الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الأزمة السورية.. ثورة تحبطها "الاختزالات الأربعة"

الأزمة السورية.. ثورة تحبطها "الاختزالات الأربعة"

02.01.2016
طه حسيب



الاتحاد
الخميس 31/12/2015
لم يكن أحد يتوقع أن تكون نتيجة قيام العميد عاطف نجيب رئيس فرع الأمن السياسي بإلقاء القبض على مجموعة من الصبية في مدينة درعا لأنهم كتبوا على جدار مدرستهم "أجاك الدور يا دكتور" ما نراه الآن في سوريا من دمار وقتل وتشريد. القصة بدأت عندما تم احتجاز 15 صبياً في 27 فبراير 2011 لأنهم تأثروا بـ"الربيع العربي" فكتبوا ما كتبوه وبعدما خرجوا من مقار احتجازهم بدت عليهم آثار التعذيب، وتمت إهانة ذويهم ما استثار أهل درعا، فنظموا انتفاضة شعبية في يوم الجمعة 18 مارس 2011. المتظاهرون رفعوا شعارات تطالب بالإصلاح، وبعدما استخدم الأمن الرصاص، وسقط أربعة قتلى، سرعان ما تحول شعار المنتفضين إلى "إسقاط النظام"، وعمت التظاهرات مدن وبلدات محافظة درعا وعدد من المدن كاللاذقية ودوما وداريا وحمص وبانياس، ومنذ ذاك تتالت المسيرات وتعددت مسميات "الجُمع".
بشار الأسد الذي تفاءل بعض المحللين بقدومه عام 2000 خلفاً لوالده حافظ الأسد، وتوقعوا أن الرئيس الشاب يحمل أفكاراً "تنويرية" تفتح صفحة جديدة في بلد لطالما لعب دوراً محورياً في قضايا المنطقة، سرعان ما تعامل مع التظاهرات بعنف. ففي البداية حمّل بعض المراقبين المسؤولية عن التجاوزات والانتهاكات التي ظهرت في الأيام الأولى للانتفاضة لعناصر محيطة بالرئيس الشاب، لكن مع مرور الوقت اتضح أن النظام غير مستعد لتقبل سيناريو "الربيع العربي" مهما كانت التكلفة، حتى ولو كان الثمن الوطن السوري نفسه. بشار استبعد في مقابلة مع صحيفة "وول ستريت جورنال" نهاية يناير 2011 أن يحدث في سوريا ما حدث في تونس التي أطاحت انتفاضتها بالرئيس زين العابدين بن علي أو مصر التي أجبرت ثورتها الرئيس مبارك على التنحي، وذاع صيت مصطلح "الشبيحة" الذي يعني الموالين للنظام ممن يحاولون تفريق التظاهرات وتعطيل المسيرات الاحتجاجية بشتى الطرق.
من اللحظة الأولى وظّف النظام نظرية المؤامرة، وبأن المنتفضين ينفذون أجندات خارجية وربما عملاء لإسرائيل، أو متطرفين إسلاميين. ومن فبراير 2011 إلى أواخر العام 2015 تراوح الأزمة السورية مكانها، فلا النظام انتصر وقضى على معارضيه، ولا المعارضة شقت طريقاً واحداً نحو نظام جديد يُجمع عليه كافة السوريين، وتشابكت الملفات ما بين السلاح الكيمياوي وإرهاب "داعش" والفصائل المحسوبة على "القاعدة" والتدخل العسكري الروسي، والتخاذل الأميركي، وأزمة اللاجئين، ومصير الأسد. وبات واضحاً الآن أن الانتفاضة التي تاق نشطاؤها إلى التغيير، تحولت بإرادة النظام إلى حرب بين جيش نظامي وفصائل مسلحة، راح ضحيتها 250 ألف سوري نصفهم من المدنيين، وعمليات القصف التي يشنها الجيش السوري دمرت المدن المكتظة بالسكان، وفي غضون ذلك تتنامى انتهاكات حقوق الإنسان في ظل وجود أكثر من 200 ألف سوري تعرضوا للاعتقال منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا بتاريخ 18 مارس 2011. ويوماً بعد يوم يتضخم عدد اللاجئين ويتزايد إجمالي الضحايا، ويلوح في الأفق شبح انهيار الدولة السورية.
القمع "الكيمياوي"
في 21 أغسطس 2013 استخدم النظام الغازات الكيمياوية في قصف مناطق المعارضة في الغوطة الشرقية بريف دمشق، مستخدماً الغازات السامة تحت أعين المراقبين الدوليين وخلال وجودهم في سوريا للتحقيق في استخدام الكيمياوي، ووصل عدد الضحايا إلى نحو 1200، آنذاك تبادل النظام والمعارضة الاتهامات، وانحازت روسيا للنظام متهمة المعارضة بتلفيق صور للضحايا، وأفصحت المخابرات الأميركية عن تقرير رصدت خلاله نشاطاً في مواقع كيمياوية سورية قبيل الهجوم على الغوطة الشرقية..
تبنى مجلس الأمن الدولي، السبت 28 سبتمبر 2013 بإجماع أعضائه، القرار رقم 2118 وينص على تفكيك الترسانة الكيمياوية السورية، وهدد بإنزال عقوبات بالنظام السوري في حال تراجعه عن تعهداته في موضوع نزع هذه الأسلحة.والتعجيل بتفكيك البرنامج السوري للأسلحة الكيمياوية، وإخضاعه لتحقيق صارم، ويدعو إلى تنفيذه تنفيذاً كاملاً في أسرع وقت.
