الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الأكثرية والأقلية.. من رواندا الى سوريا

الأكثرية والأقلية.. من رواندا الى سوريا

08.04.2014
وسام سعادة



المستقبل
الاثنين 7/4/2014
في صباح هذا اليوم، قبل عشرين عاماً، انطلقت أسرع عملية ابادة جماعية وأوسعها مشاركة شعبية: فبعد ساعات قليلة على ذيوع نبأ مقتل الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا المنتمي الى الأكثرية الإثنية من الهوتو تحرّك مئات الآلاف من الهوتو بالسواطير والسكاكين والهراوات لتقطيع وإحراق ما قد يصل الى نحو مليون من التوتسي.
انسجمت هذه الإبادة الى حد كبير مع التاريخ الغالب على الإبادات: فالمنحى الإجمالي هو ابادة الأكثرية الإثنية للأقلية الإثنية وليس العكس. أدّت الإبادة سياسياً مفعولاً عكسياً: فالأقلية الإثنية من التوتسي التي كادت تباد عن بكرة أبيها في رواندا، وتعرّضت لمجازر واسعة في بوروندي المجاورة أيضاً، أعادت تشكيل السلطة بعد الإبادة ولا تزال تتربّع عليها. صحيح أنّ السلطة الجديدة تعمل على انتاج سردية ولو مصطنعة عن "وحدة وطنية" بعد هذه الكارثة، لكنها تقف بالمرصاد للهراء المقابل الذي يتحدّث عن "ابادة مزدوجة" بين الإثنيتين. يبقى أن العنصر الأهم في ابتداع "وحدة وطنية" في رواندا اليوم هو الحديث عن مسؤولية فرنسا الفاضحة في دعم نظام "سلطة الهوتو" في مواجهة المتمردين التوتسي، ثم في التغطية الميدانية لعملية الابادة، حتى في ظل تواجد القوات الفرنسية على الأرض، وهذه وقائع فجّرت من جديد أزمة بين البلدين على خلفية توجيه الرئيس بول كاغام الاتهام لباريس عشية الذكرى العشرين، ما دفعها الى مقاطعة الاحتفالية.
ثمة اختلافات أساسية بين الكارثة الرواندية والكارثة السورية الحالية. لكننا في الحالتين أمام موجبات واغراءات ومخاطر استحضار ثنائية "أكثرية اثنية - أقلية اثنية". فهذه الثنائية ليست "فطرية" أو "طبيعية"، بقدر ما أنها ثنائية "مصنّعة" من عوامل فرز حديثة للغاية، توظّف عناصر من الذاكرات الجماعية على حساب عناصر أخرى. في رواندا، لعب الاستعمار الالماني ثم البلجيكي دوراً أساسياً في تحويل القسمة بين أصحاب المواشي من التوتسي وبين المزارعين من الهوتو الى قسمة عرقية صافية، أما في سوريا كما في العراق، فإنّ الإنكار المطوّل للطائفية، مع الاحساس العارم في البلدين بأن ثمّة بالفعل، في ظل حكم البعث، هيمنة لطائفة على الطوائف أو الجماعات الأخرى، قد أدّى في نهاية الأمر الى ظهور هذه الطائفية بمظهر "عرقيّ" للغاية، اذا ما قيس بالالتباسات "السياسية" للطائفية في لبنان. قبل سنوات، كان لسان حال العراقيين والسوريين يقول بأن "الطائفية موجودة في لبنان" وليس في العراق أو في سوريا. اليوم، صار الخطاب الطاغي معاكساً تماماً، ويذهب بالحديث عن الانقسام الطائفي الى أبعد حدود "الأثننة": كما لو أننا أمام قسمة من قبيل "هوتو" و"توتسي".
في رواندا، لعبت محاكاة النخب المحلية في السلطة للادارة الكولونيالية دوراً أساسياً في تعبيد الطريق للمجزرة الكبرى: طيلة فترة ما بعد الاستقلال الوطني جرى التحريض الهوتوي على التوتسي بأنّهم "المستعمرون" الحقيقيون الذين أخضعوا الفلاحين الهوتو لسيطرتهم وأذلّوهم. في الوقت نفسه جرى التحريض على التوتسي بوصفهم أعداء الله، وشيوعيين، ما دام أغلب المثقفين والمعارضين منهم. لكن بالنتيجة، عندما ارتكب الهوتو الابادة ضد التوتسي قبل عشرين عاماً استفادوا من تغطية الاستعمار الفرنسي.
أما في سوريا، فمحاكاة التقاليد الكولونيالية الغابرة يقوم بها النظام حين يقمع الأنسجة الأكثرية من مجتمعه، بوصفها لا تمتلك مناعة داخلية من الانقياد وراء التكفير والارهاب، ولا تستطيع تمثيل نفسها. لكن أيضاً، ثمة خطورة مقابلة في الدعاية المضادة، التي تسقط من حسابها ان البيئات الداعمة لهذا النظام لم تأت من وراء البحار.
بالتوازي، كما انه ضروري للغاية ان يحارب الروانديون رياء القول بأن "الابادة" كانت مزدوجة، كذلك الأمر بالنسبة الى سوريا: النظرة النسبية التي توازن بين أفعال النظام وبين أفعال المنتفضين عليه تشبه قول بعض مجرمي الهوتو بأن الكل كان يقتل في الكل يوم اغتيل الرئيس.
لكن هذا لا يلغي خاصية أخرى للمسألة السورية: ففي وقت يستخدم فيه النظام أبشع أشكال محاكاة الادارة الاستعمارية التقليدية في حربها على السكان البلديين، تبرز خطورة الخطاب الابادي العاجز الذي يريد أن يدفع بالضحايا الى موقع "استلاف ظلم" من المستقبل ليسوا قادرين على تحقيقه، وانما يدفع أكثر فأكثر الى المزيد من الانهيار الدموي للبلد. لأجل ذلك، فان اليقظة الحادة تجاه أي روحية ابادية ينبغي أن تكون المكمل الضروري لهذا الرفض في النظر الى الأمور على انّ "هذا يقتل وذاك يقتل". أي دعوة لاسقاط النظام لا تكون جدية ما لم تقترن بالتشديد على الطابع الفئوي لهذا النظام، وأي تشديد من هذا النوع سينقلب الى دعوة ابادية كارثية ان لم يقترن باقرار التعددية الاثنية على ما هي عليه، وعدم الرد على صلف الداعين لتحالف أقليات، بصلف المكابرة على التعددية الاثنية، في بلد يشكل فيه "العرب السنة" اكثر من 65 بالمئة من سكانه، ما يعني ان هناك ايضاً 35 بالمئة من سكانه من انتماءات ومشارب شتى، زد على ان الأشكال المتفاوتة من التعددية الإثنية تمتد عميقاً في الكتلة "الأكثرية" التي ليست "كتلة بذاتها"، انما هي كذلك من زاوية الطبيعة الفئوية للنظام.