الرئيسة \  واحة اللقاء  \  إصلاح هوياتي علَوي أم تأسيس مذهبي "لقيط" ؟

إصلاح هوياتي علَوي أم تأسيس مذهبي "لقيط" ؟

11.04.2016
عمر قدور


الحياة
الاحد 10/4/2016
بخلاف ما تداولته وسائل إعلام غربية، خرجت وثيقة الإصلاح الهوياتي "العلوية" بلا نقد مباشر لنظام بشار، أو تخلٍّ صريح عنه. أيضاً، خرجت إلى النشر كلقيط لا تُعرف نسبته، مع ادّعاء من أصحابها المتوارين بأنهم بمثابة "سلطة الضمير الجماعي" للعلويين، والادعاء بأن هذه "الهيئة الآمرة" مفوّضة من الضمير الجمعي.
هي بالتأكيد سابقة، منذ انقلاب البعث، أن تدعي مجموعة ما صفة تمثيل العلويين خارج مركز السلطة. وهي إشارة تكتسب دلالاتها من مواظبة النظام على ربط وجود الطائفة باستحواذها التام على السلطة عبر عائلة الأسد، ما يجعل الأخيرة رمزاً لوجود الطائفة، مثلما عمل إعلامه على تصويرها رمزاً لانتشالها من وضعية المظلومية التاريخية. في بداية الثورة، كرر تلفزيون النظام بث تسجيل لامرأة علوية مسنة تخاطب عائلة الأسد بما معناه أن العلويين لم يكن لهم وجود قبل سلطتهم.
الوثيقة، من هذه الوجهة، تلاقي تحدياً كبيراً، فللأسدية باع طويلة مرتبطة بالاستحواذ على القوة، وطوال أربعة عقود ونصف نشأت أجيال ترى فيها الملاذ والحماية، فضلاً عن تلك التي ترى فيها القوة والتمكن. الأسدية على علاتها، وحتى على تواضع منبتها العائلي والديني ضمن "الطائفة"، وعلى رغم سقوطها القريب المحتمل، قوة متعينة بتدرجات من السلطة يصعب مواجهتها ببيان لا تُعرف قوة حامله الاجتماعي على وجه الدقة. إنه تحدّ في الوسط العلوي نفسه، قبل أن يكون حيال نظرة الآخرين. فالأسدية من وجهة نظر مثقفين علويين "ينتقدونها" هي الخيار الواقعي في مواجهة "الإرهاب التكفيري السني".
هنا لا بأس بالتذكير بأمرين، أولهما استفادة النظام من عدم وجود مأسسة طائفية سابقة عليه، مع استثمار أقصى لحس المظلومية، بحيث يصبح هو "مؤسسة الطائفة". هذا يُحسب لعلويي سورية، بقدر ما كان نقطة ضعف استثمر فيها النظام ولا يزال. الأمر الآخر هو الدور الذي لعبه ويلعبه مثقفون من أبناء الطائفة لمصلحة رواية النظام ذاته، أي لمصلحة اعتباره الملاذ الوحيد من مظلومية لا بد قادمة، حتى مع إقرارهم بكل مساوئه وشروره.
من الضروري التنويه بأن هذين التيارين المتساندين بقوة كرسا فكرة صراع الوجود، ومبدأ الاستحواذ على السلطة كضمانة وحيدة من خطر "الآخر السني"، ولم يعمل أحد منهما على مبدأ: إذا كان "الشر" قادماً لا محالة، وسيبقى قائماً ما بقيت الأكثرية الحاملة له، فمن الأفضل الدخول معه في اشتباك سياسي.
على ذلك، لعل أهم ما جاء في وثيقة الإصلاح القول أن المظلومية لم تعد عنصراً من عناصر تعريف العلوي بذاته، بالتوازي مع تبلور مفهوم جديد متمايز عن الشيعية والسنية. اعتبار المظلومية جزءاً من الماضي يفترض إلغاء مفاعيلها السياسية الحالية، على عكس ما تذهب إليه الأسدية ومثقفوها، وحتى بعض معارضيها "الداخليين". لكن يبقى لافتاً للانتباه عدم تطرق الوثيقة، ولو مواربة، إلى الحقبة الأسدية وتأثيراتها على تعريف العلويين، سواء من جهة الـ "نحن" أو من جهة الـ "هم"، ما قد يدفع إلى الظن بوجود مقايضة مقترحة بين المظلومية العلوية التاريخية والمظلومية السنية الناشئة، على رغم تبرئة سنة سورية من مظلومية العلويين ورميها على "الغرباء" الذين حكموا البلاد.