وطالب المجلس من جميع الأطراف في سوريا "بما فيها المعارضة المسلحة" التعاون التام في هذا الصدد، ودعا إلى القيام، في أبكر وقت ممكن، إلى عقد مؤتمر دولي بشأن سوريا من أجل تنفيذ بيان جنيف"، مهيباً بجميع الأطراف السورية المشاركة بجدية وعلى نحو بناء في مؤتمر جنيف بشأن سوريا. وأيد القرار تأييداً تاماً بيان جنيف المؤرخ 30 يونيو 2012، الذي يحدد عدداً من الخطوات الرئيسة، بدءاً بإنشاء هيئة حكم انتقالية تمارس كامل الصلاحيات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة.
الاختزال الأول.. الكيمياوي
المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة، انزعج كثيراً من استخدام نظام بشار للأسلحة الكيمياوية، وبدا أن مشهد الاضطراب السوري تم اختزاله فقط في منع استخدام هذه الأسلحة، على اعتبار أن استخدامها خط أحمر لا ينبغي على نظام بشار تجاوزه. وكأن الولايات المتحدة، التي عوّل كثيرون عليها لترجيح كفة المعارضة في وجه النظام في الشهور الأولى للثورة السورية، تقول للنظام (اقتل كيفما شئت لكن من دون أن تستخدم الغازات السامة). وظهر الموقف الروسي آنذاك عاكساً وساطة، اعتبرها المحللون إنقاذاً لنظام بشار بدرع دبلوماسي روسي. كما أن مآلات القرار ألقت "القبض على المسدس وتركت القاتل حراً طليقاً".
التقييم الأميركي
وقد يكون من سوء حظ السوريين أن ثورتهم تزامنت مع وجود رئيس أميركي "ديمقراطي" ينتهج سياسات انعزالية، وورث من سلفه "الجمهوري" حربين في العراق وأفغانستان، ولديه قناعة بعدم التورط في حرب برية جديدة في العالم الإسلامي أو الشرق الأوسط تحديداً، وهذا يتضح من اعتماد أوباما في حربه على الإرهاب على الطائرات من دون طيار، التي تخضع لوكالة الاستخبارات المركزية وليس البنتاجون. وربما الموقف الأميركي الحقيقي من الأزمة السورية أقرب إلى تصريحات الخبير الأمني"ديفيد جارتنشتاين روس"، الذي أفصح أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي في مارس 2014 بأن الاستخبارات الأميركية تتوقع استمرار الحرب في سوريا لمدة عشر سنوات، وأن بلاده تنقصها الرغبة الحقيقية في إنهاء هذه الحرب، وأن الدور الذي يلعبه "الجهاديون" داخل المعارضة السورية جعل الغرب يحجم عن التدخل بطريقة مكثفة قد تؤدي إلى إسقاط نظام بشار. وقد يأخذنا التحليل لسيناريو آخر يتمثل في ترك الساحة السورية كبيئة لجذب الإرهابيين القادمين من أفغانستان أو العراق وغيرهما ثم شن هجمات ضدهم، ومنعهم من تطوير أنشطتهم في المجالين الأوروبي والأميركي. لكن ظهور تنظيم "داعش"، أكد أن التباطؤ الأميركي في حسم الأزمة السورية أدى إلى توالد المعضلات الأمنية التي تتجاوز سوريا والعراق، حيث ينشط "داعش" ويتمركز، لتطال أوروبا والولايات المتحدة، وتأكد هذا بعد هجمات باريس في 13 نوفمبر الماضي، والهجوم الذي طال بلدة "سان برناردينو" بولاية كاليفورنيا في 3 ديسمبر الماضي. وإذا كانت لدى الاستخبارات الأميركية قناعة بأن استمرار بقاء نظام بشار يخدم المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية، فإن تطورات المشهد تسير في اتجاه معاكس، حيث اقتربت عناصر "داعش" من البحر المتوسط، ومن هضبة الجولان وهما بقعتان سيلحقان الضرر- إذا ما وطأهما- التنظيم بأمن تل أبيب. ما يمكن استيعابه أن ترك حرب أهلية كهذه معناه إنهاك طرفيها قدر المستطاع ليتسنى في وقت لاحق تسهيل فرض شروط وإملاءات عليهما، لكن بأي ثمن ومن يضمن خروج التطورات عن التوقعات؟ وحتى الدعم المادي للمعارضة يعكس حذراً أميركياً شديداً، حيث تعهدت الإدارة الأميركية في نهاية أكتوبر الماضي بتقديم 100 مليون دولار للمعارضة السورية المعتدلة، ليصل حجم تعهداتها منذ 2012 إلى نحو 500 مليون دولار، حسبما أفادت صحيفة "واشنطن بوست"، ناهيك عن فشل خطة تدريب قوات المعارضة السورية..
الاختزال الثاني.. الإرهاب
بدلاً من التركيز على تغيير النظام وتحقيق الحرية الشعب السوري، والشروع في مرحلة انتقالية، نجح النظام في إقناع كثير من الدوائر الغربية بأنه يحارب جماعات إرهابية وقوى متطرفة، علماً بأن النظام هو الذي غض الطرف عن هذه التنظيمات كي يستخدمها "فزّاعة" للغرب، يُسكت بها الأصوات المطالبة بإسقاطه، معتبراً أن الإطاحة به ستترك الساحة السورية لفوضى الإرهاب والجماعات المتطرفة، ولم نلحظ مقاومة عسكرية من جيش بشار لـ"داعش" عندما سيطرت عناصره على الرقة أو تدمر.. كما أن الصخب الإعلامي للعناصر المتشددة في المعارضة التي تملأ الفضاء الإلكتروني بتسجيلات ورسائل نفّرت الغرب من المعارضة السورية. ووفق هذا المنطق أيضاً تأخرت واشنطن كثيراً في دعم قوى المعارضة، لأن فرز عناصرها وتصنيفها بين معتدل ومتطرف استغرق وقتاً وتطلب رهانات وحسابات معقدة، ومع مرور الوقت تطرأ مستجدات دولية وإقليمية تجعل حجج النظام تنطلي أكثر وأكثر على دوائر القرار الغربية، علماً بأنه لم يثبت منذ بداية الثورة السورية إلى الآن ضلوع أي سوري في هجمات إرهابية خارج سوريا.
التشبث الروسي بالأسد
وقفت موسكو بالمرصاد ضد القرارات الدولية التي كان يتم طرح مشاريعها داخل مجلس الأمن لمصلحة الثورة السورية، ففي 4 أكتوبر 2011 اعترضت روسيا والصين على مشروع قرار أوروبي يدين سوريا ويلمح إلى إمكانية فرض عقوبات عليها إذا استمر قمعها الدموي للمحتجين، وفي 4 فبراير 2012 استخدمت روسيا والصين الفيتو ضد مشروع قرار غربي عربي يدعم خطة لجامعة الدول العربية تقترح تسليم الرئيس بشار الأسد السلطة إلى نائب لإفساح المجال أمام عملية تحول ديمقراطي. وفي أبريل 2013 سُرب تصريح أدلى به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مفاده "بأنه لن يتخلى عن الرئيس السوري بشار الأسد حتى لو وصل القتال إلى شوارع موسكو". بالطبع لا يعني هذا التصريح سوى أن لسوريا مكانة جيوسياسية كبيرة لدى العقل الاستراتيجي الروسي، فقاعدة طرطوس البحرية الروسية هي آخر ما تبقى للدب الروسي من منافذ بحرية في المياه الدافئة، كما أن المشهد السوري جاء بعد تداعيات كبرى شهدتها المنطقة العربية، عقب سقوط نظام القذافي في ليبيا، بدعم عسكري من "الناتو" وما تلاه من فوضى سلاح وميليشيات لم تنته إلى الآن، ما يدفع صانع القرار في موسكو إلى عدم الترحيب بسقوط نظام جديد في الشرق الأوسط واستبداله بقوى غير موالية لروسيا، بل قد تكون منحازة لخصومها، ناهيك عن حالة الخلل الاستراتيجي التي طالت المنطقة بعيد الاحتلال الأميركي للعراق، وما تلاه من انتشار لتنظيمات إرهابية كـ "القاعدة" وغيرها. لذلك تحركت روسيا عسكرياً منذ 30 سبتمبر 2015 لإنقاذ الأسد، بعدما وجدت أن قرابة 1500 من الشيشان والقوقاز يحملون الجنسية الروسية ويقاتلون إلى جانب تنظيمات إرهابية في سوريا. موسكو اختارت الوقوف إلى جانب الأسد، من أجل نقل المواجهة مع الغرب من الجوار الروسي في أوكرانيا ومن قبل في جورجيا إلى مناطق هي ساحة للنفوذ الغربي خاصة الأميركي، فالانخراط العسكري الروسي في سوريا جاء بعد عقوبات اقتصادية غربية على موسكو، جراء ضم الأخيرة لإقليم القرم، وأيضاً ما يثار من دعمها للمتمردين الانفصاليين شرق أوكرانيا. وتشعبت مبررات الدعم للاعتبارات الاجتماعية أيضاً، فصحيفة "نيوويرك تايمز" الأميركية قالت في أحد تقاريرها إن هناك 20 ألف سيدة روسية متزوجات من سوريين، ومن يزور اللاذقية يلحظ وجودهن. وربما جاء الدور العسكري الروسي لتدشين تحالف دولي لمحاربة الإرهاب- خاصة تنظيم داعش- موازٍ أو منافس للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد التنظيم. علماً بأن الانخراط العسكري الروسي في الحرب السورية يرسخ اختزال الثورة السورية في الحرب على الإرهاب بدلاً من الرجوع إلى جذور الأزمة الحقيقية وهي تغيير النظام السوري، وإنقاذ ما تبقى من مدن سورية. ومن الواضح أن الروس استثمروا الأزمة السورية في تعزيز وجودهم العسكري شرق المتوسط، وبدا ذلك واضحاً في تدشين قاعدة جوية في مطار حميميم العسكري جنوب محافظة اللاذقية وقاعدة أخرى في مطار الشعيرات بريف حمص. الانتشار العسكري الروسي في سوريا، أعاد أجواء حرب باردة جديدة، وترسخ هذا السيناريو يوم 24 نوفمبر الماضي عندما أسقطت تركيا مقاتلة روسيا من طراز سوخوي، زعمت أنقرة، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي، أنها انتهكت مجالها الجوي، علماً بأن الموقف التركي يتصادم تماماً مع موقف موسكو من الأزمة السورية، بل إن التدخل الروسي يحبط مساعي تركيا الرامية لتدشين منطقة حظر طيران تسطيع من خلالها المعارضة السورية التمركز على الأرض دون التعرض لقصف طائرات نظام بشار، ناهيك عن أن أنقرة تعتبر أن رحيل الأسد هو الحل وهذا عكس ما تريده موسكو التي لا ترى بديلاً للأسد غير تنظيم "داعش". الضربات الجوية التي تشنها موسكو ضد المعارضة السورية، باتت مثار تساؤل، خاصة بعد اغتيالها زهران علوش قائد تنظيم جيش الإسلام يوم 25 ديسمبر، وذلك على الرغم من مشاركة هذا لفصيل المسلح في مؤتمر الرياض في 9 ديسمبر وقبوله بالسعي لحل سياسي للأزمة السورية.
تكلفة العمليات الروسية
تقدر تكلفة الضربات الجوية الروسية في سوريا بزهاء 4 ملايين دولار يومياً، وذلك حسب بيانات نشرتها صحيفة "ذي موسكو تايمز". وأظهرت بيانات جمعتها مجلة "آي أتش أس جينز" المتخصصة في الشؤون الدفاعية أن عمليات القصف والإمداد والبنية التحتية والقوات البرية، إلى جانب وابل صواريخ "كروز"، التي تم إطلاقها في منطقة الصراع كلفت روسيا ما يتراوح بين 80 و115 مليون دولار منذ بداية ضرباتها الجوية في 30 سبتمبر2015. ورغم أن هذه الأرقام تبدو ضئيلة مقارنة بميزانية الدفاع الروسية التي تقدر بـ 50 مليار دولار خلال 2015، لكنها مرشحة للارتفاع، لأن روسيا غير متفائلة بشأن رفع العقوبات التي فرضتها حكومات غربية على موسكو بعد ضم شبه جزيرة القرم. وتقوم أكثر من 50 مقاتلة وطائرة هليكوبتر روسية بضربات على معاقل تنظيم "داعش" في سوريا. ورغم صعوبة الحصول على بيانات دقيقة، لكن "آي أتش أس جينز" تؤكد أن كل طائرة تكلف 12 ألف دولار في كل ساعة طيران، بينما تكلف كل طائرة هليكوبتر نحو 3 آلاف دولار في الساعة.
وتؤكد مجلة "آي أتش أس جينز" أن عمليات القصف تتطلب قضاء المقاتلات نحو 90 دقيقة في الجو يومياً، بينما تحلق طائرات الهليكوبتر لمدة ساعة يومياً، ومن ثم تنفق موسكو نحو 710 آلاف دولار كل 24 ساعة، وتلقي الطائرات ذخائر تقدر بنحو 750 ألف دولار يومياً. وتكلف قوات الدعم نحو 440 ألف دولار يومياً. ويحتاج الإبقاء على السفن في البحر المتوسط إلى 200 ألف دولار أخرى، في حين تكلف أنشطة المساندة مثل الدعم اللوجيستي وجمع المعلومات المخابراتية والاتصالات والهندسة 250 ألف دولار. ويعني ذلك أن الحد الأدنى لتكلفة العمليات العسكرية اليومية هو 2.4 مليون دولار يومياً.
من"الدابي إلى دي ميستورا"
الوضع السوري منذ بداية الاضطرابات أثار قلق العالم العربي، ومن ثم أصدر مجلس جامعة الدول العربية في 24 نوفمبر 2011 القرار رقم 7441، الذي تضمن قيام الأمين العام بإرسال بعثة مراقبي الجامعة إلى سوريا للقيام بمهامها. البعثة ترأسها الفريق أول محمد أحمد الدابي، وهو سوداني الجنسية، وأصدرت تقريرها الذي رصدت فيه المشهد السوري خلال الفترة من 24 ديسمبر 2011 إلى 18 يناير 2012، وشابت مهمة البعثة الغموض، وثارت تساؤلات حول خلفية "الدابي" وما يدور حوله من اتهامات تتعلق بإقليم دارفور السوداني، ولم يحقق المراقبون العرب ما هو مطلوب منهم، ولم تحصل البعثة على الوسائل الكافية لرصد الواقع السوري وكشف انتهاكات النظام. وبعد فشل مهمة الدابي. وفي 23 فبراير 2012 اختارت الجامعة العربية كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة ليقوم بمهمة المبعوث العربي والأممي لسوريا، لكن لم تستمر مهمته، إذ لم يكمل فترة التفويض الممنوحة له، واستقال من منصبه في 2 أغسطس 2012، مفصحاً عن أن غياب التعاون الدولي، وعدم وجود توافق بين أعضاء مجلس الأمن حول الأزمة السورية، حال دون تفعيل خطة السلام التي اقترحها والمكونة من ستة بنود، تم إقرارها في بيان جنيف نهاية يونيو 2012، والصادر عن "مجموعة العمل من أجل سوريا"، البنود تضمنت: أولا: الالتزام بالعمل مع عنان من أجل عملية سياسية شاملة يقودها السوريون. ثانياً: الالتزام بوقف جميع أعمال العنف المسلح، بما في ذلك وقف استخدام الأسلحة الثقيلة وسحب القوات ووقف تحركات قوات الجيش باتجاه المناطق المأهولة بالسكان. ثالثاً: تطبيق هدنة يومية لمدة ساعتين للسماح بإدخال المساعدات من جميع المناطق المتضررة من القتال.
رابعا: الإفراج عن جميع من جرى اعتقالهم تعسفيا بمن فيهم المعتقلون لقيامهم بنشاطات سياسية سلمية. خامساً: الاتفاق على ضمان حرية الحركة للصحافيين في جميع أنحاء البلاد وتبني سياسة لا تقوم على التمييز بشأن منحهم تأشيرات لدخول البلاد. وأخيرا: الاتفاق على حرية تكوين المؤسسات وحق التظاهر السلمي على أنها حقوق مضمونة قانونيا.
"عنان" أفصح عن اعتقاده بأن بشار الأسد سيضطر للرحيل عاجلاً أم آجلاً. لكن كانت لديه قناعة بأن ليس هناك حل عسكري للأزمة بل إنها تتطلب اتفاق سياسي متوازن.
المهمة العربية والأممية آلت في سبتمبر 2012 إلى الدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي، الذي أدرك بعد معايشته للمشهد السوري أن النجاح في تلك المهمة أمر مستحيل، وعوّل على إمكانية تغيير الموقف الروسي الداعم لنظام بشار الأسد، لكن دون جدوى، فاستقال من منصبه في فبراير 2014.
