الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الأكراد: ما لهم وما عليهم

الأكراد: ما لهم وما عليهم

21.09.2016
بشير عيسى


الحياة
الثلاثاء 20/9/2016
لا شك في أن الأكراد كانوا من أكثر المتضررين من الاتفاقات الدولية التي جاءت على أنقاض تفكّك السلطنة العثمانية. فالدول الاستعمارية حينها، والمجتمع الدولي لاحقاً، لم يكن لينصفهم بالاعتراف لهم بدولة معاصرة تمثلهم، أسوة بباقي الدول التي تجاورهم، وبالتالي أصبح العنصر الكردي أقليات موزعة بين تركيا والعراق وإيران وسورية إضافة الى أعداد قليلة في أرمينيا، ما شكل العامل الأهم الذي حال ويحول دون إقامة الدولة المنشودة، باعتبار أن شرط قيامها مرهون بتخلّي دول الجوار عن أجزاء من أراضيها السيادية.
لكن ذلك لا يلغي مسؤولية الزعامات الكردية، التي ساهمت بدورها في إضاعة فرص تاريخية، كان لها الأثر البالغ في الوصول الى هذا الواقع المزري. ولعل أولى هذه الفرص تمثلت بعجز الأكراد عن اقتناص ما قدمه لهم اتفاق سيفر لعام 1920، إذ نصّ ببنديه 62 - 64 على حق إقليم كردستان، إجراء استفتاء لتقرير مصير الإقليم الذي يضم ولاية الموصل حينها. إلا أنه لم يكن هناك اتفاق عام بين الأكراد على شكل الحدود، بسبب التفاوت بين مناطق وجود الأكراد وحدود المنطقة السياسية والإدارية، ما مكّن كمال أتاتورك من الالتفاف على مطالبهم، عبر تقديمه وعوداً كان المراد منها كسب الوقت لمصلحته، وهذا ما تحقّق له بمعاهدة لوزان في 1923، التي قادت إلى اعتراف دولي بتركيا الحالية، متجاهلةً حق مصير الكرد!.
الفرصة الثانية جاءت عقب حرب الخليج الثانية، حين أقامت الولايات المتحدة منطقة حظر طيران أدت إلى نشأة إقليم كردستان شمال العراق، إلا أن القوتين الأساسيتين في الإقليم، الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني، والحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، لم يكونا على قدر التحدي المأمول منهما، بتقديم نموذج ديموقراطي متقدّم في الحكم، يعمل على حصر الخلافات ضمن المؤسسات. فما حصل كان نموذجاً مأسوياً، تحولت فيه الخلافات الى صراعات مسلّحة ودامية، بين 1994 و1996، ذهب ضحيتها الآلاف. وما كان لهذا الصراع أن يتوقف، لولا اتفاق المصالحة والسلام، الذي تمّ في واشنطن عام 1998 بين البارزاني وطالباني.
وهذا يقودنا إلى الخلل المتأصل في المنهجية السياسية للقوى الكردية، والتي تتقدم فيها المصلحة الحزبية، واختزالاً الشخصية ببعدها السلطوي، على حساب القضية القومية الجامعة، الأمر الذي يستحضر معه الاستقواء بالخارج على حساب الشركاء في الداخل، ضمن مشروع يختصر الدولة بالسلطة!. يؤخذ على طالباني استقواؤه بإيران في حربه ضد البارزاني، ما فرض على الأخير الاستعانة بصدام حسين ولاحقاً بتركيا، الأمر الذي ترتبت عليه، سياسياً، معاداة البارزاني حزب العمال الكردستاني الذي تصنّفه أنقرة حزباً إرهابياً وأيديولوجياً. فحزب العمال باعتباره حزباً يسارياً ماركسياً، كان ضد الإقطاع السياسي وبالتالي ضد البارزاني، وهذا إضافة إلى خلاف آخر يتعلّق بشكل المقاومة، بين السلمي والكفاح المسلّح، وهنا تتعزز براغماتية البارزاني: فبينما يتبنى السلمية في تركيا، نراه في سورية منخرطاً في الخيار المسلّح.
