الرئيسة \  واحة اللقاء  \  إلى متى تنتظر سوريا ليدرك البعض أن مدرسة التطرف واحدة؟

إلى متى تنتظر سوريا ليدرك البعض أن مدرسة التطرف واحدة؟

02.02.2015
د. وائل مرزا



الشرق القطرية
الاحد 1-2-2015
لا نضرب ب (المندل)، ولا نعرف الغيب، ويمكن جداً أن نخطئ ونصيب، لكننا نحاول قراءة الحاضر واستقراء المستقبل بشيءٍ من المنهجية، مع استصحاب تجربة التاريخ ودروسه.
منذ أكثر من عام، نشرنا في هذه الصفحة مقالاً بعنوان (الجولاني: خطابٌ لا يليق بسوريا وحضارتها)، بدأ بالفقرة التالية: "حريٌّ بأبي محمد الجولاني أن يتواضع كثيراً وهو يتحدث عن حاضر الشام ومستقبلها، وعما يريده أهلُها ولا يريدونه. وأكثرَ من ذلك، حريٌّ به أن يراجع كلامه ألف مرة ومرة عندما يتصدى للحديث عن مشروع الجهاد في الإسلام، والذي قال إنه مشروع جبهة النصرة التي يترأسها، وهو مشروعٌ حسب قوله: (ليس وليد اللحظة، بل نتاج تاريخ طويل من الجهاد، يعود إلى زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته، فهم ينتظرون من ذلك الوقت هذه اللحظة ومن بعد سقوط الدولة العثمانية لإعادة سلطان الله على الأرض)!
أكد المقال المذكور أن (الإسلام) الذي يريد الجولاني وجبهته (النصرة) لا يمت بِصِلةٍ إلى (الإسلام) الوسطي المعتدل الذي يؤمن به السوريون، من المسلمين وغيرهم. وبالتالي، خلص المقال إلى أنه لا مكان في سوريا المستقبل لمثل تلك الرؤية المختزلة للدين باسم (الإسلام).
لا حاجة للتفصيل في حجم وطبيعة التهجم الذي لاقاهُ المقال المذكور، وصاحبه، فقد بات هذا تكراراً لا يفيد في شرح جانبٍ من الأزمة.
لكن ما يستحق التأمل هو تصاعد الانتقادات في الأيام والأسابيع الماضية ل(النصرة)، بسبب ممارساتها المُسيئة باضطراد، وتحديداً من قِبل شخصيات وجهات سياسية ودينية، بل وبعض النشطاء، ممن كانوا يؤكدون، بحسمٍ وقوة، على الفوارق الكبيرة بينها وبين (داعش)، وممن كانوا يعتبرون نقدها، وقتذاك، وكالعادة في تأويلاتهم، إما نوعاً من (التخذيل)، أو بحثاً عن مصالح خاصة، ونتيجة طبيعية للعمالة والتآمر على (الثوار الحقيقيين). وكان من هؤلاء، طبعاً، من لم يُقصروا في استهداف المقال المذكور وكاتبه.
لا مشكلة أبداً، على الصعيد الشخصي، في مواجهة ذلك الاستهداف لمن رضي أن يتصدى للعمل العام وأن يعبر عن رأيه باستقلالية وشفافية. بل المفارقة أن مثل هذه الظواهر تُثبت مع الأيام صدقية المرء، وأهمّ من هذا، صدقية الخلفية العلمية والثقافية التي يُبنى عليها النظرُ والتحليل.
لكن الموضوع يتجاوز الأفراد، لأنه يتعلق ببلدٍ لم يعد يليق به وبتضحيات أهله أن يستمر ساحةً للتجارب النظرية والعملية.
ما معنى أن تنتبه اليوم شخصياتٌ رمزية، ومعها هيئاتٌ دينية وسياسية، في مقدمتها الائتلاف الوطني، إلى "التصرفات والتجاوزات التي صدرت وتصدر عن جبهة النصرة"، وأن بعضها يمثل "تجاوزاً خطيراً يذكر السوريين بالتصرفات الإجرامية التي قام بها تنظيم الدولة الإرهابي ومن قبله نظام الأسد". كما بين الائتلاف على لسان ناطقه الرسمي.
المأساة أن بعض التصريحات المذكورة لا تزال تُشير إلى الموضوع باستحياء، رغم قصدها الواضح بانتقاد (النصرة).
والمأساة الأكبر أن فيها، أحياناً، تلميحاً إلى إمكانية عودة (النصرة) إلى (جادة المنهج).
لكن المأساة تبلغ قمتها حين نعلم أن شخصيات وجهات شرعية (مُعتبَرة) لا تزال تلتزم الصمت تجاه الموضوع، حتى الآن!
يجري كل هذا فيما تريد الغالبية الكبرى من هذه الجهات التصدر لقيادة الثورة، بلسان الحال وبلسان المقال، وباسم احتكار (الإسلام). ويجري بينما (النصرة) تعمل على الأرض بشكلٍ حثيث وجدي لإلغاء كل القوى الأخرى، بأعذار مختلفة، تمهيداً لإقامة (إمارتها) في الشام، سيراً على طريق (داعش)، عدوها اللدود.
تُفكرُ بكل الأوصاف التي يمكن أن تُطلق على الظاهرة بمجملها، فلا تجد أنسب من وصفها ب(المهزلة). لهذا يبدو طبيعياً أن تصل إلى درجةٍ لم تعد تستحق معها كثيراً من التحليل، ولم يبقَ فعلاً إلا انتظار التطورات التي ستذهب بها إلى هوامش التاريخ، وتتحقق معها عملية (الاستبدال) التي يصنعها الله على عينه، وفق سننه وقوانينه.
لا يبقى إلا أن نستميح القارئ الكريم العذر في ختم الحديث هنا ببعض ما ذكرناه في ذلك المقال.
"ثمة كثيرٌ يمكن نقده ونقضه في حديث الجولاني ومقولاته لقناة الجزيرة مما لا يتسع له هذا المقام. والمُفارقةُ تكمن في حقيقة أن أي طالب علمٍ جدﱢي يمكن له أن يقوم بتلك المهمة، وبسهولة. لكن المُفارقة تبلغ حد المأساة حين ندرك أن الجولاني يضع نفسه رغم ذلك عملياً، وبغض النظر عن كل شعارات التواضع، في مقامٍ أكبر منه بكثير، لأنه بمنطق القوة يؤثر بشكلٍ أو بآخر في مصير بلدٍ كامل، ليس كأي بلد، هو سوريا.
والمقابلة بأسرها تبين بجلاء أن رجلاً يضع مستقبل بلاده على المحك لا يرقى لأن يكون تلميذاً للأعلام الذين صنعوا تاريخ سوريا وحضارتها.
نعلم أن هناك دائماً فرقاً بين الإخلاص والصواب. وهاتان صفتان لا تجتمعان بالضرورة لدى كثيرٍ من الناس، لكن المأساة تظهر، مرةً أخرى، حين يكون هذا حال إنسانٍ يضع نفسه في موقعٍ يؤثر في البلاد والعباد، وهو يجهل تلك الحقيقة.
من هنا، نقوم بواجبنا، ونؤكد على أن الصواب يُجانبُ الجولاني إلى درجة كبيرة، وكبيرةٍ جداً. وعلى أنه يرتقي مركباً صعباً، ويضع نفسه أمام مسؤولية نؤكد أمام الله والتاريخ أنه لا يعرف حجمها. كما نُشهد الله والسوريين على هذا الكلام".