الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الإبراهيمي: أجابني الأسد "لا يمكن أحداً أن يحرمني حقي في الترشح"

الإبراهيمي: أجابني الأسد "لا يمكن أحداً أن يحرمني حقي في الترشح"

02.07.2014
غسان شربل


الإبراهيمي: أجابني الأسد "لا يمكن أحداً أن يحرمني حقي في الترشح" بيان جنيف سطحي وتوافقي ومجلس الأمن فشل في تحويله قراراً ...
الحياة – ٢٥ يونيو/ حزيران ٢٠١٤
باريس - غسان شربل
سألت الأخضر الإبراهيمي: "هل أزعجك إذا سألتك عن فشلك في سورية؟". أجاب: "لا أبداً، فأنا قد فشلت. الموضوع الشخصي ليس مهماً. الأخطر هو أن المجتمع الدولي فشل في إخراج سورية من محنتها وأن السوريين أيضاً فشلوا في التفاهم على صيغة توقف اندفاع بلادهم نحو الصوملة بكل ما تعنيه".
وحين استولى تنظيم "داعش" على الموصل تذكرت تحذيرات الإبراهيمي المتكررة من أن استمرار النزاع في سورية قد يجعل منها مصدر خطر على جيرانها وعلى دول أبعد منها. أيقظت مشاهد الحرب السورية ومجرياتها جمر النزاعات العراقية، وها هو العالم العربي يراقب خائفاً تمزق خريطتين على وقع سقوط التعايش والحدود.
لا النظام السوري أحب المبعوث الدولي والعربي، ولا المعارضة أحبته. كان النظام يريد من الإبراهيمي اعتبار ما يجري في سورية مؤامرة خارجية فقط، ولم يكن معنياً بجنيف ولا بمرحلة انتقالية، وكانت المعارضة تريد من الإبراهيمي أن يحقق ما عجزت عن فرضه ميدانياً، وهو إقناع الرئيس بشار الأسد بالرحيل أو التنازل عن سلطاته. لهذا تعرض الإبراهيمي لحملات من أكثر من اتجاه.
حاول الإبراهيمي نسج مظلة دولية فوق جهوده، لكنه سرعان ما تأكد أن بيان "جنيف1" سطحي، وأن المسافة بين التفكيرين الأميركي والروسي لا يمكن ردمها. وحاول التفكير في مظلة إقليمية فاكتشف عمق الشرخ القائم. لم يتمكن من إنهاء النزاع ولا حتى من تخفيف الآلام، فقد قتل خلال مهمته 138 ألف شخص ودمرت مدن وقرى وشرد ملايين السوريين داخل بلادهم وخارجها. ربما لهذا السبب حاول الإبراهيمي الاستقالة قبل سنة لكن ضغوطاً مورست عليه فبقي ولكن من دون آمال فعلية.
سألت الإبراهيمي عن مهمته والصعوبات واللقاءات التي عقدها مع معنيين بالملف أو مؤثرين فيه. عقدنا ثلاث جلسات، ما أتاح المجال أيضاً للسؤال عن تجربته في العراق ومسائل أخرى، وهنا نص الحلقة الأولى:
> لماذا قبلت في سورية مهمة بدأت في وصفها بأنها شبه مستحيلة؟
- استغرب موقف من يطرح مثل هذا السؤال. حين طرحت المهمة على كوفي انان سألني عن رأيي فاجبته بما معناه "اغمض عينيك وقل نعم". الأمم المتحدة لا يمكن أن تستقيل من دورها لأن الأوضاع صعبة ومعقدة أو لأن احتمالات الفشل موجودة أو كبيرة أو غالبة. حين أقدم مثل هذه النصيحة لأنان فمن البديهي أن اتصرف في ضوئها حين يعرض الأمر علي.
هل يحق لشخص مثلي أن يرفض مهمة اذا كان هناك أمل ولو شديد التواضع بمساعدة الشعب السوري على حل أزمته أو تخفيف آلامه؟ كنت أعرف أن المهمة بالغة الصعوبة وأن النجاح غير مضمون على الاطلاق لكنني تعاطيت مع المهمة كواجب. الأمم المتحدة لا يمكن ولا يجوز أن تدير ظهرها لسورية. الأمر نفسه وأكثر بالنسبة الى الجامعة العربية. حين تكون الطريق سهلة ومعبدة يمكن العثور على كثيرين. حين تكون شاقة يجب التعاطي مع المهمة كواجب وبعيداً من هواجس الفشل الشخصي أو الحملات الإعلامية والافتراءات. لم يكن أمامي أنا المكلف من الأمم المتحدة، وأنا العربي، غير أن أحاول حتى ولو كان شعوري أن الأمر ليس شبه مستحيل بل هو مستحيل.
> كنت تعتقد إذاً أن المهمة مستحيلة قبل بدئها، لماذا؟
- مستحيلة لأنني كنت على صلة بكوفي أنان طوال مدة مهمته. التقينا وفكرنا معاً وكنا على اتصال دائم. كنت مطلعاً على ما يجري. كان واضحاً أن النظام يعتبر ما يحدث مجرد مؤامرة خارجية من واجبه أن يحاربها بكل الوسائل ويفشلها. وكان واضحاً أن المعارضة ومعها من يدعمها في المنطقة والعالم، مصممة على أن لا حل إلا بإسقاط النظام. كان المعارضون يقولون: لا يمكن أن نتكلم مع أحد من النظام إلا بعد سقوطه. وكنت أجبتهم: لماذا تتكلمون معهم إذا كان النظام قد سقط؟
> لماذا وافقت روسيا على بيان جنيف؟ هل كانت تخشى سقوط النظام أم أرادت إعطاءه فرصة لالتقاط الأنفاس؟
- حدث ذلك خلال مهمة كوفي أنان. الله أعلم. الأكيد أن النص الذي صدر تمت مناقشته بسرعة كبيرة وانتهت بالاتفاق عليه وكان إنجازاً ضخماً. لكنه كان نصاً توافقياً بصورة أساسية بين الأميركيين والروس، أي بين هيلاري كلينتون وسيرغي لافروف.
 
أول خطوة في تطبيق هذا الاتفاق كانت أن يتحول قراراً من مجلس الأمن. هنا ظهر الشيطان في التفاصيل. اتضح وجود خلاف. بالنسبة إلى الأميركيين كان مفروغاً منه أن لا دور للرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية. الروس من جانبهم قالوا: لم نتكلم عن ذلك.
> هل صحيح أن هذا الأمر لم يناقش؟
- أنا لم أكن موجوداً. أعود وأقول إن النص كان توافقياً، وهذا النوع من النصوص يحتوي غالباً على قدر من الغموض. في الصياغة يمكن تبرير بعض الغموض أو عدم المعارضة لتسهيل الاتفاق. في التنفيذ عليك أن تظهر موقفك بوضوح لأن عليك أن ترفض أو توافق.
> لو طلبت منك أن تقول للقارئ العربي ما هو جوهر "جنيف"؟
- "جنيف 1" صدر في 30 حزيران (يونيو) 2012، كانت هناك محاولة لخلق إطار للسوريين لكي يتفقوا على حل لمشكلتهم. عبارات "بقيادة سورية" و "بموافقة السوريين" و "بمشاركة السوريين" تكررت في البيان، أي أن الإطار وجد ليتوصل السوريون إلى حل. في موازاة ذلك كان هناك فرضية لدى الأميركيين مفادها انه لا يمكن بعد الذي حصل أن يقود الأسد المرحلة الانتقالية أو أن يكون له دور فيها. بالنسبة إلى الروس كانوا يقولون إن هذا الموضوع (موضوع الأسد) يتم بحثه في حينه، أي أن تبدأ المرحلة الانتقالية بجلوس النظام والمعارضة معاً. تمسك الروس بهذا الكلام وأبلغوه أيضاً إلى وفد المعارضة السورية الذي زار موسكو قبل انعقاد "جنيف 2". قال الروس للمعارضة السورية: "نحن نوصلكم إلى غرفة وتجلسون مع النظام وتتفقون على ما تريدون".
> أقر البيان في مجلس الأمن لكن بصورة عرضية؟
- نعم. لم يقر في مجلس الأمن إلا عرضاً وبمناسبة صدور القرار 2118 الخاص بالأسلحة الكيماوية في سورية. أعتقد أنه في الفقرة 16 وبصورة عرضية أشير إلى تأييد المجلس بيان "جنيف 1". وهذا حدث في 27 أيلول (سبتمبر) 2013، أي بعد 16 شهراً تقريباً من ولادة بيان "جنيف 1"، وهذا يعطيك فكرة عن الشياطين التي تكمن في التفاصيل.
> إذاً نستطيع القول إنه حين ذهب بيان "جنيف1" إلى مجلس الأمن ظهر اختلاف الحسابات بين واشنطن وموسكو وتعذر صدوره في قرار ليشار إليه لاحقاً وعرضاً؟
- هذا صحيح تماماً ويفسر جانباً أساسياً من الصعوبات. اختلاف الحسابات بين أميركا وروسيا. كان كوفي أنان يأمل في قرار من مجلس الأمن يعبر عن تأييد موحد لبيان "جنيف1" حين تعذر ذلك اعتبر أن مهمته انتهت عملياً. كان يعتبر صدور القرار أمرا مفروغاً منه وحين لم يحصل ذلك خلال هذا النقاش اكتشف الأميركيون والروس أن اتفاقهم كان سطحياً.
> هل نستطيع أن نفهم منك أن اتفاق "جنيف1" بين الأميركيين والروس كان توافقيا وسطحياً وأن الغموض شاب المرحلة الانتقالية؟
- نعم، كان توافقياً وسطحياً، ما جعل الدخول في المرحلة الانتقالية غير ممكن، لأنه لم يحصل اتفاق على آلية هذه المرحلة. بيان "جنيف1" كان ينص على وقف إطلاق النار وتشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة.
> هل كان تعبير "بصلاحيات كاملة" هو الصيغة التوافقية؟
- نعم. الأميركيون يقولون إن ذلك معناه أن الصلاحيات التنفيذية كلها ستكون عند هذه الهيئة، وبالتالي لا يبقى للرئيس دور في هذه المرحلة. وذكر أيضاً أن الصلاحيات تشمل الإشراف على الجيش وقوات الأمن والاستخبارات. الروس يقولون: نحن نوافق على هذا الكلام لكن ليست هناك إشارة إلى أن الرئيس يجب أن يمشي. الرئيس موجود إلى أن تنتهي المرحلة الانتقالية ويتم الاتفاق على ترتيب بين السوريين أنفسهم، تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى الهيئة الانتقالية التي يجب أن تشكل بالتوافق.
 
> بدأت مهمتك وسط انكشاف التباين بين الأميركيين والروس؟
 
- نعم. عينت في آخر آب (أغسطس) 2012 . في الشهر التالي ذهبت إلى مجلس الأمن.
