الرئيسة \  واحة اللقاء  \  احترام القوميات في سياق الوطن

احترام القوميات في سياق الوطن

21.11.2016
د. طيب تيزيني


الاتحاد
الاحد 20/11/2016
ما يحدث في سوريا وفي بلدان أخرى عربية وغيرها، يأتي ليضعك أمام حالة من الجيشان والاضطراب، فكيف يتسنى للآخرين أن يتقبلوا ذلك في بلد قام وجوده على إنجاز خطوتين جبارتين، تتمثل أولاهما في تحقيق استقلالها الوطني بعد طرد الاستعماريين الفرنسيين منها أولاً، وفتح مشروع الهوية العربية بوصفه الصيغة الوجودية السورية والقاسم التاريخي الوجودي مع بلدان الوطن العربي ثانياً: إن ذلك إذ يراد له أن يتحقق، بأيدي من أراد التأسيس لمنظمة قومية تحمي الوطن المذكور، يجد نفسه أمام مصير تفكيك هذه القومية الجامعة عبر بديل طائفي متمثل بالشيعي خصوصاً، وعلى هذا النحو المثير، نجد أنفسنا أمام مفارقة منطقية نظرية وأخرى سياسية مجتمعية. ها هنا، يجد الباحث نفسه أمام اضطراب في المرجعية التي يعود إليها. هذا الاضطراب يظهر بصيغتين اثنتين، تظهر أولاهما في المقابلة بين الطائفة والقومية، في حين تظهر أخراهما في عدم التوازن التاريخي والسياسي والأخلاقي بين كلتا الصيغتين المذكورتين، أما مواجهة القومية بالطائفية فتحيل المسألة إلى اضطراب في العلاقة بينهما.
فمن حيث الأساس، ليس هنالك تناقض بين الطائفة "أو المذهب الديني وغيره" إذا وضع كلاهما في سياقه التاريخي المشخص، فليس هنالك صراع بين الأمرين، حين ينظر إلى كل منهما في ذالك السياق، وضمن الوجود الوظيفي التاريخي لكل منهما. فليس صحيحاً أن تخربط ذلك السياق، وتعلن أن الطائفية أكثر تقدماً من القومية. ولكن ممكن القول إن الطائفية لم تنشأ من عدم، وإنما ظهرت مع تطور البنية الديموغرافية للشعوب، تعبيراً عن التعددية فيها، منشأها التاريخي ودورها كانا يمثلان حالتين طبيعيتين ضمن انتقال البشر من حالة الانقسام الطائفي التراتبي الطبيعي، إلى مزيد من الوجود العمومي، فإذا اعتبرنا الانقسام الطائفي عمودياً، فإن التوحد القومي بين هذه الطوائف، إنما هو من حيث الأساس.. ذو بعد مركب، أفقي وغيره من الآفاق التي يكتشفها العلم المجتمعي والسيكولوجي والثقافي وغيره.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن الإطاحة بالعنصر القومي بعد نشأته وتبلوره، إنما يعني العودة إلى العنصر الطائفي ومركباته، ما يعني العودة كذلك إلى الآحاد المبعثرة نسبياً. وهذا ما قد يجعل بنية هذه الآحاد قابلة للتحول إلى مواقع متضادة ومتصارعة، وإلى التفريط بحد من حدود التوافق والتهاون على الأقل وفتح الأبواب أمام الهزات المتعددة أو الكثيرة، التي قد تطيح بتلك الطوائف نفسها بكيفية أو بأخرى.
وبذلك يكون الأمن الذاتي لكل الطوائف المعنية عرضة للاهتزاز، وهذا الأخير يمكن أن يؤسس لتصدع "الداخل الطوائفي" على أيدي الخارج الحريص على ذلك التصدع. أما الذي يأتي بعد ذلك فقد يطيح بذلك الداخل عموماً.
هلّا وضعنا يدنا على ما يحدث في العالم "الوطن" العربي في المرحلة المعاصرة المعيشة! وإذا ما علمنا أن معظم العالم المعاصر يمر بما يمكن أن يطيح بالأوطان لكها، ربما من باب الطوائفية عبر السيادة التي يحققها النظام العولمي الراهن، نظام السلعة والمال، فإن مشروعاً عربياً محتملاً يصبح خارج التاريخ.
ما يحدث في حلب الجريحة إنما هو أعظم إنذار بواحدة من النهايات، التي يطرحها النظام العولمي إياه مع نهايات أخرى، نعني النهاية للقوميات، والعربية منها، بكيفية خصوصية!
إن احترام القوميات كلها في العالم، ومن ضمنها العربية، إنما هو أمر مهم وحاسم، ولكن في سياق الوطن، والأوطان كلها، ها هنا تبرز المناقبية الإنسانية العظيمة: احترام الجميع في هوياتهم القومية، ولكن كذلك في هوياتهم الطائفية والمذهبية بقدر متساو مع الجميع، والفكر الفلسفي التنويري يضع البشر جميعاً، بما هم عليه، على نحو لا نستطيع فيه تجاوز الحكمة الرشيدة والمفعمة باحترام البشر جميعاً. نعم: أنا أكون أنا، بقدر ما أكون أنت، وأنت تكون أنت، بقدر ما تكون أنا وهذا الذي يجمع الجميع.
د.طيب تيزيني*
*أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق