الرئيسة \  واحة اللقاء  \  اتفاقات دوليّة مطمئنة ومنعطفات داخليّة مقلقة!

اتفاقات دوليّة مطمئنة ومنعطفات داخليّة مقلقة!

13.04.2015
سامر فرنجيّة



الحياة
الاحد 12-4-2015
بعد ٣٤ يوماً من القتال، أنهى القرار ١٧٠١ حرب تموز 2006، ونصّ على انسحاب القوتين المتحاربتين ونشر 15 ألف جندي بينهما كقوات حفظ السلام، بالإضافة إلى انتشار الجيش اللبناني في الجنوب الذي كان حكراً على "حزب الله". هلّلت المقاومة آنذاك لما سمّته "نصراً إلهياً"، وكلّلت الاتفاق بمهرجان أكد فيه زعيمها انتهاء زمن الهزائم. لم يكترث الحزب بنتائج قرار الأمم المتّحدة الذي أفضى الى تحييد الحدود الشمالية لإسرائيل، من خلال انسحاب المقاومة إلى خط الليطاني ونشر جيوش موكلة بمراقبة وضع الجنوب. لم يكترث الحزب لأنّ عنوان المرحلة قد تغيّر، وبات اتجاهها هو الداخل، فانكبّت المقاومة على هذا الداخل بناءً وفساداً وقتلاً، ثم امتدّ هذا الداخل شمالاً ليصل بها إلى سورية التكفيرية. أسّس القرار ١٧٠١ لشبكة آمان إقليمية ولعنف داخلي.
بعد الهجوم الكيماوي على الغوطة من جانب النظام البعثي، والذي شكّل خرقاً لخطوط الرئيس الأميركي الحمر، "اضطرت" الجمهورية العربية السورية إلى الانضمام لاتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية في أيلول (سبتمبر) ٢٠١٣، كمدخل لتسليم مخزون أسلحتها الكيماوية وتدميره. هلّلت آنذاك منظومة الممانعة العربية - الغربية لانتصار النظام في الإفلات من الضربات العسكرية، ولاضطرار العالم إلى التفاوض معه. لم يكترث النظام البعثي أو مشجعوه لحقيقة أنّ توازن الرعب مع عدوّه الإسرائيلي قد زال مع تسليم آخر سلاح كيماوي. لم يكترث النظام لأنّ عنوان المرحلة بات الداخل حصرياً، فركّزت ميليشياته على الشعب السوري قتلاً، ولكنْ بالبراميل المقبولة دولياً، وتحوّلت الخطوط الحمر الدولية إلى ضوء أخضر داخلي، فيما أنهت اتفاقية الكيماوي دور سورية الإقليمي لتؤسس لعنفها الداخلي.
في هذا السياق من التفاهمات الدولية، يأتي الاتفاق الإيراني - الأميركي ليؤكد المسار ذاته من التهدئة والتراجع في الحدّة الإقليمية معطوفاً على عنف داخلي. فمع تخلّيها عن برنامجها النوويّ، أو تعليقها له، تعود إيران إلى المجتمع الدولي محرّرة من العقوبات الاقتصادية، وناجية من المصير العراقي الذي كان يرتسم في الأفق. قبلت الدولة الإيرانية الاستغناء عن هدف تثبيت توازن رعب نووي مع إسرائيل، لكسب اعتراف دولي قد يحقق أهدافها التوسعية بفاعلية أكبر مما تفعله قنبلة نووية يتيمة. فعلى رغم تصريحات نتانياهو، نجحت إسرائيل في الاحتفاظ بتفوّقها النووي وأعادت إيران إلى حدودها العسكرية المعتادة وغير النووية.
لم تكترث إيران بهذه المعادلة التي أبقت إسرائيل على تفوّقها، لأنّ عنوان المرحلة الجديدة هو الداخل الإقليمي، الذي حدّد معالمه قائد فيلق القدس في ظهوراته الخاطفة على جبهات الشرق الأوسط. أنهت الاتفاقية الإيرانية - الأميركية دور إيران النووي لتفتتح مرحلة العنف الأهلي - الإقليمي.
لا يراد من هذا التسلسل التشكيك في صدقية محور الممانعة في عدائه لإسرائيل، أو تحميل الاتفاقات الدولية مسؤولية الخراب الداخلي الذي تلاها. فالمقصود هو الإشارة إلى أنّ المحكّ الفعلي كان دائماً الداخل، مهما تغيرت حدوده. والمشترك بين تلك الانتصارات، أنّ الطرف الممانع قبل بها في لحظة ضعف أجبرته على تقديم تنازلات إقليمية من أجل البقاء أو التوسع الداخلي. فكان "حزب الله" يواجه عملية تدمير لمناطقه لا يعادلها الضرر الذي تُنزله صواريخه إلا في تخيلات الممانعين، ما أجبره من موقع الضعف على القبول بنصره الإلهي. كما قبل النظام البعثي من بعده الانضمام إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية تحت وطأة التدخّل العسكري الوشيك. أما إيران المنهكة اقتصادياً، والتي تواجه عدداً متزايداً من الجبهات، فجاءتها الاتفاقية النووية كخبر سار وحيد في الآونة الأخيرة. وفي الحالات الثلاث، قبل الطرف الضعيف بالتخلّي عن أوراقه الإقليمية للحفاظ على تفوق داخلي بات هو البعد الوحيد في سياسة الممانعة، بعدما استبدلت مشروع تعديل ميزان القوى مع إسرائيل بحشود شعبية و "مركّبات" عسكرية - اجتماعية تنهال عنفاً في الداخل الإقليمي.
وقد يكون التخلّي النووي للممانعة عن الصراع الخارجي المرحلة الأخيرة في مسلسل طويل من العلاقة بالغرب دام قرناً. هذا لا يعني أنّ المنافسة مع الخارج أو حتى الصراع معه قد زالا، بل باتا اليوم، بعد الاتفاقية، مرهونين بالوضع الداخلي. فبعد أن وقّع الأعداء اتفاقيات تنظم خلافاتهم، أصبحت آحادية الصراع واحتكاره للسياسة استحالة، وتحوّل الشيطان الأكبر إلى حليف ممكن، قد تتم "زكزكته" في العراق أو اليمن، ولكن ضمن معايير يمكن الاتفاق عليها مسبقاً. فالصراع مع اسرائيل، مثلاً، لن يخاض بعد اليوم بالأسلحة الصاروخية والكيماوية والنووية، بل من خلال الديبلوماسية والاقتصاد والرأي العام والديموغرافيا، وهي كلّها أدوات تتطلب أن يكون هناك صوت يعلو فوق صوت المعركة.
هذا على الأقلّ ما يبدو أنّه فلسفة الرئيس الأميركي في ربط انفتاح الداخل بتخفيف العزلة الخارجية. فمشهد إيرانيين يحتفلون باتفاقية أعادت دولتهم إلى كنف المجتمع الدولي، يشبه فرح أهل الجنوب بالقرار ١٧٠١ وضماناته، ويشير إلى التشوّق لحياة طبيعية لا تحكمها الصراعات العبثية. غير أنّ داخلنا ليس هذا الداخل فقط، بل هو أيضاً داخل قتل وصراعات ومجازر، وعودته عن عفن أيديولوجية الممانعة ليست شرطاً كافياً لعقلنة ما يصيب الأنظمة أو المركبات الممانعة. بهذا المعنى، تأتي هذه الاتفاقات لتزيل ورقة التوت الأيديولوجية عن أيديولوجية غلبة داخلية، قد تقضي على أحلام تلطيف الداخل من خلال تهدئة الخارج.
في آذار (مارس) ٢٠١٥، أعيد افتتاح "أوركسترا طهران"، وقاد المايسترو علي رهبري أداء السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، نشيد الفرح والسلام. في الوقت ذاته، كان مايسترو آخر يقود أناشيد النصر على إيقاع الجبهات المتنقّلة. هذا داخل وذاك داخل. ومن غير المؤكد ما إذا كان الأول سينتصر على الثاني. غير أنّه إذا كانت المنطقة تحتاج إلى 15 ألف جندي من قوات حفظ السلام لتهدئة جبهة واحدة مع الخارج، فلسوف تحتاج إلى المزيد لتهدئة الداخل بجميع صراعاته.