الرئيسة \  مشاركات  \  إشراقة رمضانية ( 5 ) : دبلوماسية الدعاة

إشراقة رمضانية ( 5 ) : دبلوماسية الدعاة

31.07.2013
د. فوّاز القاسم


إن التدين  لا يعني الغباء .!
وإن المبدئية لا تعني الصلافة والوقاحة ، أبداً .!!
بل على العكس تماماً ، فالإسلام يحث أبناءه على الكياسة والفطنة والدبلوماسية. ويأمر أتباعه بالسهولة واليسر .
وكلما أوغل المسلم في التدين ، كلما ارتقى في سلم الأخلاق والفضائل. 
وهذا هو جعفر بن أبى طالب  رضوان الله عليه ، وهو في حضرة النجاشي ملك الحبشة ، فانظروه ماذا يفعل ..!؟
إنه ذلك الأعرابي القادم من أعماق الصحراء …
والذي يعترف هو بنفسه انه كان الى الأمس القريب ، يعبد الأصنام ، ويأكل الميتة ، ويأتي الفواحش .!
فما باله اليوم يدوخ الملوك ، ويعلم الامم !!؟
من ذا الذي أعطاه هذه الحجة ، وعلمه هذا المنطق !!؟ 
إنها العقيدة ، وإنه الاسلام .! ذلك الدين الذي انتشل العرب من مستنقعات الجهل والضعف والتخلّف والتشرذم والغثائيّة .
وارتقى بهم الى آفاق العلم والقوة والتقدّم والوحدة والعزّة والقيادة .
ولن يعود للعرب دورهم في قيادة الأمم ، وترشيد الحياة ، وصنع التاريخ ، ما لم يعودوا هم أولاً للتمسك بهذا الدين ، وتطبيق أحكامه ،  والالتزام بنصوصه …
لقد استخدم جعفر رضي الله عنه في حواره ، أسلوباً بارعاً جمع فيه بين المبدأية والمرونة بشكل مدهش.!
فافتتح خطابه أمام الملك بعبارات التودد والتقرب .. ( أيها الملك) .
وعرض قضيتة باختصار غير مخل ، فتكلم عن النقلة الهائلة التي نقلهم إليها الاسلام .
ثم عرّف بكليات هذا الدين ، وبكلمات معدودات .
وركّز على المعاني التي يعشقها الملك شخصياً من هذا الدين ( فدعانا الى الله لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ،  وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئاً ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ).
ومدح السلطان بما هو أهله ، بلا إسفاف أو شطط .
وأثار فيه معاني الحمية والرجولة والشهامة ، التي هي أصلاً من سجاياه وفطرته ، ففجرها تفجيراً ( أيها الملك . خرجنا الى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نُظلمَ عندك ) .
وانتهز الفرصة ، واستثمر المنبر ، للدعوة والطرق على الحديد الحامي ، وهذا هو دأب الداعية دوماً ، فهو يستثمر كل فرصة متاحة للدعوة الى الاسلام ، والتعريف بهذا الدين …
فهذا يوسف عليه السلام … يستثمر حاجة السجناء إليه لتأويل أحلامهم ،  فيطرق على الحديد الحامي ،  وينقلهم نقلة هائلة يدير فيها رؤوسهم ، قبل أن يمكّنهم من الجواب الذي ينتظرونه .!
(( يا صاحبي السجن ، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ، ما أنزل الله بها من سلطان .
إن الحكم الا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) . يوسف (40) .
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم ، يكلمه المشركون في الصلح والتفاهم ، فيحلّق بهم في آفاق الاسلام ، وينقلهم الى قمم العقيدة …
(( ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني اليكم رسولاً  ، وأنزل علي كتاباً ، وامرني ان أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة ، وان تردوه علي ، أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم )) .
وهذا هو التلميذ النجيب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ..
يعزف على نفس الأوتار ، ويحلّق في ذات الآفاق …
إنه داعية يبحث عن قاعدة آمنة لدعوته ، قبل أن يكون مجرد هارب فارّ بلحمه و دمه ….
وأية داعية في الوجود ، ذاك الذي يُبكي الملوك حتى تخضل لحاهم ، والأساقفة حتى يبللوا مصاحفهم .!؟ 
ويسكر الناس لا بخمر هبُل ، ولكن بقرآن الله عز وجل .!؟ 
ولقد أثمرت هذه الدعوة المباركة أعظم الثمار ، فأسلم النجاشي رحمة الله عليه ، وفتح قلبه وأرضه للمسلمين ، وأسلمت مجموعة كبيرة من أساقفته ، وهم الذين قدم بهم جعفر رضي الله عنه فيما بعد الى مكة ،  فقابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقوه ، فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى الى يوم القيامة :
(( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به ، إنه الحق من ربنا ، إنا كنا من قبله مسلمين ، أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ، ويدرؤون بالحسنة السيئة ، ومما رزقناهم ينفقون ، وإذا سمعـوا اللغوا أعرضـوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكـم أعمالكم سـلام عليكـم لا نبتغـي الجاهلين )) (القصص(54) .بوطي ص 130 .رواه ابن اسحق ومقاتل ، والطبراني عن سعيد بن جبير …
ألا ، فليتعلّم الدعاة ، والقادة ، وأصحاب المباديء ...!!!