ففي تشرين الأول (أكتوبر) 2011، عمد البارزاني إلى تمويل إنشاء "المجلس الوطني الكردي" ودعمه وصولاً إلى تدريب المقاتلين، وبينهم منشقون أكراد عن الجيش السوري داخل الإقليم. طبعاً ما كان الأمر ليتم لولا التنسيق مع أنقرة، وذلك في مسعى الى إضعاف أو احتواء وحدات حماية الشعب الكردية، التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي، بقيادة صالح مسلم، أي الجناح السوري لحزب العمال. إلا أن صمود وحدات الحماية في كوباني، أمام الابتزاز والتواطؤ التركي، ومن ثم انتصارها المدوّي على تنظيم "داعش" أواخر 2012، أخرجا الورقة الكردية من يد أنقرة. وطبعاً لم يكن هذا ليتم لولا أمرين، الأول إثبات قدرة الوحدات كقوة مؤثرة في الحرب على الإرهاب، والثاني البراغماتية التي انتهجها صالح مسلم، بتحالفه مع الروس وضمناً نظام دمشق، مستغلاً الخلاف الروسي - التركي وعداء أنقرة لدمشق حينها، وفي المقابل عزز تحالفه مع واشنطن لإدراكه أن "داعش" عدو لها.
بدورها، تريد الإدارة الأميركية الإمساك بالعصا من المنتصف، لثلاثة أسباب، الأول: وضع قدم لها في مناطق الإدارة الذاتية. الثاني: استغلال الأكراد كورقة ضغط تحدّ من جموح أردوغان السياسي فيما تدعم أنقرة بعمليتها درع الفرات، متعهدة بانسحاب قوات الحماية إلى شرق النهر. ثالثاً: لإدراكها أن تخلّيها عن القوات الكردية يعني تسليمها للروس، العدو التقليدي لواشنطن.
ما تشهده السياسات الداخلية والتدخلية في سورية، هو قمة البراغماتية من أطراف الحرب، حتى أن الرئيس الأسد قال في حديثه الى "صنداي تايمز" نهاية 2015، دفاعاً عن سياساته: "نحن لسنا متشددين... بل براغماتيون تماماً"، مضيفاً: "الأكراد يقاتلون الإرهابيين إلى جانب الجيش السوري وفي المناطق نفسها، وهم يتلقون الدعم في شكل رئيسي من الجيش السوري، ولدينا الوثائق التي تثبت ذلك"!. وهذا موقف طبيعي، فأمام عداوة أنقرة ودعمها قوات البارزاني، من البديهي أن تدعم دمشق حزب العمال الكردستاني وجناحه السوري.
لكن مع استدارة أردوغان، وغياب حلب عن خطوطه الحمراء، وعدم وصف النظام والأسد بالإرهاب، وحديث بن علي يلدريم عن عزم حكومته إعادة العلاقة مع دمشق، كان الغزل السوري جاهزاً، وذلك بقيام طائراته بقصف قوات الأسايش بالحسكة، وتسميتها بالجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني. وطبعاً سبق ذلك ما كتبته المستشارة بثينة شعبان، مطلع أيار (مايو) الماضي، حول وحدات الحماية: "إن الولايات المتحدة ترسل قواتها لدعم حركة إرهابية انفصالية، ضد منطق الجغرافيا والديموغرافيا، وضد التاريخ وضد مصلحة الشعب والدولة"!.
تبقى المشكلة، حين تتقارب أنقرة مع دمشق، على حساب الأكراد، ولا نرى مؤشراً الى تقارب كردي - كردي، إذ سيعتبر البارزاني الأمر فرصة سانحة للنيل من منافسه وخصمه. لذلك، ومع بعض التعديل في بيت عمر أبو ريشة الشهير، لا يلام الذئب في عدوانه على الغنم متى كان الراعي عدواً للغنم!.