وبعد ضغط سوري- روسي تم اختيار مبعوث أممي جديد ولكنه يمثل الأمم المتحدة فقط وليس الجامعة العربية، وهو الإيطالي والسويدي أيضاً "ستيفان دي ميستورا"، الذي دعا إلى ما يسمى ب"تجميدات موضوعية" للقتال في سوريا تبدأ بمدينة حلب التي تقع في قلب الاشتباكات بين القوات الموالية للحكومة وعدد من الفصائل المسلحة منها كتائب إسلامية وجبهة النصرة -جناح القاعدة في سوريا. وحذر دي ميستورا من التغاضي والتباطؤ في إنقاذ حلب من الدمار ومن أن يكون مصيرها كمصير حمص. لكن النظام اعتبر أن هذا المقترح سيؤدي لإنقاذ المعارضين في المدينة ومنع قوات بشار الأسد من القضاء على فصائل المعارضة فيها، معتبراً الأولوية لمكافحة الإرهاب. وحتى المعارضة اعتبرت أن أي تسوية ميدانية يعتبرها النظام مكسباً له ويستغلها إعلامياً لصالحه، وأن وقف القصف يجب أن يشمل كافة المدن السورية.
وفي 16 يناير 2015 أكد دي ميستورا أن النزاع في سوريا الذي دخل عامه الخامس أعادها 40 عاماً إلى الوراء، وأنها تحتاج إلى 40 عاما أخرى لكي تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب. وفي 13 فبراير الماضي صرح دي ميستورا أن الرئيس بشار يشكل "جزءاً من الحل" في سوريا بعد أربع سنوات من القتال الذي استفاد منه خصوصا تنظيم الدولة الإسلامية، داعش. المبعوث الأممي دعا في يوليو الماضي إلى التمسك بمبدأ حماية المدنيين، وطلب نظام الأسد بوقف القصف العشوائي وإلقاء البراميل المتفجرة على المدن.
ميستورا طرح في مطلع سبتمبر 2015 وثيقة للحل السياسي عبر ثلاث مراحل لتنفيذ بيان جنيف. وتدعو الوثيقة إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة، ومجلس عسكري مشترك من النظام والمعارضة في مرحلة انتقالية توصل البلاد إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية برعاية الأمم المتحدة. وتقترح الوثيقة خريطة طريق لتنفيذ بيان جنيف، مقسمةً مسيرة الحل إلى ثلاث مراحل أولاها مرحلة التفاوض. وتستند المرحلة الأولى إلى بيان جنيف للوصول إلى اتفاق مرحلي، يتضمن وقفاً دائماً لإطلاق النار، وتعاون القوات المقاتلة عدا الفصائل الإرهابية، وإصلاح القطاع الأمني وصولاً إلى تشكيل سلطات انتقالية.
والمرحلة الثانية هي المرحلة الانتقالية، ويتم فيها إنشاء هيئة حاكمة انتقالية بسلطة مطلقة في جميع الشؤون العسكرية والأمنية وتشرف على المجلس العسكري المشترك.
وتشير الوثيقة إلى اتفاق الطرفين على قائمة من 120 مسؤولاً لن يتسلموا أي منصب رسمي خلال المرحلة الانتقالية، بسبب الدور الذي أدوه في الصراع.
أما المرحلة الأخيرة بحسب الوثيقة فهي مرحلة الدولة السورية في شكلها النهائي، حيث تؤدي المرحلة الانتقالية إلى الوصول إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية برعاية الأمم المتحدة.
ولم تشر الوثيقة إلى رئيس النظام السوري بشار الأسد إلا أنها اقترحت تأسيس المؤتمر الوطني السوري من الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني. وحرصاً على عدم تكرار السيناريو العراقي بعد سقوط صدام حسين، التزمت الوثيقة بالحفاظ على المؤسسات الرسمية وإصلاحها، ويشمل ذلك الجيش مع رفض أي اجتثاث لحزب "البعث". تأييد مجلس الأمن الدولي لمبادرة مطورة للمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا تحمل في طياتها استحداث 4 مجموعات عمل تتركز على مجالات السلامة والحماية، وإنهاء الحصار وضمان وصول المساعدات الطبية، والمسائل السياسية والدستورية، مثل إنشاء هيئة الحكم الانتقالي والانتخابات.
الاختزال الثالث: 10 ملايين لاجئ
وبعد "الكيمياوي" و"داعش"، تعثرت الأزمة وتشعبت، وخلال الشهور الأخيرة، اكتظت وكالات الأنباء العالمية بصور اللاجئين السوريين، النازحين صوب تركيا والعراق، أو من يغامرون بقوارب الموت عبر الشواطئ الليبية أو المتسللين إلى أوروبا براً عبر دول البلقان. الحديث عن الأزمة السورية أُختزل مرة أخرى في مأساة اللجوء، وردة الفعل سواء من الحكومات الأوروبية أو من أحزاب اليمين المتطرف، وكأن الأزمة يُراد تحويلها من ثورة متعثرة- تحولت حرباً أهلية- إلى مجرد معاناة إنسانية، ووجدنا بعض الدول الأوروبية منفتحة على قبول اللاجئين، لاعتبارات إنسانية أو اقتصادية، ودولاً أخرى تقنن استقبالهم وتتعهد بقبول أعداد معينة منهم وفق جداول زمنية محددة. شظايا الأزمة تخطت البعد الإقليمي، بعدما ركّز اللاجئون السوريون على أوروبا كوجهة للاستقرار.
