الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الأطفال المهدّدون.. وسوريا المهدّدة بمستقبلها

الأطفال المهدّدون.. وسوريا المهدّدة بمستقبلها

09.03.2014
سناء علي


السفير
السبت 8/3/2014
"جود مختارة الحيّ" تقول أمل وهي تنظر إلى طفلتها، ابنة الأربع سنوات، وهي تركض أمامها بمرح. تبوح بشيء من الحسرة "لم يتبق لنا أي متنفس سوى الخروج إلى الشوارع، والتنزه قليلاً في السوق بعد أن تركنا بيتنا في قدسيا، بعد أحداث الصيف الماضي هناك، فأصبح كل من في الحي هنا (تقصد المنطقة التي تقطنها خلف شارع البرامكة) يعرف جود ويحبها. ينتظرونها كل صباح ويقدمون لها الحلوى".
تعاني جود، حالة رهاب شديدة تجاه الأصوات العالية لم تكن موجودة سابقاً، فما إن تسمع صوتاً عالياً حتى تبدأ بالبكاء بشكل هستيري، وتدخل في نوبة ذعر لا تزول بسهولة.
وتحدثني أمل أيضاً عن طفلة صديقتها النازحة من مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين قرب دمشق قبل عام تقريباً، موضحة أنها تعاني حالة تبول لاإرادي أثناء نومها، بالرغم من تجاوزها الخمس سنوات، وهذه الحالة يسببها الانتقال من بلد إلى آخر أو الهجرة، وهو من العوامل المولدة للقلق والخوف من المجهول والبعد عن كل ما اعتاد عليه الطفل في محيطه، فيعبر الطفل عن شعوره هذا بالتبول أثناء الليل.
الأطفال هم دائما الطرف الأضعف في النزاعات والحروب. وقد تعرض الأطفال في سوريا، على مدار أكثر من ثلاث سنوات، لأبشع أنواع المعاناة والحرمان والعنف والقهر، خاصة أنهم يتأثرون بها نفسياً واجتماعياً واقتصادياً. والتأثير السلبي على نفسية الأطفال تعدّاه في كثير من الحالات إلى تأثير صحي وجسدي، كالإصابة بالنحول والهزال، وذلك نتيجة الحصار الذي يعانون منه في ظل الظروف اليومية التي يعيشونها، والانكفاء عن الخروج والتنزّه وتفريغ الطاقات واللعب في أماكن مفتوحة ونظيفة.
لكن يبقى الأثر الأخطر الذي يدعو للقلق على مستقبل هؤلاء الأطفال هو التغير السلوكي في طبيعتهم. ولا يمكن تقديم إحصائية أو نسبة محددة لمدة تأثر أطفال سوريا بما يحصل حولهم، خصوصا أن نسبة التأثر خاضعة لشروط واحتمالات، منها على سبيل المثال المنطقة التي يعيش فيها الطفل، فالمناطق التي شهدت معارك ومواجهات أكبر كان لها التأثير الأعظم، مقارنة بالمناطق الأقل سخونة، بالمعنى الحربي، كما تؤدي فروق الإدراك الفردية وعمر الأطفال وطرق معالجة الأهل (إن وجدوا) للحالة دورا في مدى تأثرهم بالمحيط.
ويعاني كثير من الأطفال في سوريا حالياً من الإحساس بالحرمان وعدم الاستجابة لكل متطلباتهم واحتياجاتهم، وقد يدفعهم ذلك إلى العمالة المبكرة أو التسوّل.
وعندما ينشأ الطفل في مجتمع يشهد حوادث عنف، فانه من الطبيعي جداً أن يتأثر بها، خاصة إذا كان العنف ممنهجاً وموجهاً، وقد شاهدنا أمثلة على تدريب الأطفال على حمل السلاح وتعليمهم سلوك القتل والإجرام، فالطفل أشبه بالورقة البيضاء التي تستطيع أن تكتب فيها ما تريد.
