الرئيسة \  مشاركات  \  الأنا المتضخمة والجهد الضائع

الأنا المتضخمة والجهد الضائع

07.12.2013
سلام الكواكبي



لقد خسر السوريون نسبياً، وربما مرحلياً، معركة التواصل وكسب الرأي العام لقضاياهم المشروعة والعادلة. وذلك يعود لأسباب عدة يتقاطع فيها السياسي مع العسكري مع الإنساني. في هذه العجالة، سأحاول التوقف أمام البعد الإنساني المرتبط بتكوين الشخصية السورية المنوط بها نظرياً أو عملياً حمل رسالة الشعب القابع في أتون المقتلة، بعيداً عن العمل الإنساني والإغاثي الذي يقوم به كثيرٌ من السوريون بكفاءة.
 
كثير من الندوات التوعوية أو التحشيدية تُعقد منذ انطلاقة الاحتجاجات في سوريا وتحوّلها إلى ثورة سلمية مروراً بانتقالها إلى العمل المسلح وصولاً إلى إرهاصات "مفاوضات" تحت رعايات دولية متناقضة المقصد. وغالباً ما تنظّم هذه النشاطات جهات مدنية أجنبية أو تسعى لعقدها جمعيات المغتربين السوريين في محاولة لإبراز الحقائق وتحسيس الرأي العام في البلد المُضيف إلى واقع المأساة السورية. ويسعى القائمون على هذا النوع من اللقاءات إلى شرح أبعاد معاناة الشعب السوري من خلال العروض السينمائية أو الشعرية أو الموسيقية أو المعارض التشكيلية أو الضوئية، إضافة إلى المحاضرات التفاعلية التي تسعى للإجابة على أجوبة جمهور متعطّش للمعلومات أو باحث عن التموقع ويكتنفه تردد عميق قائم على تناقض مضامين الرسائل الإعلامية التي يتلقفها. ويحاول المتداخلون، ولا ينجحون دائماً، تبسيط شروحهم أو عروضهم بحيث تصل إلى أوسع شريحة بعيداً عن التركيبات المعقدة أو الاستدعاءات التاريخية المُربكة. 
 
في المقابل، تعتمد الندوات العلمية التي تنظمها جامعات أو مراكز بحثية غالباً، وأحياناً تتصدى لتنظيمها أيضاً بعض المؤسسات الدولية الحكومية وغير الحكومية، على دعوة باحثين سوريين وأجانب للنقاش المعمّق حول الأبعاد الوطنية والإقليمية والدولية للمأساة السورية في محاولة لتعميق التحليل في مجمل أبعاده الجيوستراتيجية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى البيئية. وكذلك، تسعى بعض اللقاءات إلى اختيار موضوع محدد للتوسّع في بحثه وفي مناقشته. وكما هو البحث في العلوم الاجتماعية، تتطلب هذه اللقاءات وجود تصوّرات تربط الوضع المحلي بأبعاده غير السردية وتحاول اسقاط بعض النظريات الأكاديمية على وقائع جارية دونما الوقوع في الجهد المعاكس والذي طالما ما اكتنف اعمال بعض الأكاديميين الغربيين والذي يحاول أن يؤقلم الوقاع مع نظريات قائمة. 
 
تسعى هذه الأنشطة لتعميق النقاش حول المسألة السورية بعيداً عن العواطف الجياشة أو المواقف السياسوية. وتميل في منهجيتها إلى استخلاص توصيات أو وضع تصوّرات يستفيد منها الحقل الأكاديمي كما صانعو القرار السياسي. السوريون موجودون وبكثرة في هذه الأُطر، ومنهم أصحاب الخبرة العملية وآخرون أصحاب أدوات المعرفة والتوثيق.
 
وعلى الرغم من أهمية الندوات التوعوية والتحشيدية، إلا أنها غالباً ما تتوجه إلى جمهور عريض مكتسب للقضية السورية في مجمله مع وجود بعض الأصوات المتكررة المرتبطة بمخاوف الأقليات أو بالنظرة الإسلاموفوبية أو باليساروية البافلوفية. ولقد أصبح التعامل مع هذه النماذج جزءاً لا يتجزأ من نكهة المشاركة في مثل هذه اللقاءات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، وفي ندوة أخيرة نظمتها  حمعية إلى سوريا في معهد العالم العربي في باريس، قال أحد البافلوفيين بأن ما يجري في سوريا هو نتيجة لمخططات تعود إلى بداية القرن العشرين، وشدّد على أنه قرأ منهجيتها في مذكرات تيودور هرتزل. فما كان مني إلا أن شدّدت على أن الأمر أقدم بكثير، وبأن الحقيقة يجب أن يتم الرجوع إليها في مذكرات حمورابي. فصمت المتحدّث عن الكلام الالزهايمري. كما فمن أصحاب نظرية المؤامرة ترى العجب العجاب، فأحدهم، وعندما لم يجد ما يواجه به المداخلة عن الشأن السوري سعى في مناكبها بحثاً عن التشكيك في مرجعيات فكرية تعود إلى عصر النهضة وواجهت الاستبداد في كتاباتها، فيسأل عن تمويل بعضهم خارج بلدانهم وعن مصدر تمويل مثل هذه الهجرات، فلا تجد ضيراً في الابتسام والتأكيد على أن مصدر التمويل حينذاك كان الشيخ حمد. فيشعر السائل بالخجل أو لا يشعر، ولكنه على الأقل يصمت.
 