ووفق تقديرات الأمم المتحدة يوجد 7.6 مليون مشرد داخل سوريا (أي نزحوا من مناطقهم الأصلية إلى أخرى أكثر أمناً بالنسبة لهم)، وبات نصف سكان سوريا البالغ عددهم 23 مليون نسمة ينطبق عليهم وصف لاجئين، ويحتاجون مساعدات إنسانية عاجلة. أكثر من 4 ملايين سوري أصبحوا لاجئين خارج بلادهم، 95 في المئة منهم متواجدون في خمس بلدان: تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر. لبنان مثلاً تستضيف 1.6 مليون لاجئ سوري أي خمس عدد سكانها. وفي الأردن يوجد 650 ألف سوري أي 10 في المئة من سكان المملكة، وفي تركيا 1.9 مليون لاجئ سوري، أما العراق الذي لديه 3 ملايين مشرد، فإنه يستضيف أيضاً 249.463 سورياً، ولدى مصر 132.375 سورياً. ويشار أيضاً إلى أن أكثر من 80 في المئة من اللاجئين السوريين في الأردن يعيشون تحت خط الفقر المحلي.
وحسب إحصاءات وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، فإن 400 ألف لاجئ سوري أو 10 في المئة من إجمالي السوريين الموجودين في الدول الخمس المشار إليها في حاجة إلى إعادة التوطين، وتطالب منظمة العفو الدولية، بإعادة توطين 10 في المئة على الأقل من اللاجئين الأكثر عرضة للخطر في البلدان الخمسة بنهاية عام 2016.
من جانبها، تعهدت ألمانيا باستضافة 35 ألف لاجئ سوري ضمن برنامج إنساني، وهذا العدد يمثل 75 في المئة من إجمالي اللاجئين السوريين في أوروبا، علماً بأن ألمانيا والسويد استقبلا 47 في المئة من السوريين الذين قدموا طلبات لجوء سياسي إلى دول الاتحاد الأوروبي. وخلال الفترة من أبريل 2011 إلى يوليو 2015، وباستثناء ألمانيا والسويد، فإن دول الاتحاد الأوروبي الأخرى (26 دولة) تعهدت بإعادة توطين 8700 سوري أو ما يقارب 0.2 في المئة من اللاجئين السوريين المستقرين في الدول الخمس الأساسية التي تستقبلهم. ويُشار أيضاً إلى أنه قد تم توطين 104410 لاجئ سوري، في دول أخرى أو ما نسبته 2.6 في المئة من إجمالي اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان والأردن والعراق ومصر وتركيا.
وحسب إحصاءات البنك الدولي، فإنه في عام 2015 وصل عدد السوريين طالبي اللجوء إلى ألمانيا 30120 سورياً، في حين بلغ عدد من تقدموا بطلب اللجوء إليها منذ 2011 إلى الآن 87505 سوريين. واستقبلت الدنمارك خلال العام الجاري طلبات لجوء لـ1160 سورياً، وبلغ إجمالي الطلبات المقدمة إليها خلال الفترة من 2011 إلى الآن 10920 سورياً. وخلال الفترة ذاتها تقدم 62105 سوريين بطلب لجوء إلى السويد التي استقبلت خلال العام الجاري 7250 لاجئاً سورياً. وفي الفترة ذاتها تقدم 38059 سورياً بطلبات لجوء للنرويج، وبلغ عدد السوريين الراغبين في اللجوء إليها هذا العام 645 سورياً. ووصل عدد طالبي اللجوء إلى فرنسا خلال الفترة ذاتها 6215 وإلى سويسرا 7503 والنمسا 12910 واليونان 2750 ورومانيا 2120 وبلغاريا 1446 وإسبانيا 4635 وإيطاليا 1660 والمجر 18415 وهولندا 13550 وبلجيكا 6160 وبريطانيا 6405 وفنلندا 565 وسلوفينيا 180.
الاختزال الرابع: مصير الأسد
ومن مفارقات الأزمة السورية، أن النظام لعب على وتر استهلاك الوقت، وبالفعل أدى التوتر الروسي- الغربي، إلى عناد بوتين في الملف السوري، لأن العلاقات الأميركية- الروسية في 2011 تغيرت كثيراً وسادها الصراع والتنافس وربما أجواء الحرب الباردة، بشار لعب أيضاً على وتر تحالفاته التقليدية، ما جعل الرهان على بقائه أطول فترة، أو تأجيل طرح رحيله كبند في قائمة الحلول المقترحة يتأخر شيئاً فشيئاً، وكأن المطلوب هو بقاء هذا النظام، وليس رحيله، على الرغم من سقوط ربع مليون قتيل ونزوح 10 ملايين سوري. مصير الأسد بات محور خلاف بين حلفاء الرئيس وخصومه، المعارضة ترى أن المشكلة في النظام، ومن ثم لا يصلح أن يكون جزءاً من الحل، بينما يكرر الروس أن مصير بشار الأسد يحدده الشعب السوري وحده وليس القوى الخارجية. وهذا الجدل لا يعود فقط إلى الثورة السورية ومآلاتها، بل يرتبط بطبيعة النظام السوري ومركزيته الشديدة وتحكم الرئيس في كافة مفاصل القرار، وهذا ما يظهر بوضوح في شعارات الموالين للنظام التي ظهرت عشية الثورة مثل "الله..سوريا وبشار وبس". إيران أيضاً لا تزال تنظر لبشار كحليف في "محور الممانعة" المزعوم. والخوف أن يكون التدخل العسكري الروسي أداة لفرض واقع سوري جديد، تتآكل فيه قوى المعارضة المعتدلة، تدريجياً ليصبح المجتمع الدلي أمام اختيار صعب بين نظام مستبد ملطخ بدماء شعبه وشبح نظام "داعش".
