ الارتباط بطبيعة المرجعيات الحاكمة للجماعات السياسية، أكانت قومية، أو دينية، أو وطنية، أو طبقية، ما يجعل من الاختلاف في تحديد مفهوم الثقافة جزءاً من الصراع السياسي، كما يجعل من امتلاك الحيز الثقافي-الاجتماعي صراعاً من أجل امتلاك السلطة، وبالتالي فإن الصراع على الثقافة هو صراع على السياسة، وهو أمر لا يتعلق فقط بالدول التي لم تنجز الأمة الدولة، بل أيضاً بتلك الدول التي أنجزت الأمة الدولة، وإلا كيف يمكن فهم الصراعات الدائرة اليوم في أوروبا، حول قضايا اللاجئين، أو الموقف من الإسلام، أو حتى الموقف من العولمة.
في السجال حول الثقافة، أو عند طرح سؤال: أية ثقافة نريد؟، ينبغي علينا الانتقال من التعريف المعياري للثقافة إلى التعريف الوصفي، أي الانتقال من المجرّد إلى المتعيّن الواقعي
إن العقد الاجتماعي المؤسس للدولة هو أيضاً عقد ثقافي بامتياز، وهو ما لم يلتفت إليه المفكرون العرب كما ينبغي، وقد يكون المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ (1930-1978) أول من تناول قضية الفوات التاريخي وعلاقته بالمسألة الثقافية، فلم يكتفِ الحافظ بالإشارة إلى المشكلات السياسية، بل أخضعها لمراقبة ثقافية نقدية، حيث أن أزمة الفوات التاريخي هي واحدة من الأزمات التي أنتجت بنى سياسية مستبدة، ومنحتها شرعية اجتماعية.
لقد قام العقد الاجتماعي المؤسس للجمهورية الثانية في سوريا على تحالف بين طبقة العسكر في قِناعهم الإيديولوجي البعثي القومي وبين طبقة التجار، بما يسمح بتبادل المنافع بين اطرفين، ومن الناحية الثقافية، فإن طبقة العسكر التي حكمت سوريا، بعد عام 1963، كانت من أصول ريفية، في الوقت الذي تنتمي فيه الطبقة التجارية السورية إلى أصول محافظة اجتماعياً، على الرغم من تمتعها ببعد براغماتي، نظراً لمكانتها ودورها ومصالحها، ولقد أفضى هذا العقد الاجتماعي إلى تكريس مستويات من التأخر الثقافي الاجتماعي والديني، مع بعض الواجهات التجميلية، غير المؤثرة في ديناميات المجتمع، وبقيت محصورة، بشكل كبير في أطر نخبوية، يمكن محاصرتها وقمعها متى أراد النظام السياسي.
وفي خضم الثورة السورية، بدا التناقض واضحاً بين طرفين، يعتبر الأول أن الثورة، في بعديها الرمزي والواقعي، تمرداً على منظومة سياسية ثقافية، معادية لمنظومته الثقافية الدينية، والتي سعت إلى طمس ثقافته وهويته، بينما يعتبر الطرف الآخر، أي الطرف المدني، أن الثورة إمكانية لتغيير سياسي ثقافي اجتماعي، ناهيك عن مسألة العدالة الاجتماعية، وقد خسر هذا الطرف حضوره الفاعل في الثورة، بعد أن تحوّل الصراع إلى صراع عسكري، ينطوي على مواجهة ثقافية رمزية، ذات بعد ديني.
من الأفضل لنا كسوريين أن نركز على سؤال: أية ثقافة لسوريا المستقبل؟، لكونه مرتبط أشد الارتباط بالعقد الاجتماعي الجديد، وهو بدوره متعلق بسؤال مركزي: أية سوريا نريد؟
وعودة إلى سؤال: ما دور الثقافة في مستقبل سوريا؟، الذي طرحته فعالية الجامعة الألمانية، فإنه من الأفضل لنا كسوريين أن نركز على سؤال: أية ثقافة لسوريا المستقبل؟، لكونه مرتبط أشد الارتباط بالعقد الاجتماعي الجديد، وهو بدوره متعلق بسؤال مركزي: أية سوريا نريد؟، فإذا كانت الجمهورية الثانية، بطبيعة نظامها السياسي الاستبدادي الأمني، كانت قد كرّست ثقافة تلفيقية وتوفيقية في آن، لم تتمكن من تجاوز الهويات الفرعية المكونة لأبناء وبنات الوطن السوري، فإن الصراع المسلح بين السلطة والإسلام السياسي عموماً، والجماعات الإسلامية المسلحة، أظهر بوضوح أن تبني مشروع مناقض لروح المدنية والمواطنة المتساوية، ما هو إلا انتكاسة كبيرة للثورة نفسها، ولعموم الوطن السوري.
أما المنتج الثقافي الذي يمكن أن يلعب دوراً إيجابياً في بناء الوطن السوري فهو المنتج الذي يتبنى قيم المدنية والمواطنة، والتي ترتبط، بما لا يقبل الانفصال، بمنظومة مفاهيمية متكاملة، من مثل العقلانية، والكونية، والتنمية، والسلام، والديمقراطية، ومفاهيم أخرى، لا تقل أهمية عن هذه المفاهيم.