الرئيسة \  واحة اللقاء  \  إفلاس أميركا غير المعلن ينعكس على عجز أوباما

إفلاس أميركا غير المعلن ينعكس على عجز أوباما

06.04.2014
سليم نصار


الحياة
السبت 5/4/2014
قبل أن يزور القاهرة سنة 2009، حرص الرئيس الأميركي باراك أوباما على زيارة الرياض كتأكيد على إحياء العلاقات التاريخية التي دشنها الرئيس فرانكلن روزفلت مع الملك عبدالعزيز في شباط (فبراير) 1945.
وللإحاطة بظروف زيارة أوباما للسعودية نهاية الشهر الماضي، لا بد من مراجعة سريعة لطبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية التي تطورت بين الدولتين على امتداد سبعين سنة تقريباً، أي منذ التقى روزفلت العاهل السعودي في البحيرات المرّة شمال مدينة السويس.
ويقول أرون ديفيد ميللر في كتابه "النفط السعودي وسياسة أميركا الخارجية"، إن روزفلت كان راغباً في إقناع الملك بتأييد مشروع إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين. ولكنه فوجئ باعتراض الملك عبدالعزيز، الذي اقترح خلال ذلك اللقاء، أن يُعطى النازحون من ألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية مساحة للعيش في الدول التي اضطهدتهم وطردتهم. وبعد نقاش طويل، وعد روزفلت بمراجعة سياسة واشنطن بشأن فلسطين.
وكان ذلك الوعد مناقضاً لوعده الانتخابي الذي قطعه لروبرت واغنر، العضو الصهيوني البارز في مجلس الشيوخ، الذي تعهد بدعم إقامة "كومنولث يهودي-عربي" في فلسطين.
وفي نهاية اللقاء، أعلن الرئيس الأميركي بأنه لن يقدم على اتخاذ أي قرار من شأنه الإساءة إلى العرب أو اليهود. وقد جدد هذا الموقف رسمياً عبر الرسالة التي بعث بها إلى العاهل السعودي، مؤكداً له أن الإدارة الأميركية لن تتخذ أي قرار يتعلق بمستقبل فلسطين قبل التشاور مع اليهود والعرب.
ويُستَدَل من السجل الطويل لعمليات تعاطي رؤساء الولايات المتحدة مع هذا التعهد، أن هاري ترومان (1948) ولندون جونسون (1967) هما اللذان خالفا هذا المبدأ بصورة منحازة لإسرائيل، في حين صاغ الرؤساء الآخرون سياستهم الخارجية تجاه الفلسطينيين والعرب بشكل معقد ومضلل، سمح لإسرائيل بضم القدس الشرقية وقضم نصف الضفة الغربية.
مآخذ السعودية على الرئيس أوباما كثيرة ومتشعبة، خصوصاً الموقف المتعلق بالانعطافة السياسية التي اتخذها تجاه ايران في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وهي -من حيث المبدأ- مخالفة لتعهد سلفه الرئيس روزفلت، ومناقضة للتعاون الوثيق الذي وقعته واشنطن مع الرياض لإعلان حرب على الإرهاب.
يومها رأى أوباما أن إيران تمثل قمة الإرهاب، كونها تعمل في السر لتغيير الميزان الإقليمي لصالحها عبر حصولها على السلاح النووي. ومثل هذا التغيير يمنح طهران فرصة استثنائية لضم عراق المالكي إلى فضائها السياسي، ومواصلة توفير دعمها العسكري لنظام بشار الأسد، وزعزعة الاستقرار في لبنان والبحرين، واستئناف هيمنتها على الجزر الثلاث التابعة لدولة الإمارات.
وكما تعاملت إدارة أوباما مع إيران حسن روحاني بالتغاضي عن ارتكاباتها في المنطقة... كذلك تعاملت مع سورية الأسد بالتردد والتخاذل. وقد ظهر هذا الأسلوب جلياً يوم تراجع أوباما في اللحظة الأخيرة عن مهاجمة سورية بسبب استخدامها السلاح الكيماوي. ولما اشتدت حملة الانتقاد والتجريح ضد انكفائه المُهين، قرر إغلاق السفارة السورية في واشنطن، وطرد الدبلوماسيين، معتبراً أن هذا الإجراء قد يرضي الشارع العربي الغاضب.
الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات والسفير السعودي السابق، هاجم بصورة متواصلة سياسة التخاذل التي يعتمدها الرئيس أوباما، وتحدث عن احتمال ظهور استراتيجية خليجية جديدة معارضة للتحالفات التقليدية المعروفة.
وكان بهذا التلميح يشير إلى تزامن زيارات مسؤولين خليجيين إلى بلدان آسيوية كتدليل على أهمية التحول الذي أحدثه التعاون الأميركي-الإيراني. وقد افتتح "طريق الحرير" ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، بسلسلة زيارات رسمية شملت: باكستان واليابان والهند والصين.
وفي الوقت ذاته، قام ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بجولة آسيوية بدأها في طوكيو. وصدف أيضاً أن أنهى عاهل مملكة البحرين حمد بن عيسى آل خليفة زيارة رسمية للهند، التقى خلالها كبار المسؤولين، وأجرى معهم مشاورات بشأن تطوير علاقات بلاده بدول آسيا.
وكان لهذه الزيارات المتكررة أثرها البالغ في إطلاق حملات الاعتراض ضد سياسة باراك أوباما خلال الولاية الثانية من حكمه، ذلك أنه دخل في مفاوضات ديبلوماسية مع ايران بهدف توظيف نفوذها وتغيير سلوكها الخطير الذي يهدد مصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائها في دول الخليج.
اللقاءات التي أجراها الأمير سلمان بن عبدالعزيز مع كبار المسؤولين في باكستان واليابان والهند والصين، أكدت وجود هامش وسيع يمكن استغلاله لإعادة ربط مصالح الدول الآسيوية بمصالح الدول الخليجية، ففي باكستان اجتمع مع رئيس الوزراء محمد نواز شريف ورئيس الجمهورية مأمون حسين، ومختلف القيادات السياسية والعسكرية والاقتصادية. وصدرت عن الجانبين تصاريح تتعلق بالشراكة الاستراتيجية التي تطورت منذ منتصف الستينات، وظلت وفية لمعايير الصداقة الثابتة.
وفي اليابان، رحب الإمبراطور أكيهيتو بضيفه الأمير سلمان، مذكراً بالعلاقات التاريخية التي استمرت منذ سنة 1938، أي قبل الحرب العالمية الثانية. وقد وعد رئيس الوزراء شينزو آبي بتطوير هذه العلاقة الاقتصادية، عبر توقيع عدة اتفاقيات تجارية وثقافية. والمعروف أن الميزان التجاري بين طوكيو والرياض بلغ سنة 2012 ما نسبته 63 بليون دولار. في حين بلغ التبادل التجاري مع الهند في السنة ذاتها 43 بليون دولار. وقد وعد الأمير سلمان مجلس الأعمال السعودي-الهندي بضرورة مضاعفة هذا المبلغ عبر زيادة المشاريع المشتركة وتوسيع مجالات الاستثمار.
وفي بيجينغ، رحب الرئيس الصيني شي جين بينغ بولي العهد السعودي، متمنياً بناء شراكة استراتيجية بين البلدين تقوم على مبادئ التعاون والاحترام. خصوصاً في ظل الحاجة الكبيرة لأهم منتِج للطاقة بحيث تصدِّر المملكة عشرة ملايين برميل يومياً. وقد استوردت الولايات المتحدة منها السنة الماضية ما قيمته 52 بليون دولار. وهذا الرقم يمثل 15 في المئة من الواردات النفطية الأميركية. وتزعم إدارة الطاقة في واشنطن أنها ستستغني عن كل وارداتها النفطية خلال السنوات الخمس المقبلة. والى أن يتحقق هذا الزعم، تبقى روسيا أكبر منتج للطاقة... وتبقى السعودية أكبر مصدِّر لها.
يميل المحللون إلى تفسير انحدار مكانة الولايات المتحدة في نظر دول مجلس التعاون الخليجي إلى تراجعها المتواصل أمام الهجمة الروسية-الإيرانية. وقد بلغ هذا التراجع ذروته عندما توقف الرئيس أوباما عن تسديد ضربة عسكرية إلى سورية. وبرر قرار التجميد بالانصياع لإرادة القيادة الحربية التي رأت أن إسقاط النظام في سورية من دون إنزال عسكري سيمهد الطريق لحكم "القاعدة" وأخواتها. أما في حال أتبع الضربة بتنفيذ عملية إنزال، فان هذا التورط سيؤدي إلى خلق عمليات استنزاف شبيهة بالعمليات التي أجبرت واشنطن على سحب قواتها من العراق وأفغانستان. وحيال هذا المأزق المحرج، قرر أوباما التعاون مع روسيا وإيران لإخراجه من المستنقع الدموي الذي سقط فيه.