 
> بالمناسبة، من رشحك وكان وراء تعيينك؟
 
- هذا سؤال جيد. اتصل بي الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وهو الذي عرض اسمي على الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، وليس العكس.
 
> هل كان هناك من نافسك؟
 
- لم أسمع. ربما لأن عدد الأغبياء من أمثالي قلة.
 
> وما قصة رفض النظام السوري لناصر القدوة؟
 
- عينت واستمر ناصر القدوة في عمله، لأنه كان يعمل مساعداً لأنان في مهمته. كان الرفض السوري للقدوة منذ أيام أنان. اعترضت الحكومة السورية عليه لأنه معين من الجامعة العربية. وقالوا إنهم سبقوا وتعاملوا معه ولم يشعروا بالارتياح. وهو لم يزر سورية إطلاقاً.
 
> هل كان بلا دور؟
- لا، كانت لديه علاقات طيبة مع المعارضة وعمل في هذا الإطار.
> ذهبت إلى الأمم المتحدة؟
- نعم، ولاحظت وجود شخصين لديهما اهتمام واضح بالوضع السوري ولديهما قلق من مساره وتداعياته، وهما هيلاري كلينتون وسيرغي لافروف. لهذا قررت منذ البداية أن العمل يجب أن يتم معهما، لأهمية دور بلديهما، ولأن الخلافات بين أهل المنطقة شديدة للغاية في ما يتعلق بسورية. الشرخ في الداخل السوري كان كبيراً أيضاً. النظام لا يرى في الازمة سوى أنها مؤامرة خارجية من واجبه التصدي لها بكل الوسائل. المعارضة ترى أن النظام عذب وقتل ودمر، وأن الحل يبدأ برحيله. أمضيت نحو ساعة مع كلينتون ونحو أربعين دقيقة مع لافروف.
> ماذا كانت هيلاري تريد؟
- كانت تريد حلاً ينهي النزاع، مع تأكيدها أن بشار الأسد لا يمكن أن يستمر أو أن يكون له دور، وأن النظام لا يمكن أن يبقى كما كان.
> كانت مع إسقاط النظام أم مع إزاحة رأس النظام؟
- لا أريد التحدث نيابة عنها. كانت مصرة على الأقل على أن لا دور للأسد. بالنسبة إلي كان مهماً أن أشعر بأنها مهتمة بسورية وبالعثور على حل، وأنها تبحث عن مخرج من ضمن الخطوط الحمر التي رسمت للموقف الأميركي. وبين هذه الخطوط أن لا دور للأسد.
> ماذا استنتجت من لقائك بلافروف؟
- الملاحظة الأولى أنه يعرف سورية جيداً. يعرف الناس ويتابع ويقرأ بشكل كبير جداً. يشير إلى المعنيين بأسمائهم ويعرف مواقعهم، حسن عبد العظيم وأحمد الجربا وآخرين. الملاحظة الثانية أنه مهتم اهتماماً شديداً بالموضوع. طبعا هناك اختلاف في القراءة بين كلينتون ولافروف. شعرت أن من واجبي أن أحاول أن أعيد الفريقين إلى بيان "جنيف1" وتقريب وجهات النظر. لم اعتبر الأمر سهلاً، لكن لم يكن هناك أي خيار آخر، وهو محاولة توفير مظلة أميركية- روسية لجهود الحل.
كان لافروف وهيلاري يلتقيان في مؤتمرات ومناسبات ويتطرقان عرضاً إلى الموضوع السوري. حاولت جمعهما في لقاء مخصص بسورية ولم نتمكن من ذلك إلا في 6 كانون الأول (ديسمبر) 2012 في إيرلندة.
> كيف كان اللقاء؟
- اجتمعنا وكان اللقاء جيداً. هناك اتخذ قرار بأن يلتقي مساعدا كل منهما في جنيف لنجتمع معهما. وهكذا جاء وليام بيرنز وهو الرقم 2 في وزارة الخارجية الأميركية، وجاء من الجانب الروسي (ميخائيل) بوغدانوف و(غينادي) غاتيلوف وهما نائبا وزير الخارجية.
> هل ناقش لافروف وكلينتون في إيرلندا مصير الأسد؟
- لا. لم نتقدم كثيراً في لقاءات الصف الثاني في جنيف. والسبب أننا كلما حاولنا أن نخطو خطوة كانت تطل مسألة الهيئة الانتقالية والصلاحيات الكاملة، فيظهر الخلاف بين الفريقين. في 6 آذار (مارس) 2013 اتخذ وزراء الخارجية العرب قراراً بإعطاء مقعد سورية في الجامعة العربية إلى المعارضة وإلى حين حل الأزمة وإجراء انتخابات. قلت لهم إن هذا يعني أنكم حسمتم الموضوع ودوري انتهى. أنا أعتقد أن هذا القرار زاد التعقيدات ولم يكن ضرورياً، وأتساءل عن مدى توافقه مع ميثاق الجامعة العربية.
وجدت الأفق مسدوداً. في نيسان (أبريل) ذهبت إلى الأمين العام للأمم المتحدة وطلبت إعفائي من مهمتي، أي بعد ثمانية أشهر من بدئها. أصر الأمين العام، ومعه جون كيري ولافروف وآخرون، على أن أستمر. قال لي كيري: هل يمكن أن تنتظر قليلاً، فأنا ذاهب إلى موسكو وسأحاول الحصول على شيء منهم. أنا كنت متأكداً انه لن يحصل على شيء. وافقت. في 7 أيار عقد الاجتماع التاريخي بينه وبين لافروف. اتفقا على أن الأزمة السورية خطرة جداً وليس لها حل عسكري وتحتاج بالتالي إلى حل سياسي، وسيعملان معاً ومع آخرين للوصول إلى هذا الحل. هذا كان اتفاقاً جديداً. وقلت يومها هذا أول خبر طيب بالنسبة إلى سورية منذ وقت طويل.
هنا قالوا فلنبحث كيف نترجم هذا البيان الأميركي- الروسي. تابعنا الاجتماعات، أحياناً كيري ولافروف وأحياناً على مستوى مساعديهم. الحقيقة أن كيري كان مستعجلاً ويريد انعقاد مؤتمر "جنيف 2" في أقرب وقت. الروس كانوا يشيرون إلى الصعوبات.
هناك نقطة مهمة في قراءة ما حدث. في 2012 كانت أسهم المعارضة عالية جداً. اعتقدت المعارضة أنها ستحسم المعركة إلى درجة أن إحدى المحطات وهي "الجزيرة" تحدثت عن وصول طائرة من فنزويلا إلى مطار دمشق لنقل الأسد ومن يرغب في المغادرة معه. معنويات المعارضة كانت عالية واعتبرت أنها في الطريق إلى انتصار كامل. في 2013، وربما بعد آذار، ارتفعت معنويات النظام واعتبر نفسه منتصراً بسبب ما حققه ميدانياً. هنا اعتبرت المعارضة والأطراف المؤيدة لها أن انعقاد "جنيف 2" يجب أن يتأخر لتتمكن المعارضة من تعديل الوضع ميدانياً.
هنا أفتح مزدوجين لهما علاقة بما سمي "الربيع العربي"، والذي أكاد أقول إن معظم الناس أخطأ بتقديره، هذا إذا لم يكن كل الناس.
> كيف كانت لقاءاتك مع الأسد؟
- اللقاء الأول كان جيداً.
>هل رحب بمهمتك؟
- جداً (يضحك). هو والوزير وليد المعلم ونائبه فيصل المقداد، كانوا يقولون لي نحن نريد مساعدتك على إنجاح مهمتك (يضحك). وكنت أجيب لست أنا من يجب أن ينجح، القصة أن تحلوا مشكلتكم. يخيل إلي أن الأسد لم يشك يوماً واحداً في أنه سينتصر في النهاية، ولم يفكر يوماً واحداً في التنازل، خصوصاً للمعارضين المقيمين في الخارج الذين تؤيدهم دول غربية ودول في المنطقة. لا أعتقد أنه فكر ولو ليوم واحد أن يتنازل لهم عن شيء.
> تقصد أنه لم يفكر ولو مرة واحدة في الرحيل؟
- شعوري أنه لم يفكر في ذلك على الإطلاق. هل كان هذا موقفه الشخصي أم تحت تأثير المحيطين به لا أعرف الجواب. في يوم من الأيام قلت له: كفاية عليك، بدلاً من أن تكون الملك لماذا لا تكون صانع الملك؟ رددت له العبارة مرتين، في الأولى قال: لم لا، فأنا لن أبقى إلى الأبد. المرة الثانية قال: أنا مواطن سوري وهم يتحدثون عن الديموقراطية. إذا أحببت أن ارشح نفسي واقترع الناس لي أبقى، وإذا لم ينتخبوني أمشي. أنا مواطن سوري ولا يمكن أحداً أن يحرمني حقي في ترشيح نفسي.
> في أي لقاء بحثت معه مسألة المرحلة الانتقالية؟
- في كل اللقاءات.
> ماذا اقترحت عليه؟
- أن يكون صانع الملك. هذا أهم اقتراح. طبعاً أنا كنت أتحدث باحترام شديد. قلت له مرة إن بلادنا تحتاج إلى التغيير، والناس لدينا يشعرون بأننا خذلناهم وخيبنا آمالهم. لم نقدم لهم ما كانوا يتوقعون منا، ولهذا ينتظرون التغيير. يريدون أن تكون لهم كلمة في إدارة شؤونهم. رد بما معناه أنه موافق على الكلام في عموميته. في تشرين الثاني (نوفمبر) تكلمنا عن "جنيف2" فقال نحن جاهزون وسنذهب، لكن إذا لم يتخذ اللقاء قراراً صريحاً وواضحاً في موضوع الإرهاب فلا داعي له ولا فائدة. وفي موضوع الإرهاب كان يقصد أن تقفل الدول المجاورة لسورية حدودها معها وتمنع تدفق الرجال والسلاح.
> كم كانت تدوم الجلسة؟
- مش كتير. المرة الأولى أقل من ساعة. المرة الثانية أكثر قليلاً، أي حوالى الساعة.
> فلنتحدث عن أخطاء التقدير في "الربيع العربي"؟
- اعتبر الناس أن زين العابدين بن علي رجل قوي ولديه مؤسسات أمنية صارمة تعتقل من يجرؤ على التكلم في بيته ضد الرئيس. واعتبروا أن المسألة ليست بهذه الخطورة وأنها قصة شاب أحرق نفسه وحصلت بعض التظاهرات. وإذا بالرجل يسقط خلال أقل من شهر. بوعزيزي أحرق نفسه في 17 كانون الأول (ديسمبر) وبن علي فر في 14 كانون الثاني (يناير).
جاءت مصر. تحدثوا عن دولة راسخة المؤسسات والحجم الهائل للمؤسسة الأمنية. هيلاري كلينتون نفسها قالت: "من قال إن حسني مبارك ديكتاتور؟ إنه ليس كذلك".
> اأفهم أن الأميركيين لم يكونوا مع إزاحة مبارك؟
- لا، لم يكونوا. مبعوثهم (السفير السابق) فرانك ويزنر قال إن مبارك أبلغه أن ترشيح نجله للرئاسة غير وارد، وأنه شخصياً سيكمل ولايته ولن يترشح لولاية جديدة. لكن مبارك سقط في 11 شباط (فبراير) وخلال أقل من شهر. معمر القذافي قالوا هذا رجل ليس لديه دولة وجيش بالمعنى المتعارف عليه، وإن مجرد ضربة من الفرنسيين والبريطانيين ستقتلعه، وإذ به يستمر نحو سبعة اشهر وكلفهم مبالغ كبيرة.
حين جاءت سورية قالوا هذه المرة لن نخطئ وبشار سيسقط قريباً. حين جاء كوفي أنان وتحدث عن ضرورة التفاوض انزعجت المعارضة ومن يؤيدها وتساءلوا ماذا يريد هذا الرجل؟ وحين جئت أنا وتحدثت عن حل سياسي قالوا هذا أسوأ من سلفه. ثمة من راح يتحدث عن محاولة لحماية بشار أو إطالة عمره في السلطة، وهذا لم يكن وارداً على الإطلاق أو مطروحاً، فقد كان واضحاً لدينا أن سورية تحتاج بعد الذي حصل إلى تغيير. اتهموني وقاطعتني المعارضة السورية الممثلة آنذاك بـ "المجلس الوطني"، وشن السيد جورج صبرا حملة على الإبراهيمي. حصل ظلم شديد جداً. أنا كنت مكلفاً بمهمة تستند إلى بيان "جنيف1" ولم أكن العقبة أمام أي حسم ميداني من هذه الجهة أو تلك. تعاملت "الأقلام المأجورة" في المنطقة العربية معي كعدو، وربما ظهرت مقالات في تركيا واعتبرت أن الحديث عن حل سياسي هو تأييد للنظام. أنا لست ضد أن ينتقدني كاتب أو صحافي لكن شرط أن يتحرى الحقائق والوقائع لا أن ينسب إلي ما لا أفكر فيه. النظام من جهته لم يكن سعيداً بوجودي، لأنه يعرف جوهر مهمتي وقد هاجمتني أقلامه. وهكذا تلقيت السهام من النظام ومعارضيه والحمد لله. الحقيقة أنني كنت أتوقع أن يتعامل بعض الإعلام العربي في هذه النقطة بالذات بمهنية أكبر وأن يدرك حجم التعقيدات والتوازنات وأن لا يتم تغليب التمنيات على الوقائع لدى الحديث عما يجري.
أنا لا ألوم المعارضة على مشاعرها بالانتصار في 2012. كانت تسمع من دول كبرى ومهمة أن النزاع حسم وأن خروج بشار الأسد أكيد. هكذا نظرت المعارضة إلى الدعوة إلى التفاوض وكأنها محاولة لمساعدة المهزوم. في 2013، وبعد تحقيقه تقدماً ميدانياً، نظر النظام إلى فكرة التفاوض على أنها محاولة لمساعدة الطرف المهزوم. تصور أن معارضاً مقيماً في الخارج منذ سنوات ويسمع أجهزة استخبارات أساسية تقول إن نظام الأسد يقترب من السقوط. هل تتوقع أن يتعاطى إيجاباً مع دعوة إلى التفاوض حول مستقبل النظام في سورية؟
> أجريت محادثات مع عدد من قادة الدول في المنطقة؟
- نعم . في تشرين الأول (أكتوبر) 2012 استقبلني الملك عبد الله بن عبد العزيز. بأمانة أقول إن الحديث معه كان في منتهى الجودة. رجل مطلع وواقعي جداً. أمضينا ساعة كاملة. كان مدركا أن المعارضة منقسمة وان التغلب على تلك المشكلة صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً. قلت له إن الحل العسكري يبدو مستحيلاً، وإن الجهد يجب أن يتركز على حل سياسي، فشجعني جداً على السير في هذا الطريق. وجدت موقفه عقلانياً.
> في صيف 2013 كانت هناك نقطة تحول بالغة الدلالات؟
- نعم. في 21 آب (أغسطس) حين طرح موضوع الأسلحة الكيماوية في سورية.
**************
الإبراهيمي: حاولت مقابلة الشرع فجوبهت بالرفض وتصريحات داود أوغلو أضرته فوجئت بالتدخل العسكري العلني لـ "حزب الله" والمالكي أيد الأسد قلباً وقالباً
الخميس، ٢٦ يونيو/ حزيران
باريس - غسان شربل
في هذه الحلقة يتحدث المبعوث الدولي والعربي السابق إلى سورية الأخضر الإبراهيمي عن لقاءاته بعدد من قادة دول المنطقة في إطار سعيه إلى حل سياسي في سورية. ويروي أنه طلب أكثر من مرة خلال زياراته دمشق، الاجتماع بنائب الرئيس فاروق الشرع إلا أن طلبه رفض. ولا يستبعد الإبراهيمي أن تكون تصريحات وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو قد أضرت بالشرع، خصوصاً حين طالب الأسد بتفويض نائبه صلاحياته.
وهنا نص الحلقة الثانية:
> التقيت خلال مهمتك أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني؟
- نعم، ووجدته مقتنعاً بأن نظام (الرئيس بشار) الأسد على طريق السقوط، وأن بشار يجب أن يتنحى. كان يعتبر أن القصة ستحسم في أسابيع، أو أشهر وأنه كلما بكر الأسد في الرحيل كان ذلك أفضل، لأن الحل يبدأ بذهابه.
> تردد أن رئيس وزراء قطر حينها، وكان رئيساً للجنة الوزارية العربية التي تتابع الوضع، حمد بن جاسم اقترح على إيران حلاً ينص على أن يفوض الأسد نائبه فاروق الشرع كامل صلاحياته، وأنهم رفضوا ذلك؟
- حكي كثيراً عن هذا الموضوع، لكنني لست مطلعاً عما إذا كان عرض ذلك على الإيرانيين ورفضوه. الحقيقة أن وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو دعا علناً إلى خطوة من هذا النوع، وأعتقد أن دعوته تلك أضرت بالشرع. الإيرانيون في تلك المرحلة كانوا يقولون نحن نعترف بوجود أزمة في سورية، وفيها طرفان: الحكومة والمعارضة، ونعترف أن الحل يكون باتفاق بينهما، لهذا ندعو إلى مفاوضات تنتهي بانتخابات تحدد من سيحكم البلد.
> ألم تؤيد إيران بيان "جنيف - 1"؟
- لم تكن حاضرة. لم تؤيد البيان ولم تعلن معارضتها إياه. لم تخف إيران أنها مع النظام قلباً وقالباً. لكنهم كانوا يقولون إن ذلك ليس معناه أننا نقبل كل ما يقوله النظام. وزير الخارجية الحالي محمد جواد ظريف يقول نحن نؤيد دولة عضواً في الأمم المتحدة، هل تريدوننا أن نخجل بذلك في حين تؤيد دول مجموعات إرهابية؟ طبعاً الدول الأخرى لا تؤيد مجموعات إرهابية، بل تؤيد معارضة مسلحة.
> هل التقيت المسؤولين الأتراك؟
- نعم، التقيت الرئيس عبدالله غل وهو رجل محترم وعاقل. والتقيت رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان مع بان كي مون في قمة العشرين في سانت بطرسبرغ. كان موقفه ضد النظام ويريد التغيير.
> هل كان داود أوغلو متشدداً ضد الأسد؟
- جداً. الحقيقة أنني كنت أطرح على من ألتقيهم ما يمكننا عمله، فكان بعضهم يسارع إلى السؤال متى سيمشي الأسد؟ ولك أن تتخيل صعوبة العمل في ظل تناقض المواقف الإقليمية والدولية وعمق الشرخ بين السوريين. الشيء الملفت هو أن الشيخ حمد بن خليفة والشيخ حمد بن جاسم وأردوغان وأوغلو كانوا قبل الأزمة من أقرب الناس إلى الأسد وصاروا الأشد عداء لبقائه. هذا الموضوع يدعو إلى التفكير والتعمق فيه.
> هل كان هناك برنامج "إخواني" للمنطقة؟
- لا أدري، لكن لا شك في أن الأتراك تبنوا "الإخوان" في كل مكان بما في ذلك سورية، وأعتقد أن قطر اتخذت موقفاً مشابها من دون أن أكون على اطلاع على التفاصيل القطرية. الأتراك تبنوا "الإخوان"، وكانوا على صلة بهم في تونس ومصر وسورية. والملفت أيضاً أنه في "المجلس الوطني" وفي المرحلة الأولى من "الائتلاف" حصل "الإخوان" على حصة أكبر بكثير من قوتهم الفعلية، وهذا بلا شك بفضل تأييد تركيا وقطر لهم وقد خف هذا التأييد لاحقاً.
> التقيت أيضاً الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، كيف كان اللقاء؟
- كان اللقاء سريعاً، لأنه كان يستعد للمغادرة إلى أذربيجان. التقينا ليلاً حوالى نصف ساعة. كرر الموقف الإيراني الذي أشرت إليه سابقاً، وهو وجود أزمة في سورية وضرورة التفاوض بين الطرفين وأن تكون الكلمة في النهاية للانتخابات. هذا كان جوهر الموقف الإيراني طوال الوقت وهو تغير قليلاً الآن مع مجيء (الرئيس حسن) روحاني صاروا يتحدثون عن أخطاء ارتكبت وأن التغيير ضروري. لكن طبعاً موقف إيران على الأرض معروف تماماً. في أيام روحاني صارت صياغة الموقف الإيراني أكثر إتقاناً وبراعة.
> ألم يكن أحمدي نجاد متشدداً في صياغة موقفه الداعم للأسد؟
- قلت لك كيف كانوا يتولون عرض موقف بلادهم. وزير الخارجية كان يردد الكلام نفسه. جوهر الموقف هو التأييد الكامل للنظام، لكن التعبير عنه اليوم يتم بطريقة جديدة نسبياً.
> وهناك الموقف العراقي.
- العراق كما تعرف أطراف. نوري المالكي مع النظام (السوري) قلباً وقالباً.
> هل قدم له مساعدات؟
- أتصور أن ذلك حصل. هناك عراقيون يقاتلون إلى جانب النظام تماماً كما يفعل "حزب الله" اللبناني. إنهم أفراد ميليشيات لم تأتِ علناً باسم الدولة، لكن يصعب الاعتقاد بأن الدولة ليس لها دور في ما يقومون به.