كثيرة تلك الحكايات ولكنها أصبحت اعتيادية وليست ذات أهمية إلا للطرفة على الرغم من فداحة الأحداث وضعف القدرة على الابتسام. ولكن الألم الحقيقي يقع في الندوات العلمية والبحثية عندما يشارك فيها باحثون من كل المشارب وينصت إليها باهتمام مراقبون دبلوماسيون أو إعلاميون.
 
إن كانت المستويات العلمية متقاربة ولا تمييز في الشهادات والمعارف، إلا أن الملاحظ والمستهجن هو اختلاف المستويات الأدائية. فالمشارك الأجنبي، حتى ولو كان من الجهات الداعمة للنظام السوري أو المتفهمة لسياساته ولأداءه، يعتمد الحديث الهادئ والمنهجي لشرح وجهة نظرة. ويستند أيضا، خصوصاً إن كان إيرانياً أو روسياً، إلى سينيكية تكاد تكون ملحمية في مقاربته للأمور بعيداً عن أي انفعال. والأهم من ذلك كله، فهو يُبحر بالمستمع في محيطات العلاقات الدولية والمصالح الاستراتيجية والتحليلات التاريخية، مما يظهر أولاً، ثراءاً معرفياً، وثانياً، رغبة واضحة في تمييع المسألة المطروحة في أطر أوسع وتعقيدات وتشابكات لا بداية لها ولا نهاية. ولا يشابه هذا الصنف من المتداخلين في هدوءه وسينيكيته إلا ما عهدناه من المحللين الإسرائيليين على وسائل الإعلام عند تطرقهم إلى القضية الفلسطينية. وفي النهاية، لا يلجئ هؤلاء إلى شخصنة الحوار البتة، ويتعاملون بكل احترام، وأكاد أقول مودة، مع من يخالفهم الرأي مهما حمل هذا الخلاف من كلمات "لاذعة" بحق سياسات دولهم.
 
أما بعض السوريين، خصوصاً من الباحثين "المعارضين"، فينسى أن يتحدث عن الوطن القابع تحت التدمير الممنهج وعن مئات آلاف القتلى والجرحى وملايين المهجّرين القسريين داخل الحدود واللاجئين هرباً إلى دول الجوار. ويبتعد عن منهجية العرض العلمي المتجرّد ليغرق في الحديث الذاتي وفي التحريض على الآخر المعارض غير المتفق معه أو غير المسبّح بفطنته التي تتجاوز حدود البشر. ولا يعدل عن المضي قدماً في اسهالاته الكلامية رغم تبرّم الحضور من أناه الذاتية المتضخمة. 
 
ويعتقد المنصت إلى أن هذا الكلام "الفارغ" كله لن يتجاوز مرحلة وزمن المقدمة والتمهيد، وينتظر أطياب القلوب دهراً عودة من المتحدث إلى صلب الموضوع الذي تمت دعوته بناء عليه. فالمتحدث يسترسل في ذكر محامده ويعود بالمستمع إلى ما سبق وكتبه (وغالبا، لم يقرأه أحد)، وإلى ما "أفتى" به في هذا اللقاء أو ذاك الاجتماع أو ذينك الندوة. ويجري تسخير الحديث على الذات "الأنوية"، التي تنبأت بكل ما وصلنا إليه وبكل ما يقع اليوم وسيقع حتماً في الغد القريب. ويستمر الحديث المسهب غير الملتزم بأدبيات الحوار أو الاستماع أو الإصغاء أو المشاركة، بل ويزيد ما تيسّر من الشتم والتهكم على من يخالفه الموقف في المعارضة. 
 