في المقابل، ثمة فقرة ذات مغزى متعدد، فالمادة 18 من الوثيقة تنص على: "إعلان الهوية الجديدة للعلويين في هذه الوثيقة، يصادف التقاء مسيرين مشهودين نحو غد واعد للأرض السورية. فبقية السوريين يبتدرون بالانتفاض، قوة الغضب المُحقّ، أما العلويون فيبتدرون بالإصلاح الهوياتي، سلطة الضمير الجماعي". إذ لا يخفى الإقرار بأحقية الثورة، مع اعتبار الوثيقة مكافئاً لها من المقلب الآخر. هذا الربط يخالف السائد حول الفصل بين النظام والعلويين، لتبدو العلوية "التقليدية" جزءاً من الماضي ومن النظام وأزمته في آن.
قد يصحّ، من باب التفاؤل، اعتبار ما يُسمى إصلاحاً هوياتياً بمثابة تعويض عن بساطة العلوية التقليدية، أو بالأحرى العلوية الشعبية التي لم تعد تشكل مذهباً متماسكاً، وإن شكلت نسبة منها طائفة حول السلطة. إذ لا يخفى غياب ظاهرة التدين على نطاق واسع لدى العلويين، واقتصارها غالباً على قليل من الرمزيات، مع حضور أكبر لحس المظلومية الأقلوي. والأقلوية بهذا المعنى غير مرتبطة إطلاقاً بتماسك مذهبي، وهذا يحيل ثانية إلى الجذر السياسي للطائفية، بينما تحيل الوثيقة الجديدة إلى تماسك مذهبي "هوياتي" أكبر على حساب الاصطفاف الطائفي الحالي. لا يمنع هذا أن يحمل التأسيس الجديد إمكانيات طائفية سياسية على أسس من التشارك أو المحاصصة بدل الاحتكار الذي مثلته حقبة الأسد.
ما تقترحه الوثيقة يبقى شرطياً على عدة مستويات. التعريف الجديد للعلوي المتخلص من أقلويته يقتضي مناخاً عاماً لا حساب فيه للمنطق العددي، أي مشروط بالعلمانية المنصوص عليها صراحة. في السياق لا يغيب عن الوثيقة انتقاد المرجعية الإسلامية في الحكم التي لازمت التشريعات السورية منذ الاستقلال، وصولاً إلى الحقبة الأسدية. ولا يغيب عنها النص الصريح بلزوم إزالة أي مرجعية إسلامية من الدستور، بحجة أن الإسلام مصدر اختلاف بين المذاهب لا مصدر الاتفاق اللازم للدولة. من دون اتهام واضعي الوثيقة، ينسجم هذا الشرط تماماً مع ما أشيع عن اقتراحات النظام حول مشروع الدستور الجديد، ما قد يتكفل بردود أفعال سلبية إزاءه. على الأقل، يمكن الجزم بأن المناخ الحالي، المكتظ بالريبة والأحقاد المتبادلة، لا يمنح واضعيها ريادة مطلبي العلمانية والديموقراطية معاً، بخاصة مع توافر عدد كبير من مثقفي الأسدية الذين قدموا العلمانية كثقافة محابية للمذاهب الأخرى، وضد الإسلام السني حصراً.
وكما في كل وثيقة مشابهة، المحك ليس إصدارها، بل ما ستلقاه من قبول لدى جمهورها أولاً. لكن يُسجّل لها أنها أول نص صريح يتفكر في ما بعد المرحلة الأسدية من دون اصطدام صريح معها، في وقت ربما تحتاج فيه شريحة من أبناء الطائفة مرشداً لتخطيها. واقعياً، حتى سقوطها التام، من المرجح بقاء الهيمنة للأسدية، لكن من المهم أن يخرج من أوساط "الطائفة" مَن يؤكد أن المنحدرين منها لن ينتهي وجودهم مع الأسد، بخلاف كثر ربطوا الوجودين معاً تحت ذريعة عدم وجود ضمانات من الطرف الآخر.