الرئيسة \  تقارير  \  إندونيسيا تقدم للعالم نموذجا في الحكم الرشيد

إندونيسيا تقدم للعالم نموذجا في الحكم الرشيد

18.12.2021
كيشور محبوباني


كيشور محبوباني – (موقع قنطرة) 4/12/2021
الغد الاردنية
الخميس 16/12/2021
على الرغم من معرفة العالم بماهية الحكم الرشيد، هناك ديمقراطيات -حتى غربية- انتخبت حكاما مخادعين. ولذلك يستحق نجاح جوكووي في إندونيسيا التقدير، ويمكن للعالم أن يتعلم منه.
 
* *
الأخبار السيئة، بعكس الجيدة، تنتشر بسرعة. عندما انهارت حكومة أفغانستان في العام 2021، راقب العالم بأكمله ما جرى هناك. ولكن، عندما ظهر في إندونيسيا -البلد الأكثر اكتظاظا بالسكان ذو الأغلبية المسلمة- أكثر قادة العالم المنتخبين ديمقراطياً فعاليةً اليوم -الرئيس جوكو ويدودو الذي يعرف شعبيا باسم جوكووي- ظل الجميع تقريبا من خارج الأرخبيل لا يعرفون القصة.
نجاح في واحد من أكثر البلدان صعوبة على الحكم
لعل ما يلفت الانتباه بشكل خاص في تلك القصة هو أن جوكووي نجح في واحد من أكثر البلدان صعوبة على الحكم. فإندونيسيا تمتد على مساحة 5.125 كيلومترا (3.185 ميلا) من الشرق للغرب، ما يجعلها أعرض من الولايات المتحدة الأميركية القارية. وهي تتألف من 17.508 جزر. وإضافة إلى ذلك، هناك القليل من البلدان في العالم التي لديها التنوع العرقي نفسه الموجود في إندونيسيا.
وعندما انكمش الاقتصاد الإندونيسي بنسبة 13.1 % في العام 1998 كنتيجة للأزمة المالية الآسيوية، توقع الكثير من النقاد أن البلد سوف يتفكك على غرار ما حدث ليوغسلافيا. لكن جوكووي تمكن في هذا السياق من تحقيق ما هو أكثر من الحكم بكفاءة، حيث وضع معايير جديدة للحكم يجب أن تكون موضع حسد الديمقراطيات الكبرى الأخرى.
في البداية، تمكن جوكووي من جسر هوة الانقسامات السياسية في إندونيسيا. وفي المقابل، بعد سنة تقريبا من فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأميركية، ما يزال 78 % من الجمهوريين يعتقدون أنه اُنتخب بطريقة غير شرعية. وكان بايدن قد عمل كعضو في مجلس الشيوخ لمدة 36 سنة، ومع ذلك لا يستطيع أن يعالج الانقسامات الحزبية الأميركية. وعلى النقيض من ذلك، فإن المرشحَين لمنصبي الرئيس ونائب الرئيس اللذين تمكن جوكووي من هزيمتهما عندما أُعيد انتخابه في العام 2019 -برابو سوبانتو وساندياغا أونو- هما حاليا عضوان في حكومته (كوزير للدفاع ووزير للسياحة على التوالي).
ولعل الأهم من ذلك أن جوكووي تمكن من تقويض الزخم المتزايد للأحزاب الإندونيسية الأكثر إسلامية في البلد، في ما يعود جزئيا إلى توجهه القائم على عدم الإقصاء. وبينما عمّق الرئيس جايير بولسونارو الانقسامات في البرازيل، وهي بلد يشبه إندونيسيا من حيث عدد السكان، تمكن جوكووي من إعادة توحيد بلاده سياسيا. وكما أخبرني في مقابلة مؤخرا، فإن “الركن الثالث للأيدولوجية الإندونيسية، ’بانكاسيلا‘، يؤكد الوحدة في التنوع”. وبذلك، أدت مهارته في تشكيل الائتلاف إلى إقرار ما يسمى بـ”القانون الشامل” في العام الماضي، والذي يهدف إلى تعزيز الاستثمار وخلق فرص عمل جديدة.
تشكل تجربة جوكووي الشخصية في الفقر مفتاحاً مهماً لفهم إنجازاته. فبعد نجاحه في العمل السياسي -حيث شغل منصب محافظ جاكرتا قبل أن يصبح رئيسا- كان يستطيع، بطبيعة الحال، أن يتجه إلى مرافقة المليارديرات كما يفعل العديد من الساسة. لكن الفقراء ظلوا موضع تركيزه، ولذلك لم يكن من المفاجئ أن تكون إدارته قد قدمت العديد من البرامج لمساعدتهم.
حصافة إندونيسية في مختلف المجالات
في العام 2016، على سبيل المثال، أعادت الحكومة توزيع الأراضي على الفقراء من خلال إضفاء الطابع الرسمي على ملكية الأرض. كما أدخلت الحكومة نظام “البطاقة الصحية الإندونيسية” Kartu Indonesia Sehat، ونظام التأمين الصحي الوطني الجديد، اللذين يهدفان إلى توفير رعاية صحية شاملة للمواطنين. وبالمثل أطلقت الحكومة “بطاقة إندونيسيا الذكية” Kartu Indonesia Pintar لزيادة الالتحاق بالمدارس وتحقيق التعليم الشامل. كما تدير الحكومة برنامج “التحويلات النقدية للفقراء” Program Keluarga Harapan.
