الرئيسة \  واحة اللقاء  \  اتفاق جنيف.. بين النصر الإعلامي والواقع

اتفاق جنيف.. بين النصر الإعلامي والواقع

25.09.2013
نداء دندشي


المستقبل
الثلاثاء 24/9/2013
لا أحد من المدركين للشأن السياسي العالمي، والمتابعين لمجريات الأزمة السورية يشكك في أن توقيع النظام السوري على معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية إثر التهديد الأمريكي بشن ضربة عسكرية على مواقعه العسكرية المهمة، ما هو الا محاولة لكسب الوقت ريثما يتسنى له حسم معركة الصراع لصالحه كما يحلم، بل يتعدى الموضوع هذه المسألة ويصل لمستوى اللعب على حبال السياسة العالمية ممثلة بأعتى قواها الغربية والأميركية، وهو أمر اكتسب خبرة لا يستهان بها منذ أن بدأت الثورة السورية في مرحلتيها المدنية السلمية، والعسكرية التي تشكلت لاحقا ضمن ظروف القتل اليومي والممنهج الذي تعرض له السوريون منذ اليوم الأول، والعزلة العالمية التي واجهتهم إثر وقوف ساسة العالم موقف المتفرج. لكن الآسف، ليس الا، مكتفين بتقديم الوعود التي لم ينفذ منها خجلاً الا النذر اليسير، بل وصل الأمر لمنع توريد الأسلحة لطرف مقابل غض النظر عن الأسلحة الفتاكة التي تصل علناً لطرف آخر يستخدمها من دون تمييز.
لا بد أن توقيع الدول التي امتنعت سابقا عن التوقيع على معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، هو مكسب انساني يخص البشرية جمعاء، وقبول الانضمام لهذه المعاهدة ـ حتى لو جاء ضمن ظروف إدانة وليس حسن نية، وهي سابقة لم تحدث من قبل ـ يبقى أمراً مقبولاً، بل ومرحب فيه عالمياً، نظراً لحتمية الالتزام المستقبلي للحكومات التي يمكن أن تتعاقب على هذه الدولة بما وقع عليه سلفها. الموضوع إذن يصب في مصلحة الإنسانية، هذا من حيث المبدأ، لكن هنا تبدو ذاكرة ساسة العالم ضعيفة جدا، أو بالأحرى لا تعتمد الأسس الأخلاقية التي لا تفتأ تعلن التزامها بها بين الحين والآخر، وذلك بتجاهلها المعلن لكافة التطمينات التي قدمها المجلس الوطني السوري منذ بداية تأسيسه ان أوائل مهامه المستقبلية ستكون توقيعه معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، ليس كبادرة حسن نية فقط، وانما كالتزام أخلاقي وإنساني يدرك مثقفو المجلس الوطني السوري أبعاده وأخطاره على البشرية كلها. وكذلك فعل الائتلاف السوري، لكنهما لم يجدا من يهتم بمواقفهما تلك، ليس هذا بل لم يعاملا المعاملة اللائقة من قبل ساسة دول العالم التي بذلت جهودا كبيرة لتسويقهم اعلاميا كمجموعة غير متوافقة ومختلفة في ما بين بعضها. وضاعت وسط هذا الأتون الاعلامي غير النظيف كافة الصرخات والتصريحات التي أطلقها أعضاء المجلس الوطني ثم الائتلاف السوري عبر وسائل الاعلام أو صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل العالمي، بأن أمورا تعجيزية تطلب منهم تخص السياسة المستقبلية السورية، رغم عدم منطقية الطلبات كونهم لم يستلموا مقاليد الحكم بعد، كذلك تعامل الدول معهم كجماعات وأشخاص وليس كمجلس واحد ضمن سياسة بث التفرقة وتعميق هوة الخلافات التي بدأت بسيطة ثم توسعت، كنتيجة حتمية لحجم ضغط التلاعب السياسي العالمي الذي مورس عليهم، والضغط النفسي الذي يتعرضون له إزاء الأخبار المفجعة الواردة من الوطن الأم.