> هل فوجئت بتدخل "حزب الله" العلني إلى جانب الأسد؟
- نعم، فوجئت لأن شرعية الحزب وخصوصاً شرعية سلاحه تأتي من وقوفه في وجه إسرائيل وهي شرعية زادت بفعل صمودهم في حرب 2006 في مواجهة إسرائيل. أن ينتقل هذا السلاح من الحدود الجنوبية للبنان إلى سورية ويخوض الحرب هناك هي مسألة ليست بسيطة وتشكل تغييراً كبيراً في دور الحزب. أنا لا أريد الخوض في انعكاسات ذلك لدى جمهور الحزب أو في لبنان.
> هل تعتقد أن مشاركة "حزب الله" والميليشيات الشيعية العراقية في القتال في سورية أعطته طابعاً طائفياً؟
- يمكن القول إنها أكدت هذا الطابع الذي كان موجوداً. هذه المشاركة الخارجية في القتال إلى جانب كل من الطرفين هي التي جعلتني أحذر باكراً من خطر انتقال النزاع إلى خارج الأراضي السورية وللأسف نشهد اليوم هذه المآسي في العراق. طبعاً الاستقطاب الطائفي على مستوى المنطقة مؤسف وشديد الخطورة ولا شك في أن النزاع في سورية ساهم في هذا الفرز وعمقه.
> من التقيت في روسيا؟
- التقيت لافروف. حين زرتها للمرة الأولى كان بوتين مريضاً.
> يقال إن لافروف مفاوض بارع!
- مفاوض بارع ومطلع. يدافع عن رأيه بقوة وثبات ويصعب أن يغير رأيه لكن التعامل معه مريح.
> هل عانت مهمتك من ذيول ما اعتبره الروس خديعة تعرضوا لها في ليبيا، وهل هذا يفسر لجوءهم المتكرر إلى الفيتو في مجلس الأمن؟
- هذه نقطة مهمة جداً، وقد تحدث عنها لافروف أكثر من مرة. أعتقد أن الدول الغربية لم تستوعب حجم الغضب الروسي مما حصل في ليبيا ولم تحاول تبديده. يقول الروس إنه كان هناك اتفاق بينهم وبين الأميركيين وصدرت تصريحات غربية رفيعة المستوى بأن الموضوع في ليبيا ليس موضوع تغيير نظام، بل هو موضوع حماية المدنيين. ويقول الروس إن القرار الذي وافقوا عليه كان واضحاً، ولا يتضمن أي دعم لتغيير النظام وإن الغربيين استخدموا القرار خلافاً لمضمونه. وكرر لافروف أن روسيا لن توافق، لا من قريب ولا من بعيد على أي قرار يمكن أن يوظف في هذا الشكل.
قلت له لماذا لا نضمّن القرار المستند إلى الفصل السابع، فقرة تنص صراحة على أن استخدام السلاح يحتاج إلى قرار جديد من مجلس الأمن، فردّ بالرفض قائلاً إن الغربيين سيجدون ألف طريقة للالتفاف على ذلك. بالنسبة إليهم أصبحت عبارة الفصل السابع حساسة وممنوعة.
> هل طلبت من لافروف ممارسة ضغوط على الأسد؟
- قال الروس: ليس من مهمتنا أن نقول للأسد أن يغادر. ثم إن نفوذنا على الرجل أقل مما يعتقد كثيرون. ذات يوم قال لافروف: نحن نفوذنا على بشار أقل من نفوذ الأميركيين على بنيامين نتانياهو. فقلت له: يا خبر اسود.
> هل فاجأك الموقف الصيني باعتماد الفيتو؟ وكيف تفسره؟
- لا لم يفاجئني. الصين حساسة في ما يتعلق بسيادة الدول. علينا أن نتذكر أن لديها مشكلة التيبت وتعتبر أن الاعتراف بالسيادة الصينية يعني عدم جواز التدخل في التيبت. لا تقبل بتأويلات لموضوع السيادة.
> هل يساعد خوف روسيا أيضاً من "الربيع الإسلامي" على شرح موقفها؟
- لا شك في أنهم اعتبروا الوضع في ليبيا سيئاً، والوضع في مصر مقلقاً، وحتى الوضع في تونس، أما سورية فهي أقرب إليهم جغرافياً. كانت قراءتهم للوضع أنه في حال سقوط النظام في سورية، فإن المؤهلين لتسلم السلطة ليسوا المنتمين إلى المعارضة المعتدلة، بل التيارات الإسلامية المتشددة. كان من السهل قراءة موقفهم هذا من طريقة تعاملهم مع الحدث.
> هل كانت أميركا ستشن حرباً على النظام السوري يوم اتهم باستخدام السلاح الكيماوي؟
- لا أدري حقيقة ماذا كان يدور في رأس الرئيس باراك أوباما. أرسل قطعاً بحرية وأطلق تهديدات. كانت القوات جاهزة، فهل كان يريد شن عمل عسكري أم دفع الضغط على الأسد إلى أقصى حد لا أعرف. سئلت أنا عن رأيي باستخدام القوة؟ فأجبت أنني أقول دائماً إن استخدام القوة يجب أن يتم بتفويض من مجلس الأمن، وهذا ما يقوله ميثاق الأمم المتحدة. هبت عاصفة من الانتقادات. لن يستأذنني أوباما إذا كان يريد شن حرب، ورأيي ليس مؤثراً لكنني أتحدث عن القانون الدولي. وقال الأمين العام للأمم المتحدة ذلك مرات عدة. كثيرون اعتقدوا بأن الضربة آتية، وستكون قاضية وينتهي الموضوع في سورية. مقالات كثيرة كتبت في هذا الاتجاه ثم جاءت الصدمة عنيفة.
> هل تعتقد أن الروس التقطوا الفرصة وحرموا الأميركيين من مبرر شن ضربة عسكرية؟
- الله أعلم. كنا في قمة العشرين في سانت بطرسبرغ في نهاية آب (أغسطس) 2013، وكان المشاركون يترقبون على مدى ثلاثة أيام موعد لقاء أوباما مع بوتين وما سيصدر عنه. لم يحصل أي لقاء. في اليوم الأخير توجه المشاركون إلى الغداء وإذ بأوباما وبوتين يقفان حوالى 20 دقيقة ويُعلن أن كيري ولافروف سيلتقيان في جنيف لبحث موضوع الكيماوي. هذا يعني أنه كانت هناك اتصالات أخرى بين الفريقين على المستوى السياسي والاستخباراتي. دعي وليد المعلم إلى موسكو وأعلن استعداد سورية لتسليم أسلحتها الكيماوية. جاء كيري ولافروف إلى جنيف واجتمعا في الإنتركونتيننتال ثم جاءا إلى مكتبي في مقر الأمم المتحدة حيث عقدنا اجتماعاً ثلاثياً.
> ماذا جرى في الاجتماع؟
- بحثنا في عقد اجتماع "جنيف - 2" العتيد. طبعاً، وهذا مضحك، هناك من أقحمني في موضوع الحل الكيماوي وهذه أمور أكبر مني بكثير. وهناك من اتهمني بأنني ساهمت في عدم حصول الضربة العسكرية. هذه مسائل تخص دولاً كبرى، ولا علاقة أو تأثير لنا بها. لم تكن لي يد، لا من قريب ولا من بعيد. قالا نريد أن نلتقي لبحث الوضع في سورية فقلت لهما غير مناسب أن يعقد اللقاء في فندق ومبنى الأمم المتحدة على بعد مئة متر فقبلا وكان اللقاء. قالا فلنحاول البحث عن حل سياسي. أعتقد أنه كان لديهما حسن نية. لكن، كان لكل منهما حسابات وحلفاء ومصالح دول وقد فشلنا في مساعدتهما على التوصل إلى حل.
> هل ورد موضوع نائب الرئيس السوري فاروق الشرع في بالك؟
- نعم، طلبت أن أقابل الشرع فقالوا لي لا.
> في أي رحلة؟
- في كل رحلة باستثناء الأخيرة. في الرحلة الأخيرة تحدثت مع الأسد. قلت له إن الرجل لا يزال نائباً للرئيس لديكم، وأنا أعرفه منذ ثلاثين سنة، ماذا سيقول الناس عني إذا لم أسلم عليه؟ فرد: لا رجاء أنت ضيف عندنا ولا داعي لذلك.
> هل فكرت في أن يلعب الشرع دوراً في المرحلة الانتقالية؟
-بكل تأكيد. يقول لافروف وأظن أن ذلك كان في شباط (فبراير) 2012 حين ذهب إلى الأسد وشدد على ضرورة أن تجرى مفاوضات، إن الأسد رد بأن فاروق الشرع يقود المفاوضات باسمي. ويقول لافروف إنه في تلك المرحلة كانت المعارضة تعتبر نفسها منتصرة ولم تكن مهتمة بالتفاوض، لا مع الشرع ولا مع غيره.
> لكنك تحدثت هاتفياً مع الشرع.
- هو كلمني أو قالوا له أن يكلمني. أنا احتججت بشدة وقلت لهم أنا سأتصل به. كلمني قبل أن أتصل به. أفهمت الشرع بوجود معارضة للقائنا وقلت له هل تحب أن آتي إليك فأنا مستعد، وإذا كنت تحب أن تأتي إلي فأهلاً بك يمكن أيضاً أن نلتقي لدى صديق. لم يعاود الاتصال ولم أحاول أن أحرجه.
> ما هي معلوماتك عن استخدام السلاح الكيماوي في سورية؟
- شكلت الأمم المتحدة لجنة للتحقيق في ما جرى في خان العسل، وهذا كان قبل آب. الحكومة السورية طلبت من الأمين العام إجراء تحقيق وتجاوب. طلب من اللجنة أن تتأكد مما إذا كان السلاح الكيماوي قد استخدم من دون أن يطلب منها التحقيق في هوية الجهة التي استخدمته. البريطانيون والفرنسيون دعوا إلى التحقيق في حالات أخرى. النظام رفض وقال نحن دعوناكم من أجل خان العسل. لم يحصل اتفاق على زيارة اللجنة إلا قبيل 21 آب 2013، حين تسارعت الأنباء عن استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة. وصلت اللجنة قبل أيام إلى دمشق استعداداً لزيارة خان العسل وربما إلى مكانين آخرين. في 21 آب، استخدم السلاح الكيماوي على بعد كيلومترات من الفندق الذي يقيم فيه أعضاء اللجنة. حصل أخذ وعطاء وفي النهاية وافقت الحكومة وذهبت اللجنة وأكدت أن السلاح الكيماوي قد استخدم في الغوطة. جمعت اللجنة عينات وأكدت استخدام السلاح. وأعتقد أنهم قالوا أيضاً إن الكيماوي استخدم في خان العسل.
حصل انقسام. قال الروس إنهم على ثقة كاملة بأن النظام لم يستخدم السلاح الكيماوي في أي مكان وحملوا أطرافاً في المعارضة مسؤولية استخدام هذا السلاح.
> لماذا وافق الروس على تدمير أسلحة سورية الكيماوية؟
- هذا مبدأ عام. على الأميركيين والروس تدمير كل أسلحتهم الكيماوية لكنهم تأخروا. أعتبر أن سورية انضمت إلى هذه الجهود. ويفرح إسرائيل إلى أقصى حد أن تتنازل سورية عن هذا السلاح الاستراتيجي.
> خلال مهمتك هل طلبت من الأسد إطلاق المعتقلين؟
- طبعاً، قلت له لدي قائمة أعدتها منظمات سورية لحقوق الإنسان، وتضم 29 ألف اسم وسأسلمها لمكتبك. أرجو أن تتدخل فبينهم من اعتقلوا خلال مشاركتهم في تظاهرات. قلت للمعلم لاحقاً لماذا لا يطلق سراح النساء والأطفال والمسنين. الآن يتحدثون عن عفو وإطلاق بعض الفئات. ويبدو أن عدداً لا بأس به قد خرج.
> سمعتك تقول إنه لم يكن لديك أمل بأن يحقق "جنيف - 2" شيئاً، لماذا عقدته؟
- مجرد قبول الفريقين بفكرة اللقاء ومبدأ الحل السياسي كان مهماً. الوضع في سورية كان مأسوياً. المشكلة إن كلا الطرفين لم يأتِ متطلعاً إلى حل. النظام يحلم بانتصارات ميدانية أوسع والمعارضة غير مرحبة بالتفاوض في ظل ميزان القوى الحالي. الحقيقة أن المعارضة جاءت بفعل الضغوط التي مارسها الأميركيون والنظام جاء بفعل ضغوط الروس. وتصرف كل فريق بأسلوب من أجبر على المجيء. قلت هذا الكلام للأميركيين والروس وقلت إنني لن أستطيع الحصول منهم على شيء إلا إذا أقنعتموهم جدياً بضرورة البحث عن حل، وهذا يعني تنازلات وقرارات وهذا لم يحصل. قرار المعارضة بالمجيء اتخذ قبل يوم واحد من الاجتماع. قلت للمعلم وبشار الجعفري مندوب سورية في الأمم المتحدة كأنني كنت معكم لدى تلقيكم التعليمات. إخواننا الروس يريدون منا أن نذهب. المطلوب ليس فقط أا تتنازلوا، بل ألا تفاوضوا. احتج المعلم والجعفري فأجبتهما أن كل كلمة قلتماها أو لم تقولاها تؤكد ما قلته لكم. في أي حال الأسد تحدث لاحقاً عن استحالة التفاوض مع معارضة الخارج.
المعلم نفسه حمل إلى مونترو خطاباً قاسياً وعنيفاً ولم يترك تهمة إلا وألصقها بالمعارضة بدءاً من الخيانة وصولاً إلى ما هو أبعد. كان جوهر الخطاب: من أنتم لنتفاوض معكم؟ قلت له مرة إذا كنتم تعتبرونهم خونة وعملاء كان الأفضل ألا تأتوا.
> هل كان جمع الوفدين تحت سقف واحد صعباً؟
- هذه لم تكن شديدة الصعوبة المشكلة كانت في غياب النية. الحقيقة أن المعارضة بدأت بعد أيام تتكلم لغة من يريد أن يحاور بحثاً عن حل لكن النظام استمر على موقفه ولهذا أوقفت الاجتماعات.
> متى اتخذت قرار إنهاء مهمتك؟
- منذ سنة. قلت للناس باكراً إنني أفكر كل صباح في الاستقالة. قبل "جنيف - 2" قلت للأمين العام إنني سأنظم هذا الاجتماع وأغادر بعده. الحقيقة أنك تتعذب حين ترى هذه الخسائر البشرية الفادحة والدمار الكبير ولا ترى نفسك قادراً على وقف القتل أو تخفيف الآلام. حاول الأمين العام إقناعي بالبقاء فقلت له المثل العربي "تبديل السروج راحة" ونصحت الأمين العام بالبحث عن شخص آخر ربما تكون لديه أفكار جديدة أو مقاربات أخرى.
> هل تتوقع أن تستمر المواجهات في سورية لسنوات؟
- عندما يقول النظام إن وضعه العسكري يتحسن يمكن القول إن ذلك صحيح. حين يستنتج النظام أن الحسم قريب والنصر وشيك هذا الموضوع أشك فيه. موضوع الحسم ليس في يد النظام. إنه في يد جيرانه والمجتمع الدولي. سورية تعيش حرباً أهلية وحرباً إقليمية عبر الأزمة السورية. الحسم العسكري متعذر في رأيي ما دام باستطاعة المعارضة في الداخل تلقي المزيد من الرجال والسلاح والمال عبر الحدود. احتمال أن تطول الحرب سنوات وارد. يبقى دائماً وجود احتمال بأن تتوقف. الأمين العام للأمم المتحدة يدعو إلى توقف التسليح والتمويل من كل الأطراف وإلى كل الأطراف أي ليس فقط للمعارضة. تتوقف الحرب بالاتفاق على قيام سورية الجديدة أي سورية المختلفة عما كانت عليه في ظل حافظ الأسد وبشار الأسد. الاتفاق على سورية الجديدة يعيد اللحمة بين الناس وبين سورية وجيرانها.
> هناك من يقول إن مهمتك تضررت بفعل الأزمة الأوكرانية والانتخابات الرئاسية في سورية واستمرار الخلاف الإيراني - السعودي، فهل هذا صحيح؟
- لا شك في أن هذا الكلام صحيح. أنا أفضل الكلام على العوائق التي تحول دون رفع هذا الظلم الكبير الذي يتعرض له الشعب السوري. هناك حالة النكران لدى النظام. ينكر النظام وجود انتفاضة أو ثورة أو تمرد ويتمسك باعتباره المسألة مؤامرة خارجية وهذا غير صحيح. المشكلة في الطرف الآخر استسهال الوضع في سورية واعتبار أن النظام انتهى. وهذا يصدق على المعارضة وكثيرين من مؤيديها دولياً وإقليمياً.
كنا أسسنا مساراً ثلاثياً يضم أميركا وروسيا والأمم المتحدة. الأزمة الاوكرانية أوقفت هذا المسار الذي كان يعاني أصلاً من اختلاف القراءات والحسابات بين واشنطن وموسكو. الانتخابات الرئاسية السورية أكدت عملياً أن المفاوضات التي بدأناها في جنيف انتهت. الحقيقة أنها كانت منتهية عملياً لكن الانتخابات عززت هذا الاستنتاج.
> ما هي خطورة أن نشهد تلازم حربين أهليتين واحدة في سورية وأخرى في العراق؟
- هذا الأمر شديد الخطورة. حرب واحدة يمكن أن تؤثر في الدول القريبة والبعيدة. انظر إلى اللاجئين السوريين في لبنان والأردن وتركيا. مآس إنسانية وأعباء اقتصادية ومخاوف أمنية. أنظر أيضاً إلى قلق الدول الأوروبية والغربية من أبنائها الذين يقاتلون في سورية. حرب أهلية وذات طابع طائفي وبتورط إقليمي هذا شديد الخطورة. لم أكن أبالغ حين حذرت باكراً من الصوملة في سورية. ثم هناك ما يجري في العراق وهو يهدد بلداً مهماً في المنطقة وتوازناتها.
> تعاملت مع الأسد الاب، ثم تعاملت مع الأسد الابن، ما الفارق في الأسلوب؟
- كل واحد منهما ابن جيله. الأسد الأب كان يعرف المنطقة معرفة جيدة وكان طويل البال. كان يعقد جلسات تمتد أحياناً سبع ساعات.
> لم يكن بينك وبين الأسد ودّ؟
- لا مع الأب ولا مع الابن لكن كان هناك الاحترام. يمكن أن يكون الأب يعرفني بصورة أفضل. وأنا كنت أعرفه بصورة أفضل. سافرنا الأسد الأب وأنا في طائرة واحدة للمشاركة في تشييع جمال عبدالناصر. كنت في دمشق التي أرسلني إليها الرئيس هواري بومدين في إطار جهود تتعلق بما سمي آنذاك "أيلول الاسود" أي الاشتباكات بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية. عرفنا بنبأ وفاة عبدالناصر خلال وجودنا على العشاء في منزل نور الدين الأتاسي رحمه الله. في اليوم الثاني سافرنا معاً. كان حافظ الأسد كما عرفت اتخذ قرار السيطرة على الوضع لكنه ينتظر التوقيت المناسب لإصدار البيان الرقم واحد. كان الناس يعرفون ذلك والأتاسي كان يعرف. وعلم أنه أرجأ الإعلان عن حركته بسبب وفاة عبدالناصر.
> التقيت صدام حسين والتقيت المالكي، ما الفارق بين أسلوب الرجلين؟
- لم أعرف أياً منهما عن قرب. قابلت صدام في شأن لبنان وكذلك في شأن الحرب العراقية - الإيرانية، لكن علاقتي به لم تكن عميقة مثل علاقتي مع عبدالناصر مثلاً. وقابلت المالكي واللقاء الأخير معه كان يتعلق بسورية. معرفتي بالرجلين لا تسمح بعقد مقارنة بينهما.
> بماذا كنت تشعر وأنت تنام في دمشق فيما ترزح سورية تحت القتل والدمار؟
- حاولت باكراً أن أعبر عن هذا الشعور. الأمر مؤلم. هناك كنيسة في حمص بنيت في سنة 1957 هدمت. مسجد خالد بن الوليد ضرب. المسجد العمري في درعا ضرب أيضاً. المسجد الأموي في حلب حصل قتال داخله. الأسواق الشهيرة في حلب احترقت. لهذا، قلت إنهم يدمرون حاضرهم ويهددون مستقبلهم ويدمرون ماضيهم. الحقيقة أنهم يدمرون ماضينا جميعاً فهذا التراث يخص الإنسانية في النهاية وليس سورية وحدها. حين يذهب المرء إلى دمشق التي تغنى بها شعراؤنا ووصفت بأنها قلب العروبة النابض وللمرء فيها ذكريات يشعر بالأسى والكارثة. أنا زرت دمشق للمرة الأولى في 1958. الآن تسمع فيها دوي المدافع ليلاً ونهاراً. هذا فظيع. يشعر المرء بحزن شديد وغضب شديد.
