الرئيسة \  واحة اللقاء  \  اسألوا أهل الرقّة!

اسألوا أهل الرقّة!

29.06.2014
سمير العيطة



السفير
السبت 28/6/2014
هناك آليّات في تاريخ الشعوب والأمم يصعب إيقافها. لقد قامت حروب وتفكّكت دول وإمبراطوريّات وكأنّ الأمر قدر محتوم في حين لم يكن أحدٌ يريد حقّاً مثل ذلك المصير. وهناك صراعات تتفجّر يبدو أنّ لا حلّ لها سوى تغيير قواعد الجغرافيا والسكّان.
تنطلق الصراعات بالتأكيد من وضع يحمل تناقضاته، لتهتزّ أسس توازنات قائمة على صعيد الأفكار والسياسة. إلاّ أنّ تفجّر الصراع قد يفجّر بدوره تناقضات ضمنيّة كانت كامنة وربّما منسيّة تأخذ الصراع إلى منحى آخر وتخلق واقعاً جديداً قد يبحث طويلاً عن توازناته. لكن غالباً ما يكون ذلك مع كثير من المآسي البشريّة، وربّما بعد أن يتبخّر ويختفي ما كان نبيلاً وإنسانيّاً في التفجّر الأساس.
من طبيعة الأنظمة الاستبداديّة أنّها قد تأخذ شعوبها وبلادها إلى كوارث حقيقيّة، يدفعها إلى ذلك الغرور الذي ينتابها من جرّاء نجاحات جزئيّة هنا أو هناك. إنّها لا تُحسن قراءة الآليّات الكبرى في التاريخ، لا على صعيد تحوّلات مجتمعاتها ولا على مستوى محيطيها الإقليمي أو الدوليّ. فبدلا من أن تستبق الأحداث أو تحيّد المدّ الجارف، يعميها استبدادها ويدفعها إلى المجازفة بمواجهته المباشرة وتغذيته، حتّى يجرفها في النهاية، هي والبلدان والشعوب معها.
المعارضة التقليديّة لتلك الأنظمة الاستبداديّة أسيرة نفس المنطق، حيث تنتابها نشوة أمام هذه التحوّلات فتنزلق في لاعقلانيّة ليست سوى المرآة العاكسة لغرور الاستبداد. هكذا تصبّ مع المدّ من دون أن تعي الدمار الذي يحمله. وهكذا حتّى يأتي لاعبون جدد يركبون المدّ ويغيّرون أرضيّة الفكر والسياسة إلى منحى لا علاقة له بالصراع الأساس بين الاستبداد والحريّة.
وظاهرة تنظيم "القاعدة" ليست حدثاً عابراً على منطقتنا. إنّها تجد جذورها في تناقضات كامنة في نسيج مجتمعاتنا. لكنّ آليّاتها تعبّر بشكلٍ لافت عن اللقاء بين مدّ الحداثة والعولمة وبين بؤس العجز عن حلّ صراعات الاستبداد/الحريّة، والمواطنة/المذهبيّة والتمييز/المساواة. وتمتطي "القاعدة" مدّ انهيار أفكار القرن العشرين التحرريّة وسياساته وصعود التطرّف المذهبيّ وولاية فقيه وفوائض النفط خير امتطاء. وتستفيد من عجز الاستبداد عن قراءة التاريخ والتحوّلات الكبرى.
رحل مستبدّ العراق بعد أن دفعه غروره إلى أخذ مجتمعه وبلاده إلى كوارث شهدنا بداياتها في احتلال أجنبيّ ثمّ في صراع طائفيّ وقوميّ دمويّ. وها قد عجز من خلفوه، عرباً وكرداً، شيعة وسنّة، وضيق نظرتهم، يأخذ العراق مجدّداً للانجراف في مدّ جديد مدمّر يضع مصيره ومصير شعبه أمام المجهول. الكلّ ينغلق على تناقضات مظلوميّاته القديمة/الحديثة. والكلّ في محيطه يتلاعب بأشلائه الذاهبة للتبعثر. برغم كلّ أموال نفط العراق ومثقفيه ومتنوّريه. اللاعب الجديد، تنظيم "القاعدة"، ركب المدّ، متحوّلاً من حركة معولمة هامشيّة إلى دولة تبسط سيادتها على أرض ونفط وشعب، بل على شعوب. لينتقم البغدادي لبن لادن وتحالفه مع طالبان في أفغانستان، برغم أنف الظواهريّ.
مستبدّ سوريا لا يزال على رأس السلطة يتبجّح بإعادة "انتخابه" لمرّة ثالثة على بلدٍ مزّقت أوصاله وتفكّكت أواصر عيشه المشترك. ولا يزال يتصرّف بغرور برغم كلّ المآسي البشريّة التي حلّت بشعب بلاده وعودته اقتصادياً وتنموّياً إلى... ما قبل التاريخ. ومعارضته "المختارة" إقليميّاً ودولياً غارقة في لاعقلانيّتها، وكأنّ التناقض الأساس اليوم هو ذاته في عهد الثورة السلميّة الأولى. كلاهما أسير منطقه الخاصّ، وهما لا يعيان ضعفهما أمام المدّ القادم الذي سيجرف كلّ شيء، من "سوريا المفيدة" إلى "المناطق المحرّرة" المزعومتين.
وما بقي المستبدّ وأنداده ومعارضوه على منطقهم ومذهبيّاتهم المغلقة، فقد يغيّر المدّ القادم قواعد الأرض والجغرافيا والسكّان والأذهان. وحينها سيحلّ صراع جديد سيعمّر طويلاً، لا يعرف في سوريا قسوته سوى أهل الرقّة... الذين ذاقوا بعضه.