ان الفشل الذريع الذي منيت به حاليا محادثات كيري ـ لافروف والتي جرى تسويقها على أنها نجاح وخطوة نحو الأمام يجعل العارفين بالشؤون السياسية العالمية يقفون بذهول أمام النتائج المخزية لهذه المحادثات، إثر تمرير وزير الخارجية الروسي على نظيره الأميركي لخطته التي تتوافق نهايتها مع تاريخ اجراء الانتخابات الرئاسية في سوريا، ولا ندري هنا هل كان وزير الخارجية الأميركي مدركا لهذا التوافق، أم أن انشغاله الكبير بمسألة تدمير الأسلحة الكيميائية، وتحالف لافروف ـ الإبراهيمي أثناء الاجتماع قد أثر على سير محادثاته، فلم يفطن للأمر الذي يرتب أمامه، ما أطاح بصواب بعض الساسة الأميركيين ـ غراهام، ماكين ـ وهما يستمعان لوزير الخارجية الروسي يصرح مزهوا بأن المحادثات كانت ممتازة، بينما بدا موقف وزير الخارجية الأميركي ضعيفا ولم يستقطب أي اهتمام من الإعلام، ودفعهما للقول إن من يقود سياسة أميركا الخارجية هما الأسد وروسيا، وعلى ما في التصريحين من مرارة، الا أنهما يعكسان واقع حال السياسة الخارجية الأميركية التي انهارت سمعتها كقوة عظمى، ليس برأي السياسيين الأميركيين المخضرمين، بل وبرأي العارفين بالسياسة العالمية أيضا. فتمرير مسألة مهمة كهذه تلغي التصريحات التي أعلنها الرئيس الأميركي والتي تقول إنه لا مكان للأسد في مستقبل سوريا، وتعكس حال التخبط التي تعانيها هذه الإدارة، لدرجة فقدت فيها قدرتها على قيادة دفة قراراتها في ما يتعلق بالأزمة السورية. وجاء التشكيك التركي الكندي والتحفظ الفرنسي على اتفاق كيري، لافروف، ليظهرا مشاعر الخيبة التي انتابت هذه الدول، وليكون بمثابة جرس انذار ينبه لأخطار وضع الثقة بغير مكانها، على خلفية التقارير الاستخباراتية التي تؤكد استخدام هذه الأسلحة من قبل النظام السوري في معظم الأراضي السورية وقبل مجزرة الغوطة، وكان قد سبق هذا بفترة ليست قصيرة تأكيدات جاءت من قبل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وذكرها على الملأ أن هذه الأسلحة استخدمت مرات كثيرة من قبل قوات النظام، رغم الترحيب البريطاني الحالي باتفاق جنيف والمبني على موقف البرلمان البريطاني الرافض للتورط في حرب جديدة، وليس لعدم الرغبة في دعم الثورة السورية، كما بدا واضحا من تصريحات البرلمانيين البريطانيين عقب التصويت على توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري.
حتى اللحظة، فرض اتفاق جنيف واقعا جديدا كشف بدون أدنى شك الخبايا التي جرى اخفاؤها تحت مسميات واهية لدعم الثورة السورية، ومؤتمرات صداقة لم تساعد الشعب السوري كثيرا حتى على المستوى الإنساني ضمن الحد الأدنى من المقياس الأخلاقي المطلوب توفره، وكشف اللثام عن خبايا سياسة القوة العظمى في العالم، التي تطرح أولوياتها في القضاء على ترسانة الأسلحة الكيميائية التي تهدد الأمن القومي والصحي لبعض حلفائها، وتأجيل الاهتمام بمواقفها الأخلاقية التي ما فتئت تصرح بها بين الحين والآخر، والتي تلزمها بأخذ مواقف أكثر حزما للمحافظة ضمن الحد الأدنى المقبول على سمعتها كدولة تؤيد حقوق الإنسان، وتحفظ هيبتها كقوة عظمى لاتزال تسيطر على مقاليد السياسة العالمية، هذا إن لم تأت الأيام بما هو جديد يضع هيبتها على المحك مرة أخرى، وهو ما يتوقعه معظم السوريين.