> لا النظام أحبك ولا المعارضة؟
- هذا صحيح وكل فريق انطلاقاً من حساباته. أنا لم أكن في رحلة علاقات عامة. أنا كنت في مهمة لها قواعد وضوابط. ليس المهم المشاعر تجاه المبعوث، المهم المواقف من المسائل المطروحة. أنا قلت منذ اليوم الأول إن ولائي هو للشعب السوري وحده وقبل الجامعة العربية والأمم المتحدة اللتين لا مصالح لهما منفصلة عن مصالح الشعب السوري.
> تتحدث كأنك ظلمت في الإعلام؟
- ظلمت جداً، خصوصاً في العالم العربي ومما أسميه الأقلام المأجورة وهي موجودة في دمشق وخارجها. كل واحد يريد أن يفرض عليك تصوره وحين تكون مستقلاً يعتبرك ضد سورية. بالنسبة إلى النظام هناك مؤامرة إمبريالية استعمارية إسرائيلية، وإذا كنت ضد موقف النظام، فأنت إذاً جزء من هذه المؤامرة ومؤيد للإرهاب، ومن حيث تدري أو لم تدرِ فأنت متواطئ مع إسرائيل. بالنسبة إلى المعارضة النظام ساقط وأنت تقول لا يوجد حسم عسكري ويجب إجراء مفاوضات وهذا يعني أنك تحمي النظام، بالتالي أنت عدو وقد عبر جورج صبرا عن هذا الموقف ببلاغة شديدة.
(غداً الحلقة الأخيرة)
********
الإبراهيمي: قلت للسيستاني إن الحرب السنية - الشيعية قد تدوم ثلاثين سنة إذا اندلعت اهدى الأميركيون العراق لايران فراحت تتصرف بوصفها "الدولة المهمة" في الاقليم
الجمعة، ٢٧ يونيو/ حزيران ٢٠١٤
باريس - غسان شربل
كان لا بد من التطرق إلى التطورات المقلقة في العراق. والأسباب كثيرة. أولها أن الأخضر الإبراهيمي حذر باكراً من احتمال انتقال النزاع في سورية إلى ما وراء حدودها. والثاني أن الأخضر يعرف الملف، فقد كلفته الأمم المتحدة في 2004 بمساعدة العراقيين على تشكيل حكومة تتولى استعادة السيادة من الاحتلال الأميركي.
وهنا نص الحلقة الثالثة والأخيرة:
> بماذا تشعر حين تسمع أن تنظيم "داعش" استولى على مساحات واسعة من العراق؟
- مشاعر كثيرة تتسارع لدى الإنسان حين يعرف بتطور من هذا النوع. للأسف أن هذا قد حصل، وكنت قد حذرت من أن ما يجري في سورية يصعب ضبطه داخل أراضيها في حال استمراره. لا يمكن إقفال نزاع من هذا النوع داخل الحدود السورية. وقلت بصراحة أن هذا النزاع يمكن أن يسبح ويتخطى الحدود.
الأمر الثاني هو ما يثيره مثل هذا التطور من تساؤلات. هناك من يقول إن مقاتلين قدموا من سورية واستولوا على الموصل، وهي المدينة الثانية في العراق. كيف سقطت المدينة في أيديهم؟ وهل يمكن أن تسقط مدينة بهذا الحجم لأن مسلحين تسللوا من بلد مجاور؟ المدينة الثانية في بلد من أهم الدول العربية تسقط فجأة بيد جماعة كأنها جاءت في مهمة سياحية!! الوضع يطرح تساؤلات كثيرة، بينها هل يمكن أن تسقط المدينة بيد ألف أو ألفين من المقاتلين من دون أن يحصلوا على مساعدة أو تعاطف ومن دون أن يكون الجو محتقناً إلى درجة المساعدة أو التسهيل. أتمنى أن يتم التعامل مع الموضوع انطلاقاً من الإجابة على التساؤلات التي يطرحها
> هل تعتقد أنها احتلت على يد من قدموا من سورية؟
- لا، بكل تأكيد. آخرون لعبوا دوراً. السؤال لماذا تعاونوا لإخراج المدينة من تحت سلطة الحكومة المركزية. لا بد من الاعتراف بحقيقة المشكلة لتسهيل البحث عن حل. منذ بدء مهمتي في سورية دعوت إلى التعامل بجدية مع النزاع الدائر فيها، نظراً لتشابكه مع أوضاع المنطقة. تذكر أنني قلت إن الوضع في سورية سيئ ويزداد سوءاً. وهذا شعور أن سورية لن تتكسر لوحدها، وقد تكسر منها الكثير، وإنما الخطر الذي دهمها يمكن أن يصيب الجوار، وربما ما هو أبعد منه بكثير.
> إلى أين يتجه الوضع العراقي وقد كنت مبعوثاً للأمين العام للأمم المتحدة فيه في 2004؟
- كنت في الأمم المتحدة، وبرغم ضوابط العمل أدنت علناً الغزو الأميركي للعراق. وذهب الأميركيون إلى الأمم المتحدة واحتجوا على موقفي وكنت يومها أعمل في أفغانستان.
وافقت على التوجه إلى بغداد في مطلع سنة 2004، لأن بول بريمير (الحاكم الأميركي للعراق) وأعضاء مجلس الحكم جاؤوا إلى نيويورك. قالوا نحن كنا جئنا إلى نيويورك في تموز (يوليو) 2003 وطلبنا من مجلس الأمن أن يعترف بالولايات المتحدة كدولة محتلة للعراق، وتم لنا ذلك. نحن الآن غيرنا رأينا ونريد إعادة السيادة إلى العراق. من غير الممكن أن ترفض الأمم المتحدة المساعدة في إعادة السيادة. ولا يمكن لي أيضاً أن أرفض مهمة هذا هدفها على رغم معارضتي الغزو وكل ما يحصل بعد وقوعه. ذهبت كممثل للأمين العام من أجل المساعدة في تشكيل حكومة عراقية تتولى استعادة السيادة. وعلى هذا الأساس شكلت حكومة أياد علاوي.
حصلت انتقادات كثيرة، وثمة من قال لماذا جاء وهو يعمل مع الأميركيين. الحقيقة أنني قبل حسم قراري سألت كثيرين من العراق وخارجه ولم يزد عدد من نصحوني برفض المهمة على واحد أو اثنين. وهناك من اعتقد أنني سأكون طليق اليد في تشكيل الحكومة التي أريد إلى درجة انه اقترح علي اسماً، فلما سألت عن صاحب الاسم تبين انه كان المسؤول عن البرنامج النووي لدى صدام حسين. (يضحك).
هذا النوع من الأوضاع يطلق كل أنواع السيناريوات والتخيلات. في أي حال، الحكومة التي شكلت كانت أفضل مما سبقها، وهناك من يقول إنها افضل مما تبعها.
> هل تلمح إلى مسؤولية الغزو؟
- الغزو كسر العراق. لا أعتقد أنه كان هناك من يعارض سقوط صدام باستثناء قلة. لكن إسقاط صدام مع تكسير العراق وتفكيك المؤسسات وانطلاق هذه الطائفية المفرطة وتقسيم العراق عملياً، كما هو حاصل الآن، مسائل بالغة الخطورة على العراق والمنطقة.
سمعت رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير يقول إن ما يحصل الآن لا صلة له بالغزو. كيف ذلك؟ الغزو هو أمُّ كل ما يجري في العراق من جيد وسيئ. كل ما هو قائم هو من ثمار الغزو الجيد منه والسيئ.
لنعد قليلاً إلى الوراء. قبل الغزو لم تكن "القاعدة" موجودة على أرض العراق. لعب الغزو دور المغناطيس الذي اجتذب "القاعدة". جاء أبو مصعب الزرقاوي وآخرون من غير العراقيين بذريعة مقاومة الاحتلال واجتذبوا عراقيين ودربوهم وجندوهم. هذه وقائع. الأب الشرعي أو غير الشرعي لـ "داعش" هو أبو مصعب الزرقاوي. بهذا المعنى، فإن سلوك بلير وجورج بوش يحمّلهما قدراً من المسؤولية. لا يستطيعان إنكار هذه الحقائق. عليهما دين للعراق لم يقوما بالوفاء به. احتلوا البلد وحطموه ثم قالوا وداعاً وغادروا. يجب على الأقل أي يقبلوا بوجود مسؤولية معنوية. طبعاً أنا لا أقلل من مسؤولية الممارسات والسياسات اللاحقة. أردت فقط الإشارة إلى أن الغزو أدى إلى انهيار الدولة العراقية.
> والمشهد الآن؟
- الحقيقة أن شمال العراق أصبح شبه مستقل. القسم الباقي يعيش في وضع سيئ. مستوى الخدمات لم يرجع بعد مرور 11 عاماً على الغزو إلى ما كان عليه في أيام صدام وفي ظل العقوبات القاسية التي كانت مفروضة. قلت لبعض الإخوة العراقيين وغيرهم إن الكلام على الديموقراطية في العراق لم يشمل عملياً إلا الرشوة والفساد. كان الفساد سابقاً ضمن حلقة ضيقة، الديموقراطية نشرته ووسعته وصار عاماً في البلد. الديموقراطية الوحيدة التي حصلت هي ديموقراطية الفساد. النزاع الطائفي شديد الخطورة على العراق والمنطقة. في 2004 لفتُّ إلى هذا الموضوع في لقاء مع المرجع الشيعي السيد علي السيستاني.
> ماذا جرى في لقائك مع السيستاني؟
- قلت له إنني آت من أفغانستان التي شهدت قتالاً عنيفاً بين السنة والشيعة، لكن القتال توقف، أما في باكستان، فإن القتل مستمر حتى في المساجد. إذا تقاتل الشيعة والسنة في العراق فإن حرباً دينية من هذا النوع قد تستمر ثلاثين أو أربعين سنة وتنهي العراق. لذلك أرجوكم بذل كل ما في استطاعتكم لتجنيب العراق هذا الخطر.
> كيف كان اللقاء؟
- كان ممتازاً، واستغرق أكثر من ساعتين. لمست أنه رجل مطلع اطلاعاً جيداً، بمعنى أنه لا يعيش في عزلة عن الأحداث والتطورات. قال لي: "أنا أعرفك وقرأت عنك الكثير وآخر ما قرأته كان عن لقائك في لندن مع محمد حسنين هيكل وإدوارد سعيد". وأضاف: "أنا قرأت ما ترجم من كتب لإدوارد سعيد وقرأت أيضاً كتب هيكل". قلت له: "سأرسل إليكم كتب هيكل الأخيرة"، فرد: "كثر خيرك". ولعله بهذه الإشارة أراد القول إنه لا يقفل على نفسه ويقطع صلته بالعالم، وإن قراءاته لا تقتصر على الجانب الديني أو الروحانيات الشيعية، وإنه يطلع على ما يجري في المنطقة ويُطرح فيها.