وتأثير العنف في الأطفال دون سن المدرسة أخطر بكثير من تأثيره في من هم أكبر، لأن الأطفال في هذا السن لا يكونون قادرين على التعبير عما في داخلهم، ما سيسبب لهم أزمات نفسيّة قد ترافقهم سنوات طويلة من حياتهم.
وتقول مديرة إحدى المدارس الابتدائية في دمشق "بحكم طبيعة عملي أستطيع أن أقول إن الأطفال تأثروا بنسبة كبيرة جدا بالأحداث الدائرة في البلاد، وانعكس ذلك على سلوكهم بطريقة سلبية جعلتهم أكثر عنفاً وهيجاناً إذا صح التعبير. مشاهد القتل والدمار وأصوات القذائف والانفجارات، وحتى الأحاديث التي يسمعونها في محيطهم وعبر التلفاز، اخترقت لاوعيهم واستوطنت فيه، فكل ألعابهم باتت تميل إلى القتل والصراخ والركض بطريقة جنونية، وهذا دليل حالة نفسية غير مستقرة وطاقات مكبوتة سببها الحرب".
وتضيف "بدأت ألاحظ أن الأطفال في سن التعليم الأساسي أقل تركيزاً في ما يخصّ دراستهم، واقلّ اهتماماً، لأن إحساسهم بالفوضى المجتمعية أصابهم بشيء من الاستهتار، وهذا مؤشر سلبي لمستقبل تحصيلهم العلمي، خاصة الأطفال الذين فقدوا أولياء أمورهم".
استشارية نفسية توافق المديرة في رأيها. وتقول "من الناحية السلوكية، فإن التلاميذ يعانون حالة نفسية عصبية متقدمة، لا يحتملون حتى المزاح من زملائهم، ردات أفعالهم عنيفة بطريقة انفعالية جدا. عندما أجرينا للأطفال اختباراً للمشاعر التي يحملها الإنسان كنسب مئوية كانت النتيجة صادمة، حيث وجدنا أن الغضب والحزن هي المشاعر الطاغية، والشعور الأقل نسبة كان السعادة، وهذه المشاعر السلبية رفعت نسبة العنف في سلوكهم".
وجهة نظر الاختصاصين النفسيّين أن الأحداث في سوريا أفرزت نوعين من التأثير السلوكي، الأول تأثير مباشر (آنيّ) أو بمعنى ردات فعل، كحالات الخوف والهلع من الأحداث الدائرة، لكن هذا التأثير يقلّ مع تكرار الحوادث، لأن العادة تخفف من حدة الحالة، ولكل قاعدة استثناؤها بكل تأكيد. التأثير الثاني غير مباشر (طويل الأمد)، قد يكون إيجابياً بنسبة ضئيلة في أحد انعكاساته، لأنه سيعيد صوغ الشخصية السورية للمستقبل، بعد تحررها من الخوف وقيود الانضباط بكل ما تعنيه الكلمة، فإذا استثمرت الخسائر بعد هذه الأزمة بالشكل السليم، وأعيد توزيع القوى الاجتماعية والاقتصادية بطريقة صحيحة، سيصلح المجتمع الذي كان هناك اختلال في بعض هيكليته، وبل سيما أن الإنسان السوري قبل الأزمة هو حتماً غيره بعدها.
وتشير تقديرات "اليونيسيف"، منتصف حزيران الماضي، إلى تضرر 6,8 ملايين شخص بسبب أحداث العنف، منهم أربعة ملايين طفل بحاجة إلى المساعدة العاجلة، إضافة إلى 1,6 مليون سوري لجأوا إلى الدول المجاورة، بينما تضرر ما يقرب من 1,15 مليون طفل من الأزمة داخل سوريا، في حين يُظهر تقرير صادر عن مفوضية اللاجئين، في تشرين الثاني العام 2013، أن عدد الأطفال الذين لا يحصلون على التعليم يفوق عدد الأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة، خاصة أطفال مخيمات اللجوء في الدول العربية، إضافة إلى أن عددا كبيرا من الأطفال الذين يولدون في المنفى ليس لديهم شهادات ميلاد. فمن ينقذ مستقبل أطفال سوريا من الكارثة؟