وإذا كان المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا قد أعلن في 26 ديسمبر أنه من المخطط إطلاق المفاوضات بين الحكومة السورية والمعارضة في 25 يناير بجنيف من أجل اتفاق على وقف إطلاق النار، فإن الأمل يظل قائماً في بنود بيان فيينا الصادر في 30 أكتوبر الماضي الذي شاركت فيه الصين ومصر والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيران والعراق وإيطاليا والأردن ولبنان وعمان وقطر وروسيا والسعودية وتركيا والإمارات والمملكة المتحدة والأمم المتحدة والولايات المتحدة التي تطرق بعضها إلى وحدة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها وهويتها العلمانية، وأن مؤسسات الدولة السورية ستظل قائمة، ومحاربة "داعش" وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وضرورة تسريع كل الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب. وتضمن البيان الدعوة لتفعيل بيان جنيف 2012 وقرار مجلس الأمن الدولي 2118 من خلال جمع ممثلي الحكومة والمعارضة في سوريا في عملية سياسية تفضي إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية على أن يعقب تشكيلها وضع دستور جديد وإجراء انتخابات. وينبغي إجراء هذه الانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة بموافقة الحكومة وبالتزام أعلى المعايير الدولية للشفافية والمحاسبة، وأن تكون حرة نزيهة يحق لكل السوريين ومنهم المغتربون المشاركة فيها، وأن سوريا هي التي تملك وتقود هذه العملية السياسية والشعب السوري هو من يحدد مستقبل سوريا.
دعم إيراني بمقاتلين شيعة
النظام السوري، الذي ينتمى إلى أقلية علوية لا تتجاوز نسبتها 12 في المئة من إجمالي سكان سوريا، لجأ إلى بعده الطائفي كي يحشد المدافعين عنه، ففي خاصرته الجنوبية "حزب الله" الشيعي، والنظام متحالف مع الحكومة العراقية الشيعية في بغداد، ومنضوي أصلاً في تحالف مع إيران، التي نجحت في توظيفه لمصلحة مشروعها الرامي إلى انتزاع ملفات "المقاومة" و"الحروب بالوكالة" والدخول على خط القضية الفلسطينية باستمالة "حماس" وتنظيمات فلسطينية أخرى. كما أن سقوط نظام بشار، حال حدوثه، سيعني سد قنوات الدعم العسكري القادم من طهران إلى"حزب الله" في الجنوب اللبناني، وحرمان طهران من حليف يطل على البحر المتوسط ومجاور لإسرائيل ولديه تماس أرضي مع العراق. بديل نظام بشار قد يكون نظام يعكس الأغلبية السنية في سوريا وغير موالي لطهران، وهذا ما تخشاه الأخيرة. وهناك محاولات خفية للتغيير الديموغرافي في المناطق المحيطة بدمشق، خاصة القلمون، التي بات يسكنها الآن عناصر من "حزب الله"، بحماية إيرانية، وذلك لإيجاد جسر بشري سكاني موالٍ للنظام يربط بين المدن الساحلية وجبال العلويين وبين الشمال اللبناني الذي يسيطر عليه "حزب الله". وهناك محاولات لتفريغ الزبداني على الحدود السورية- اللبنانية من سكانها السُنة وإحلال سكان شيعة بدلاً منهم. ومنح الشيعة القادمين من العراق وإيران ولبنان أراض وعقارات تم الاستيلاء عليها بذريعة أن أصحابها معارضون.
ومنذ بداية الأزمة، قدمت إيران ما يتراوح بين 4 و8 مليارات دولار للنظام السوري في صورة معدات عسكرية ومنح وقروض، ففي عام 2012 عندما اتضح أن الأسد لن يتمكن من سحق حركة الاحتجاج التي تحولت إلى ثورة مسلحة، بدأت طهران إرسال معدات عسكرية ومستشارين من فيلق القدس التابع للحرس الثوري. وتتمثل استراتيجية إيران في سوريا في تعظيم الاستفادة من القوات السورية والأجنبية وتقليل المجازفة، ونشر فيلق القدس نحو 2000 مقاتل في سوريا، قتل منهم نحو 200 حتى الآن. وحسب المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، تقدم طهران لدمشق سنوياً قرابة 6 مليارات دولار، وهذا الرقم لا يتضمن الانفاق الإيراني على الميليشيات الشيعية الداعمة لنظام بشار، وقدّر "ستيفن هايدمان"، النائب السابق لوحدة البحث التطبيقي بمعهد السلام حجم المساعدات الإيرانية السنوية لسوريا بمبلغ يتراوح ما بين 15 إلى 20 مليار دولار.
وبحلول عام 2013، بعد أن قدّرت طهران أن القوات السورية غير كافية للحسم وهزيمة المعارضة، سهلت نشر مقاتلين شيعة أجانب في سوريا، معظمهم تابعين لـ"حزب الله" اللبناني، أوثق حلفاء إيران في المنطقة، ويوجد نحو 4000 مقاتل من ميليشيا الحزب، التي تكبدت خسائر فادحة تتراوح بين 1000 و1500 مقاتل، وهي خسارة كبيرة بالنظر إلى قوة الحزب بأسره البالغ عددها 15000 مقاتل. وبحلول منتصف العام الجاري، بلغ عدد المقاتلين الشيعة الأجانب في سوريا زهاء 20 ألفاً، من بينهم مقاتلو "حزب الله"، وجميعهم تحت قيادة "فيلق القدس" والجنرال الإيراني قاسم سليماني. ومن أهم قيادات "حزب الله" التي لقيت مصرعها في سوريا: فوزي أيوب، وجهاد مغنية، وحسن حسين الحاج، وغسان فقيه وسمير القنطار.
وأثناء الحرب الدائرة منذ أكثر من 4 أعوام حتى الآن، وحسب صحيفة "التايمز" اللندنية، فقد الجيش السوري أكثر من نصف تعداده، الذي بلغ عند بداية الحرب 250 ألفاً، وتراجع الآن بسبب الخسائر والانشقاقات إلى نحو 125 ألف جندي نظامي، إلى جانب 125 ألفاً من أفراد الميليشيات الموالية للحكومة، منهم عراقيون وباكستانيون وأفغان من "الهزارة" دربتهم إيران.