> ماذا قال عن الغزو الأميركي؟
- طبعاً كان موقفهم أنهم ضد الغزو الأميركي ولا يتعاملون مع الأميركيين. الحقيقة أنه رفض مقابلة أي مسؤول أميركي ولا حتى أي مبعوث أميركي. تولى عدد من الوسطاء العراقيين مهمة نقل الأجواء أو الأفكار بينه وبين بريمر. كان موقفهم المبدئي معارضاً للغزو، لكن ذلك لا يلغي أنهم أفادوا من حصوله لجهة إطاحة صدام وانتقال السلطة في العراق.
> لكنه لم يحض على قتال الأميركيين؟
- كان موقفه معارضاً للاحتلال لكن لم يصدر عنه ما يدعو إلى قتال الأميركيين.
> ما هي النقطة الجوهرية في اللقاء؟
- كان لهم موقف يعتبر أن عودة السيادة يجب أن تتم بعد إجراء انتخابات تشكل حكومة بناء على نتائجها. شرحت له أن هذا الموقف يعني تمديد الاحتلال على الأقل لسنتين لأن وضع العراق حالياً لا يسمح بإجراء انتخابات ذات صدقية. اقترحت عليه أن يتم تشكيل حكومة موقتة. قبل كلامي وهو كان في السابق يرفض كلام الأميركيين عن تشكيل حكومة.
> هل طرحت عليه اسم أياد علاوي؟
- لا ليس في هذا الوقت. اتصلت بهم لاحقاً لدى البدء في تشكيل الحكومة. الحقيقة أنه في المرحلة اللاحقة طرح أسماء عدة وكان علاوي بينها. حكي الكثير عن أن علاوي فرض عليّ. هذا غير صحيح على الإطلاق. أنا اقترحت علاوي وفوجئ الأميركيون.
> هل كان لدى الأميركيين مرشح؟
- كانت لديهم عدة أسماء. رفضوا أي اسم عروبي متشدد، ولم يكن هذا النوع مطروحاً. فوجئ الأميركيون حين طرحت علاوي وحين أبلغتهم أن السيستاني لن يعارض وكنت تحدثت إليه هاتفياً. اخترت علاوي لأنه بين الأسماء المطروحة، كان معروفاً بأن لديه مقداراً ما من النفَس العربي، وبأنه غير طائفي. هذا هو السبب. وكنت أعرف عنه أكثر مما أعرف عن الآخرين. طبعاً كانت هناك أيضاً أسماء أخرى تصلح للمهمة.
> هل تحدثت مع السيستاني في العلاقات الشيعية- السنية؟
- نعم. في نيسان (أبريل) أدليت بتصريح حذرت فيه من خطر الانزلاق إلى حرب أهلية. احتج البريطانيون والأميركيون واحتج عراقيون. قلت لهم لن ينهض أحد صباحاً ويقول سأشن حرباً أهلية. ما هكذا تبدأ الحروب الأهلية. انظروا إلى لبنان، الذين هاجموا الباص في 13 نيسان 1975 لم يقولوا إنهم بدأوا الحرب الأهلية.
> هل أيد الأكراد علاوي؟
- ترددوا في البداية ثم قبلوا.
> هل كان لديهم مرشح؟
- لم أسمع ذلك منهم.
> والقوى الشيعية؟
- كان كل فريق يريد رئيساً للوزراء من صفوفه. طبعاً لاحظت من موقف السيستاني وتصرفاته حرصه على ألا يظهر في صورة من ينفذ برنامجاً إيرانياً أو أنه يندرج في سياقه. كان حريصاً على إبعاد هذه الشبهة أو التهمة. وأعتقد أنه نجح في ذلك في تلك المرحلة.
> كيف وجدت شخصيته؟
- وجدته شخصاً هادئاً ومطلعاً وسياسياً من الدرجة الأولى. حين لفتُّه إلى مخاطر الحرب الشيعية– السنية في حال اندلاعها لمست منه تفهماً لمخاطرها. شجعني على محاورة السنّة وأكد أنه سيدعم أي توجه يحفظ حقوق الجميع.
> هل حاولت مع القادة السنّة؟
- الواقع أن معظم القيادات السنية كانت تعيش في عالم آخر. كانت هناك حالة إنكار لما حدث. رغبة في عدم الاعتراف بأن واقعاً جديداً قد نشأ. في تلك الأيام كان المشهد غريباً. استمر الشيعة في التصرف كأنهم أقلية. واستمر السنّة في التصرف كأنهم الغالبية. هناك طرف تأخر في إدراك انتصاره وطرف تأخر في إدراك هزيمته. كان الموقف محتاجاً إلى التفكير والواقعية وتبادل شيء من التنازلات والضمانات لمصلحة العراق.
من جملة ما ارتكبه صدام حسين في حق بلده، إصراره على إلغاء أي شخص آخر يمكن أن يكون له وضع أو وجهة نطر، خصوصاً داخل طائفته. لم يسمح بوجود شخصيات لها اعتبار أو دور خارج حلقته التي كان فيها الآمر الوحيد. كان هناك فراغ لدى السنّة. يمكن القول إن هناك من حاول من العراقيين الذين كانوا خارج العراق في أيام صدام. عدنان الباجة جي شخص وطني لم يشارك في الدعوة إلى الاحتلال لكنه تعامل مع الوضع الذي نشأ. هناك من رفض التعامل مع هذا الوضع، مثل صديقنا أديب الجادر. كان يمكن أن يكون صاحب دور بارز لكنه قال إنه يرفض تولي أي منصب في ظل وجود الأميركيين. وأنا أحترم هذا الموقف.
أتابع مشاهد اليوم في العراق وألمس مدى التدهور الذي حصل. في 2004 كان هناك أكثر من سياسي يرفض مناقشة أي حل من زاوية توزيع الحصص بين الشيعة والسنّة. كان عدد من السياسيين يسارعون إلى القول إنهم عراقيون أولاً وأخيراً. هذا يصدق أيضاً على عدد من السياسيين الشيعة، لكن من جاؤوا مع الاحتلال كانوا يستخدمون لغة من يعتبر أنه كان مغبوناً وجاء اليوم للحصول على حقوقه.
> وتعاملت مع القادة الأكراد أيضاً؟
- نعم التقيت جلال طالباني ومسعود بارزاني. كان للأكراد وضع خاص. قبل الغزو وتحت المظلة الأميركية وعلى مدى سنوات أنشأوا كياناً لهم في الشمال، بمعنى أنهم قاموا بترتيباتهم في الشمال وجاؤوا للبحث عن دورهم في الجزء الباقي من العراق. قالوا رأيهم وحصلوا على حقوقهم.
> اقتصرت مهمتك على المساعدة في تشكيل الحكومة؟
- نعم، هذه حدودها.
> لم تكن لك علاقة بإعداد الدستور؟
- لا، واستمرت مهمتي من آخر كانون الثاني (يناير) إلى آخر حزيران (يونيو).
> هل واجهت مخاطر أمنية خلال إقامتك؟
- لا.
> أين كنت تقيم؟
- للأسف في ما كان سابقاً القصر الجمهوري وتم تحويله إلى مكاتب. أقمت هناك لأسباب أمنية. تتذكر بلا شك أنه كان للأمم المتحدة ممثل في العراق هو سيرجيو فييرا دي ميللو، والذي قتل في تفجير نجا منه صديقنا غسان سلامة بأعجوبة. عملياً كان ممنوعاً على الأمم المتحدة بعد تلك الجريمة أن يكون لها مكاتب خارج المنطقة الأمنية.
> بماذا يشعر المرء حين ينام في قصر كان ينام فيه صدام حسين؟
- أسوأ أيام في حياتي هي تلك الفترة التي أمضيتها في هذا المكان. شعور صعب للغاية. بلد محتل ومفتوح على كل أنواع الأخطار. كل يوم كان صعباً. كل دقيقة كانت صعبة. كان علي أن أعمل في مكتب والقصر يعج بالعسكريين الأميركيين.
كنت أفكر في وضعنا العربي البائس. يمارس الحاكم أحياناً كل أنواع الارتكابات ويتمسك بالكرسي حتى ولو عرّض بلاده لخطر الاحتلال والتفكك والحرب الأهلية. ثم إنك في هذا النوع من المهمات لا تستطيع أن تنسى ما يتعرض له المدنيون من قتل وتنكيل وتهجير، فضلاً عن تبديد الموارد وتدمير المؤسسات.
> أجريت اتصالات إقليمية لتسهيل مهمتك؟
- نعم. ذهبت إلى إيران والتقيت الرئيس محمد خاتمي على ما أذكر.
> ماذا كان موقف إيران؟
- كان شبيهاً بموقف السيستاني، أي أنهم ضد الغزو، لكن في الحقيقة كان لديهم ترحيب بعمل أدى إلى تخليصهم من وجود صدام حسين ونظامه. كانوا يقولون نحن لا يمكن أن نؤيد (الغزو) بل إننا ندين ما يفعله "الشيطان الأكبر"، لكن عملياً تعاملوا مع الواقع الجديد وزار الرئيس أحمدي نجاد المنطقة الخضراء.
> ماذا كان الإيرانيون يريدون؟ اختصار فترة الوجود العسكري الأميركي؟
- (يضحك) كان مطلبهم كما أعتقد تسليم السلطة في العراق إلى أصدقائهم من الشيعة. الدول تبحث عن مصالحها.
> أكد الرئيس حسن روحاني أن إيرانيين كثيرين على استعداد للدفاع عن المقدسات في العراق وهناك ملامح حرب دينية في العراق وهناك مطالبة بإقليم سني. هل تعتقد أن العراق يمكن أن يعود دولة موحدة كما كان؟
- مع الأسف الشديد يمكن القول إن الحرب الدينية موجودة أصلاً ولم تبدأ الآن.
حصلت في أفغانستان لبعض الوقت. وهي مستمرة في باكستان. وحصلت في العراق ابتداء من أواخر 2004 والتهبت في السنوات الثلاث التالية.
موقف إيران هذا ليس مفاجئاً، وللأسف للنزاع في المنطقة هذا الطابع. صحيح أن الأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصرالله يحاول أن يضع التدخل في سورية تحت لافتة المقاومة، لكن الناس لا تنظر إليه من هذه الزاوية. تدخل الحزب في سورية زاد من الطابع المذهبي للنزاع في سورية والمنطقة من دون أن ننسى دور المتطرفين في المعسكر الآخر.
هناك كلام أيضاً عن سقوط سايكس- بيكو وولادة خرائط جديدة. أنا لا أظن الأمر بمثل هذه السهولة. طبعاً لا يمكن تجاهل أن الأكراد يتطلعون إلى بناء دولة لهم ويعتبرون خرائط سايكس- بيكو ظالمة لهم. لكنني لا أرى حتى الساعة إمكان تمزيق خرائط مجموعة دول من أجل قيام هذه الدولة. أنا لا أعتقد أن الحدود بين الدول ستتغير حتى ولو شهدنا حالياً انتهاكات صارخة ويومية لها. أعتقد أن الدول ستتغير ضمن حدودها الحالية، أي التوزيع الداخلي ضمن هذه الخريطة أو تلك. سورية في النهاية ستنظم نفسها بطريقة مختلفة والأمل أيضاً أن ينظم العراق نفسه بطريقة مختلفة تضمن له الاستقرار.