قبل أن يتولى جوكووي مهام منصبه في العام 2014 ارتفع معامل جيني لتفاوت الثروة في إندونيسيا بشكل مطرد، صاعداً من 28.6 في العام 2000 إلى 40 في العام 2013، ثم انخفض المعامل بعد ذلك إلى 38.2، وهو أول انخفاض كبير له منذ 15 عامًا. مع ذلك، وعلى عكس العديد من القادة الذين يؤيدون برامج حكومية كبيرة لمساعدة الفقراء، كان جوكووي حصيفاً مالياً.
فالدَّين العام في إندونيسيا منخفض بالمعايير الدولية، حيث يقل عن 40 % من الناتج المحلي الإجمالي. وفي الوقت نفسه يعد جوكووي رأسمالياً متحمساً، علماً بأنه يفهم جيداً، كمصدّر سابق للأثاث، التحديات التي تواجه الشركات الصغيرة. ولذلك استخدم شعبيته من أجل تطبيق إجراءات مؤلمة، مثل إصلاح قوانين العمل للسماح للشركات بتقليص عمالتها في الأوقات الصعبة، إضافة إلى إزالة دعم الوقود.
كما يلتزم جوكووي أيضاً بتطوير البنية التحتية. وقد عملت الحكومة خلال رئاسته على تطوير خطط شجاعة لبناء الطرق السريعة في طول إندونيسيا وعرضها، والتي تمتد من آتشيه في الغرب إلى بابوا في الشرق.
أما في سومطرة، فتم التخطيط لإنشاء خط سكة حديدة بطول 2.000 كيلومتر، والذي يمتد من باندا آتشيه في الشمال إلى لامبونغ في الجنوب. وتشمل المشاريع المقترحة الأخرى إنشاء خط سكة حديدية بطول 1.000 كيلومتر عبر سولاويزي، وتطوير خطوط السكك الحديدية لمسافات طويلة في كاليمانتان.
في غضون ذلك، تتطور شبكة مترو الأنفاق في جاكرتا بسرعة، ما يخفف بعضاً من أسوأ حالات الازدحام المروري في العالم. وفي جاوه، تم بناء أكثر من 700 كيلومتر من الطرق ذات الرسوم (بما في ذلك الطريق الذي يمتد عبر جاوه) بين العامين 2015 و2018، وهو إنجاز كان يعد مستحيلا في السابق، علما بأنه تم بناء طرق بمسافة 220 كيلومترا فقط في الجزيرة خلال العقد السابق.
وساعدت إصلاحات جوكووي على تحسين تصنيف إندونيسيا في مؤشر البنك الدولي لممارسة الأعمال التجارية، لتنتقل من المرتبة 120 في العام 2014 إلى 73 في العام 2020.
وكان من المفترض أن تنعم إندونيسيا الآن بالازدهار الاقتصادي، لكنّ “كوفيد -19” ضرب البلاد بقوة. وعلى الرغم من ذلك، تحرك جوكووي مبكرا وبشكل حاسم لتأمين 175 مليون جرعة لقاح لشعب يصل تعداده إلى 270 مليون نسمة. وقد أتت الكثير من تلك الجرعات من الصين، حيث تلقى جوكووي بنفسه جرعة من لقاح “سينوفاك” ليظهر ثقته باللقاحات الصينية وإرسال إشارة سياسية أوسع.
حصافة جوكووي الجيوسياسية
كما كان الرئيس جوكووي حصيفا من الناحية الجيوسياسية أيضاً، حيث تصرف بحكمة باحتفاظه بعلاقات جيدة مع كل من الصين والولايات المتحدة الأميركية بينما ازداد زخم التنافس بين الدولتين العظميين. وقد أخبرني بأنه شجّع الولايات المتحدة الأميركية على الاستثمار بشكل أكبر في إندونيسيا بالنظر لأن الاستثمارات الصينية هناك كانت أكبر بكثير في السنوات الأخيرة. كما تشارك إندونيسيا في العديد من المشاريع المرتبطة بـ”مبادرة الحزام والطريق” الصينية، بما في ذلك سكة حديد جاكرتا – باندونغ، وهي منطقة اقتصادية سياحية خاصة في جاوة، ومحطة كيان للطاقة الكهرومائية في شمال كاليمانتان، وتوسيع ميناء كوالا تانجونج في سومطرة، وتطوير مطار ليمبيه الدولي في سولاويزي.
إننا نعيش الآن أوقاتاً متناقضة. فقد زودتنا العلوم الاجتماعية الحديثة بجميع أشكال المعرفة التي نحتاجها للحكم الرشيد. ولكن، حتى بعض الديمقراطيات الغنية تنتخب رجالاً مخادعين، مثل سلف بايدن، دونالد ترامب، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون. ولذلك، فإن نجاح جوكووي يستحق التقدير على نطاق أوسع. ويستطيع العالم أن يتعلم الكثير من نموذج جوكووي للحكم الرشيد.
*Kishore Mahbubani؛ (24 تشرين الأول/أكتوبر 1948) هو بروفيسور سنغافوري وعميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية. شغل منصب وزير خارجية سنغافورة. كما شغل منصب ممثل سنغافورة الدائم في الأمم المتحدة ورئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة. حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة دالهاوسي الكندية.