وأدى الاعتماد المتزايد على مقاتلين أجانب إلى وضع ميلشيا حزب الله اللبناني في مركز بارز، إذ يدير مقاتلوها في الوقت الراهن المعارك في أماكن كثيرة، على حساب قادة الجيش السوري. وتتضارب التقارير حول حجم المشاركة الإيرانية في دعم بشار، ففي أكتوبر الماضي، نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن خبراء أن هناك أكثر من 7000 من أعضاء فيلق الحرس الثوري الإيراني وميليشيات أخرى متطوعة يساعدون النظام السوري. وأفاد الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس قيادة الأركان الأميركية المشتركة، بوجود 2000 جندي إيراني في سوريا يقودون معركة لإنقاذ الأسد. لكن مسؤولين أميركيين أكدوا أن هذه الأعداد تضاءلت في الوقت الراهن، وأشار مسؤول بوزارة الدفاع الأميركية إلى وجود 700 جندي تابع لفيلق القدس فقط الآن في سوريا، بسبب زيادة الخسائر في صفوف الإيرانيين. لكنه استثنى من ذلك المستشارين العسكريين الذي يشاركون مع الجيش السوري منذ 2012.
تآكل الاحتياطيات السورية
أدت قرابة خمس سنوات من القتال وانهيار الاقتصاد إلى إفلاس الحكومة السورية، وبحسب صحيفة "التايمز" البريطانية، بدأت سوريا الحرب الأهلية ولديها زهاء 30 مليار دولار في احتياطيات النقد الأجنبي، ولكن بعد أربع سنوات من القتال، لم يعد لدى النظام سوى مليار دولار فقط. وأفضى هذا التآكل في رأس المال الأجنبي وانهيار اقتصاد الحرب إلى تراجع قيمة الليرة السورية، ونفذ نظام الأسد مداهمات في أنحاء دمشق من دون جدوى بحثاً عن نقد أجنبي. وفي هذه الأثناء، نتج عن ضعف الليرة مزيد من الاستياء في صفوف الجيش السوري.
معارضة مشتتة
المعارضة السورية بحالتها الراهنة تعد من العوامل التي أطالت أمد الأزمة السورية، ومددت عمر نظام بشار، واللوم قد لا يقع على هشاشتها وعدم تماسكها فقط، بل لطبيعة المشهد السوري، القائم على فكرة المركزية في إطار حزب "البعث" وغياب ثقافة سياسية تعددية تسمح للمعارضين بالعمل السياسي، ناهيك عن عدم حصول هذه المعارضة على الدعم العسكري أو المادي أو حتى بالسياسي الكافي لتقويتها في وجه النظام. تنظيمات المعارضة تتضمن: المجلس الوطني السوري الذي تأسس في إسطنبول في 2 أكتوبر 2012، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الذي تشكل في الدوحة في 11 نوفمبر 2011، وهيئة التنسيق الوطني التي تأسست في الداخل يوم 17 سبتمبر 2011 وحملت شعار "اللاءات الثلاث": "لا للتدخل الأجنبي لا للعنف لا للطائفية"، ومبادرة رياض سيف في 8 نوفمبر 2012 التي أدت إلى تشكيل "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"، و"الجيش السوري الحر" الذي تشكل في 29 يوليو 2011 بقيادة العقيد رياض الأسعد، ويضم العسكريين المنشقين عن جيش النظام، ولديه مجلس عسكري. وينقص هذه التنظيمات التنسيق بين معارضة الداخل والخارج، وعدم القدرة على التأثير في الداخل، كونها لم تنبثق بشكل مباشر عن الانتفاضة السورية. السعودية حاولت جمع المعارضة في مؤتمر الرياض يوم 9 ديسمبر من أجل التمهيد للحوار مع نظام بشار لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية مطلع العام المقبل، وأقر المشاركون في المؤتمر من سياسيين وعسكريين محسوبين على المعارضة مبادئ مهمة منها: وحدة الأراضي السورية، والسيادة الوطنية، والدولة المدنية، وديمقراطية تداول السلطة، ومكافحة الإرهاب واعتماد سيادة القانون وحقوق الإنسان. المعارضة تعاني من تعدد "ولاءات الدعم"، سواء المالي أو العسكري، ودخول الأيديولوجيات على العمل العسكري، وهذا لا يتسق مع شعار يفترض أنه يوحد المعارضة وهو "إسقاط النظام"، ناهيك عن دور "داعش" التخريبي لقوى المعارضة.
الخروج من نفق الأزمة ليس سهلاً، ولا مناص من توافق روسي- غربي، لوقف نزف الدماء ووضع حد لتدمير سوريا، وعلى المعارضة أن توحد كلمتها وتتفق على أولويات يجمع عليها كافة السوريين كي يتسنى محاورة النظام. والمطلوب من القوى الدولية والإقليمية إعطاء الأولوية لإنقاذ سوريا كوطن، وليس التركيز على مصير بشار.
"الأزمة حلها سياسي لكن بغياب الأسد" عبارة تكررت كثيراً في اجتماعات شاركت فيها المعارضة السورية، لكن قرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر في 18 ديسمبر 2015 لم يراع هذه النقطة، فعقدة الأسد فاصلة، واستمراره يعني استحالة الحل واستمرار القتال، ما يعصف باستقرار المنطقة. حيث لم يشر نص القرار الأممي للأسد وأشار إلى بدء محادثات السلام بسوريا في يناير 2016، وأكد أن الشعب السوري هو من يقرر مستقبل البلاد ودعا لتشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية مطالباً بوقف أي هجمات ضد المدنيين بشكل فوري. وجدد القرار دعم مجلس الأمن إجراء انتخابات حرة ونزيهة على أساس الدستور الجديد في غضون 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة، فهل تصطدم مساعي الحل بالتمترس الروسي حول الأسد؟