> هل تلمح إلى قيام أقاليم في الدول الغارقة في نزاعات مذهبية وعرقية؟
- ليس بالضرورة أقاليم لكن علينا أن نكون واقعيين. بعد الذي حصل في سورية لا يمكن هذا البلد أن يعود إلى ما كان عليه في آذار (مارس) 2011.
> هل تريد القول إن سورية لن ترجع كما كانت؟
- نعم. مستحيل أن ترجع. بعد كل هذا التمزق والتدمير والقتل والاعتقالات والتعذيب لا يمكن أن تحل المشكلة بالقول عفا الله عما سلف ولنرجع إلى الماضي. يجب أن يحصل تغيير، وأن يكون حقيقياً.
> هل تعتقد أننا سنرى في سورية بعد الذي جرى أقاليم للعلويين والسنّة والأكراد؟
- أنا اعتقد أن لدى الشعوب قدرة على تجاوز الأحقاد بعد مرور بعض الوقت. لدينا تجربة لبنان. اندلعت الحرب وتحولت مواجهة بين المسيحيين والمسلمين. مع الأسف النزاع اليوم في لبنان هو بين الشيعة والسنّة. لدى الشعوب قدرة كبيرة في التغلب على الأحقاد. ثم إن سورية كانت في تاريخها مثالاً جيداً للتعايش بين أطراف الفسيفساء السورية على حد تعبيرهم. العلويون اليوم موجودون في دمشق وحلب وحمص وقد تحسنت أوضاعهم بعد وجودهم فيها وليس بسبب وجودهم في جبل العلويين. حين تنتهي هذه المأساة سيكون من مسؤولية السوريين تحديد الصيغة المقبلة التي توفر لهم العدالة وتحترم كل المكونات.
في اعتقادي أن الشرخ في العراق أكبر وأعمق بين الشيعة والسنّة وبين العرب والأكراد. طموح الأكراد القديم هو أن تكون لهم دولة.
> هل ذكرك التمزق السوري بالتمزق اللبناني الذي ساهمت في محاولة إنهائه عبر اتفاق الطائف؟
- الفارق كبير جداً. أحد الأقلام التي أشرت إلى طبيعتها سابقاً قال إن خطأ الإبراهيمي الكبير هو انه حاول أن يعيد في سورية ما عمله في لبنان (يضحك). لا أعرف من أين جاءته هذه الفكرة السخيفة. أنا لم أفكر أبداً بذلك ولو ليوم واحد. لم أفكر على الإطلاق بإيجاد طائف آخر في سورية. الوضع مختلف تماماً.
> هل أفهم أن الفكرة لم ترد أبداً في ذهنك؟
- نعم هذا صحيح. الوضع مختلف تماماً. ثم إن الأمر يتعلق بمبدأ كنت بين الذين حاولوا ترسيخه في الأمم المتحدة. لا وجود لأزمتين متماثلتين. كل أزمة مختلفة عن الأخرى. ويجب أن يصاغ لكل أزمة حل خاص بها. لا يجوز نقل تجربة ناجحة في مكان لتطبيقها في مكان آخر. لم أفكر أبداً في طائف سوري. ما كتب في هذا السياق هو كلام فارغ.
> لإيران حضور بارز في الأزمات التي كلفت إنهاءها في أفغانستان والعراق وسورية. هل التقيت قائد فيلق القدس قاسم سليماني؟
- التقيته للمرة الأولى في أفغانستان.
> واللقاءات التالية في بغداد؟
- لا. في إيران.
> لماذا يقال إنه صاحب دور كبير في الهلال الشيعي أو هلال الممانعة؟
- التسميات موضوع يتخطاني. هذا كلام تطلقه دول وأجهزة استخبارات. أنا التقيت الرجل وسمعت أن دوره مهم وأنه صاحب كلمة مهمة في ملفي سورية والعراق.
> ألا تعتقد أن التوتر في الإقليم يرجع في جانب منه إلى الدور الكبير الذي انتزعته إيران لنفسها في العراق وسورية ولبنان؟
- أقول دائماً للأصدقاء الأميركيين: أنتم جئتم إلى المنطقة وقلتم للإيرانيين نحن سنخلصكم من أكبر عدو لكم، وهو صدام حسين، فقالوا لكم كتر الله خيركم شكراً. وفعلتم. وحين جاؤوا لشكركم قلتم هناك ما هو أكثر، نحن سنعطيكم العراق على طبق من ذهب، فقالوا لكم أهلاً وسهلاً كتر الله خيركم.
> أفهم منك أنك تعتبر أن أميركا أهدت العراق لإيران على طبق من ذهب؟
- نعم. هذا ما أقوله للأميركيين. إيران كانت تعتقد دائماً أنها دولة مهمة جداً في المنطقة. بعد هذا التغيير الجيواستراتيجي الضخم وبعدما أصبحت صاحبة النفوذ الأول في العراق وصاحبة كلمة في النفط الإيراني والعراقي معاً، تغيرت لهجة ايران. قالوا ذلك في أيام محمود أحمدي نجاد وعلى لسان غيره. قالوا نحن لسنا دولة مهمة في المنطقة نحن الدولة المهمة في المنطقة. وهذا يعني أنهم يعتبرون أنفسهم الدولة الأهم في المنطقة. ويعتبرون بالتالي أن شؤون المنطقة لا يمكن أن تعالج بعيداً منهم.
عندما حصل الموضوع المؤسف وسحبت الدعوة التي كانت وجهت إلى إيران للمشاركة في "جنيف 2"، كان رد وزير الخارجية الإيراني معبراً عن نظرة إيران إلى نفسها ودورها. قال: سواء دعوتمونا أم لا، لا يمكن حل الموضوع في سورية من دوننا.
> وجه الأمين العام للأمم المتحدة دعوة إلى ايران ثم جمدها، ما السبب؟
- نعم، وجهت دعوة وسحبت. لا أعتقد أن بان كي مون رضخ لضغوط. شعر أن مشاركة إيران ستعني غياب المعارضة السورية وكذلك السعودية ودول أخرى. وهذا يعني أن المؤتمر لن ينعقد.
> ماذا كان رد الفعل الإيراني أيضاً؟
- زعل شديد. قالوا: نحن لم نطلب أن ندعى، لكن أن توجه دعوة وتسحب فهذه إهانة لم يكن لها داع. رجاء لا تطلبوا غداً مساعدتنا. في وقت لاحق هدأت الأمور.
> الإيرانيون يعتبرون أنفسهم الدولة الأهم في المنطقة؟
- نعم. قال أحمدي نجاد شيئاً من هذا النوع. حين كانت الحرب الداخلية في العراق على أشدها قلت لعلي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني حالياً: لا يمكن أن تتركوا العراق على هذا الحال، أنتم الدول الكبيرة في المنطقة، واقصد إيران وتركيا والسعودية، لا يمكن أن تتركوا البلد يحترق بهذه الطريقة. أجاب: معك حق، لكن يمكن أن يساعد في العراق من لديه نفوذ، أي الأميركيون ونحن.
> هل تعتقد أن "حزب الله" أنقذ دمشق من السقوط في يد المعارضات السورية؟
- أشك في أن دمشق كانت على وشك السقوط في أي وقت. في 2012 كان النظام يتعرض لضغوط عسكرية شديدة لكنني لم أشعر أن دمشق كانت مهددة بسقوط وشيك. ربما أكون مخطئاً، ولكن هذا هو اعتقادي. في الحقيقة لا أعرف إلى أي درجة كان تدخل "حزب الله" حاسماً في حماية دمشق.
> هل يمكن أن تتخذ إيران اليوم قراراً بمنع سقوط نوري المالكي كما كانت اتخذت قرارا بمنع سقوط الأسد؟
- مرة أخرى أقول إن الأزمة مختلفة. لا أعرف درجة ارتباطهم بالمالكي شخصياً وإن كان واضحاً أن لديهم ارتباطاً بكل التنظيمات والقوى الشيعية البارزة.
> على ذكر اتفاق الطائف، كثيرون ينسبون إلى أنفسهم أدواراً حاسمة في الطائف. مَن أصحاب الأدوار الكبرى فيه؟
- طبعاً يجب أولاً تسجيل دور النواب اللبنانيين، وفي مقدمهم رئيس مجلس النواب آنذاك الرئيس حسين الحسيني. وثانياً هناك المفاوضات مع سورية، وهذه كانت أساسية. الحقيقة أن الشخص الذي عمل بصورة مستميتة من أجل ضمان التوصل إلى اتفاق هو الأمير سعود الفيصل، الذي قام بعدة رحلات إلى دمشق، فضلاً عن دوره مع اللبنانيين. ثم إن الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله كان شديد الاهتمام بلبنان ويعرفه معرفة جيدة. طبعا كان للسوريين دور لأنه كان لا بد من إقناعهم، وقواتهم كانت منتشرة في لبنان ولهم تأثير واضح. وكان للرئيس رفيق الحريري رحمه الله دور مع النواب اللبنانيين وكذلك مع السعودية وسورية. الأمر المؤسف هو أننا لم نستطع إقناع الجنرال ميشال عون أن يأتي إلى جدة لحضور احتفال التوقيع. كنت أخطط للمجيء من بيروت مع الرئيس سليم الحص والجنرال عون، وأن يتولى الجنرال تسليم القصر شخصياً للرئيس الجديد المنتخب. للأسف لم يحصل ذلك. لم أعرض عليه حصة معينة، احتراماً لدور اللبنانيين في التفاهم بينهم. الحقيقة أن الدور الأكبر كان للأمير سعود.
> هل كنت تتمنى حياة أخرى غير حياة الوساطات والنكد، بمعنى أن تكون رئيس الجزائر أو في موقع آخر؟
- أنا لا أفكر بهذه الطريقة. ولم أخطط كي أكون مبعوثاً أو وسيطاً. عملت في لبنان وكان الشغل حقيقياً وناجحاً نسبياً. وعملت في العالم العربي وكانت لي علاقات فيه. لم أدرس فن الوساطة ولم أعدّ نفسي لهذا الدور، لكنني سعيد بما أقوم به.
> هل تنزعج حين يقال إنك فشلت في سورية؟
- لا أبداً. صحيح أنا فشلت في سورية، والأمر مؤسف. طبعاً القصة ليست شخصية. في النهاية سورية تدفع الثمن. فهل أنا الذي فشلت شخصياً أم أن العالم فشل في إنقاذ سورية؟