وبالتأكيد، سيعرّج على كل الهياكل التي لم يدعى إليها ليفنّد أضرارها وخطاياها. ويعرّج على المشاريع البحثية التي لم يكن على رأسها ليوضّح بأنها صنعت في مخابر أجنبية ومن مخبريين أجانب. وعلى الرغم من المغالطات الفظيعة فيما يطرح، لا يجد أنه من الضروري أن يقدم رؤية أو تصوّر أو سيناريو أو تحليل. ويدخل في حالة من الانتعاظ الذهني راسماً إبتسامة المنتصر وهو المستمع الوحيد لنفسه. ويعرّج على بعض الكلمات النابية ليعطّر بها ردّه على بعض الوقائع المسردة من قبل باحث أجنبي يحاول أن يعيد حصان الحوار الهائج إلى عربة الموضوع السوري. ويتوّج أداءه الأخلاقي بشتم مشارك آخر اختلف معه في طريقة إيراده للمغالطات الفجة والوقحة، ليتهمه بانعدام التهذيب لمقاطعة حديثه المصطفى، وهو الذي لا يقاطع كل احاديث الآخرين بالكلمات فحسب، بل لا ينفك عن التلويح بالأيدي والتبرّم بالشفاه والغمز واللمز بالعيون، وربما بالأرجل الغائبة تحت الطاولة أيضاً.
 
ويغيب الوطن، تغيب سوريا والسوريون عن القاعة. يغيب الهم والوجع المشتركين والمفروض ترسيخ الحديث عنهما بمعزلٍ عن كل الخلافات الشخصية المريضة والعقد الذاتية المتسرطنة. تغيب سوريا إلا عن مداخلات "الأجانب" الذين هم سوريون إنسانياً أكثر من بعض من يحمل هوية سورية. ويُشفق الملاحظ على أن مثل هذه النماذج تدّعي وصلاٍ بالقضية. ويخرج الحاضرون من مختلف المشارب وهم يتحسّرون على هذا البلد العظيم الذي فيه أشخاص يحملون عقداً نفسية تحتاج إلى ثورة بذاتها. 
 
إن هذه الظاهرة تعتري، بنسب متفاوتة، عدداً من "رجالاتنا" علميين كانوا أم سياسيين. وهي مرتبطة بواقع معاش طوال عقود حيث لا يسمع أحدنا للآخر، وعندما يتاح لأحدنا الكلام، فيصادره ويمنع تنفس مستمعيه، طالباً ومنتظراً ومتوقعاً السجود في آخر الوصلة. ولكن الظاهرة تُبنى أيضاً من خلال تراكم الخيبات وتكرار الفشل في الحصول على مقعدٍ تحت الشمس، أية شمس، ولو حتى كانت من المصابيح. وكثيراً ما يحمل الفاشلون أو المتقاعسون أو المُحيّدون أو المنبوذون أو الملفوظون، سبب كل ذلك إلى الآخر حيث تطغى عقدة الإعجاب النرجسية بالشكل وبالمضمون. ولا أدّل على هذا المرض إلا التطرّق، من حيث لا داعي له البتة في إطار علمي أو سياسي، إلى الحياة الخاصة سرداً لمغامرات صبيانية تملئ وجوه المستمعين الجادين احمراراً فيشعرون بالخجل عوضاً عن المتشدّق الذي ابتعد عنه الشعور أميال. 
 
والموقع الجغرافي لا يُغيّر في قومٍ ما لم يُغيّروا في انفسهم. فلا معنى أن يكون الشخص متعلماً ومتبحّراً في الشهادات وخائضاً غمار بحار الغربة والمغترب ومقيماً في دول تحترم أنظمتها وتقاليدها الآخر مهما كان هذا الآخر. المكان لا يحدد الإنسان ولا يساعده على التخلّص من عقده النفسية، إلا في حالة لجوءه للعلاج المتطور في بلاد الغربة، خصوصاً في الشق النفسي. 
يبقى القول، بأن الندوات ما زالت ضرورية، وبأن المشاركة العلمية محمودة على الرغم من مخاطر الوقوع في براثن المغمورين علمياً أو أخلاقياً. والهدف الأول والأخير هو الحديث عن البلد الضحية بعيداً عن تصفية الحسابات وإدراج لوائح الاتهام الشبيهة بتلك التي تجترعها الأجهزة الأمنية للانتقاص من رأي يخالفنا أو لا ننتمي إلى المدرسة الفكرية لقائله. 
 
عاتبني في وقت قريب صديق عزيز على الجرعات الأخلاقوية في كتاباتي وعن ميلي أحياناً، وبنظره، إلى الوعظ السياسي. فاسترشدت بملاحظته وحاولت الابتعاد عن هذه "الموبقات". إلا أنني أجدني أعود إليها ولو لمرة لأعتبر بأن الأخلاق أهم من العلم، وبأن التهذيب ليس ضرورياً فقط للشكل وإنما للسان، وبأن من يحوّل منبر علمي أو شعبي مرسّخ لوطن عظيم كسوريا إلى ساحة تصفية حسابات واستعراض عضلات بعيدٌ كل البعد عن الأخلاق وعن الإنسان.