في محاولة لتفسير الموقف الأميركي المرتبك، ألقى نائب وزير الخارجية وليام بيرنز محاضرة في "مركز الدراسات الاستراتيجية" في واشنطن، قال فيها: "لقد نشرنا في منطقة الخليج أكثر من 25 ألف جندياً اميركياً في أكثر من 12 قاعدة. وعززنا تلك القواعد بأنظمة استخبارات متقدمة، وأنظمة دفاع صاروخية، إضافة إلى طائرات حربية مقاتلة". وشدد بيرنز في كلمته على التزام الرئيس أوباما بمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، والسعي إلى حل هذه القضية من طريق التفاوض. وقال أيضاً: "نحن ندرك أن فرص التوصل إلى اتفاق مع ايران لا تزيد على نسبة خمسين في المئة. ومع أننا حققنا الخطوات الأولى لعملية التفاوض، إلا أن هذا النجاح لا ينسينا المخاوف الخليجية، والمساعي الدؤوبة التي تمارسها ايران من أجل زعزعة الاستقرار في لبنان وسورية والعراق ودول مجلس التعاون، ومن طبيعة هذا الواقع، نرى أن من مصلحة الجميع إيجاد أرضية مشتركة نعمل من خلالها لإنهاء النزاعات وتأمين الإصلاح والاستقرار".
يشدد الديموقراطيون في الولايات المتحدة على أهمية الدور السعودي لدى باراك أوباما، بعدما أرجأ اجتماعه بقادة دول الخليج بسبب الخلاف السعودي- القطري.
ومع أن أوباما لم يحترم وصية روزفلت، إلا أنه من جهة أخرى، رفض إلغاء تحالف يجمع بين بلاده والمملكة منذ سنة 1945.
ويقول المعلق الأميركي ديفيد أغناطيوس، إن استقبال الملك عبدالله بن عبدالعزيز ضيفه في "روضة خريم"، كان ودياً وصريحاً. علماً بأن اختلافهما حول المسائل الإقليمية المطروحة كان خاضعاً لمقتضيات مصالحهما الوطنية. والمثل على ذلك أن الرياض لا تعتبر وساطة واشنطن كافية لإرغام إسرائيل على تبني طروحاتها. بينما يعتقد أوباما أن إدارته لا تستطيع إملاء خياراتها على بلد يملك من النفوذ داخل مؤسساته الرسمية والخاصة أكثر مما يملك رئيس الجمهورية.
أما بالنسبة للحرب الأهلية في سورية، فإن الرياض تسعى لإسقاط نظام الأسد منذ سنة 2012، مستخدمة من أجل ذلك كل الوسائل المتاحة. في حين تنظر واشنطن إلى معارضي النظام نظرة تشكيك بقدرة المتمردين على إسقاط النظام.
والموقف ذاته ينسحب على ايران، التي تعتبرها السعودية خطراً وجودياً، دينياً، عرقياً يهدد سلامة الأنظمة القائمة في العراق وسورية ولبنان واليمن، كما يهدد مستقبل دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين وغيرهما من دول مجلس التعاون الخليجي.
يتهم رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو الرئيس الأميركي باراك أوباما بالعجز والتضليل، لذلك اعتذر عن الاجتماع بقادة مجلس التعاون الخليجي بحجة أنه يتجنب الإحراج وسط الخلاف السعودي- القطري، والسبب الحقيقي أنه عاجز عن تلبية مطالبهم في ردع تهديد إيران، وهو مصرّ على استقبال الدالاي لاما، عدو بيجينغ، لأن هذا السلوك يقوي موقعه لدى كوريا الجنوبية الخائفة من شطرها الشمالي المتحالف مع الصين.
كل هذه التراجعات والإخفاقات سببها خفض ميزانية الدفاع بشكل لم تعرفه الولايات المتحدة منذ سنة 1940. وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا الإفلاس غير المعلن على الموقف الأميركي في فلسطين وسورية وأوكرانيا... وحتى لبنان!