الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الإدارة الذاتيّة والقمع الذاتيّ

الإدارة الذاتيّة والقمع الذاتيّ

05.06.2014
علي جازو



الحياة
الاربعاء 4/6/2014
يذكّرُ مصطلحُ "الإدارة الذاتية" بتعبير شيوعيّ سوفياتيّ راج سوريّاً سنوات السبعينات والثمانينات هو "النقد والنقد الذاتي". ويبدو أن كرداً سوريين أشاوس، من مُرجعي الزمان إلى صوابه، أعادوا إلى المصطلح وترجمته المدرسيّة ألقه القاحل؛ ليجاورا الخيبة مع الكذب وجهاً لوجه، فلا الإدارة إدارة ولا الذات ذاتيّة إلا بكونهما لفظين يلفظان من لهم كُوّنَت الإدارة قمعاً.
لقد نجا غيرُ قليل من أكراد سورية، على نحو نسبيّ وملتبس، من طاحونة نظام الأسد. طوال أكثر من ثلاث سنوات، كانت المناطق ذات الغالبية الكردية أكثر أماناً مقارنة بسواها من مناطق سورية، واستقبلت عفرين وكوباني وعامودا وقامشلو نازحي حمص ودير الزور وحلب. تعرّف قاطنو الداخل على سكان الأطراف الكردية السورية، وتمازجت لغات ولهجات كانت من قبل تتبادل مجهولية فاصلة، يوصلها الأسدُ بعضها ببعض عبر مفارز مخابراته محولاً المجهولية إلى عرفٍ جليديّ والشعور بالفصل إلى عالم غيبي يؤوله قارئ واحدٌ أحدٌ هو بشار الأسد الذي اختصر اضطهاد الكرد السوريين في مشكلة تقنية، قبل أن يتصدق على عشرات الألوف منهم بجنسية "الجمهورية العربية السورية"! وفي هذا ربما تشبه "كردستان سورية" الموعودة، في مكان ما، اللاذقية وطرطوس حيث يحكم النظام السيطرة ويوفر "الأمن والأمان" على طريقته الثوابية السلطانية!
في هذا السياق، لاحظ أكثر من مهتمّ أن الأكراد السوريين هم الأكثر استفادة من مآسي الثورة السورية، وهم في الآن الأقل تضرراً من آثارها الكارثية. غير أن مراجعة متأنية لوصف كهذا تجعلنا نحمله على محمل الشكّ، إنْ لم نقل إنّ الأكراد السوريين يعانون ظروف قمعٍ وحصارٍ مزدوجة، على يد "رفاقهم" الكرد هذه المرة.
ثمة سوء حال كردية سورية، لا شأن لها بمفاعيل البعث والأمن السوريين. لم يحدث من قبل أن تشتتوا وتنازعوا وتبادلوا العداء على النحو الذي شهدناه طوال ثلاث سنوات. وليس غريباً ربما أن تكون الثورة السورية إظهاراً لهذا الضعف لا صنعاً له. لقد كان أداءُ الأحزاب الكردية السورية هو الأداء الأسوأ، ومن وضعية كهذه يغدو وسْمُهم بالاستفادة غير دقيق. الحقيقة المؤسفة أن السياسة وتنظيم الشأن العام في ظروف غير عادية قد انحصرت وتشوهت لدى النخبة السياسية الكردية في سورية عبر خلافات بينية كردية - كردية، انخفض مستوى رداءتها إلى حدّ عقد اجتماعات مطولة لتنظيم توزيع الخبز على بلدة صغيرة، فيما أطنان من الطحين كانت تنتظر الإفراج عنها من مستودعات الأحزاب الكردية، أو توفير وقود سخيّ تقع ينابيعه تحت أنوف زعماء هذه الأحزاب.
خالف شعارُ الشارع واقعَ الحال، وبلغ الشعور بالإحباط الشعبي ذرى عدميّة ملتهبة، مثلتها عبارة أطلقها شبّان من عامودا صيف 2012: "بسقوط النظام ستسقط الأحزاب الكردية"... مئات الأعلام الكردية المرفرفة جنباً إلى جنب علم الثورة السورية، لم تستطع أخفاء الفشل. من راهن على حيوية الدور الكردي وقدرته على قلب الموازين لمصلحة الثورة، كان كمن يكلف طفلاً بنقل جبل. والحال أن المراهنة قد أظهرت أن الطفل ليس سوى طفل.
يعود جزءٌ من سوء حال الكرد السوريين إلى سلوك المعارضة السورية، وتأخيرها البتّ في قضايا تجاوزتها قوة الثورة في الشارع، وما الخلاف القديم الجديد، مثلاً، على تسمية "الجمهورية السورية" بدل "الجمهورية العربية السورية"، والأخيرة مسمّى بعثي حصريّ، سوى رأس الجليد.
لو تسنى لعباقرة المعارضة السورية أن خرجوا بمناخ يوفر الثقة للكرد ويستجيب لرفع المظلومية الكردية، ومنها موضوع اسم سورية كدولة، وهو شأن ليس قليل القيمة، لكان مجتمع الثورة السورية في حال أفضل بالتأكيد.
لكننا نخالف الوقائع إنْ تغافلنا عن حضور حزب ال PYD. لقد جرّ سلوك هذا الحزب السلاح إلى المناطق الكردية، وهو أول من نصب الحواجز العسكرية في وقت لم يكن هناك أي داع لها. ومن شاهد صورة عبد الله أوجلان الضخمة، وهي تمحو صورة الراعي الأول الأسد الأب عن مبنى الأمن العسكري في عامودا (وكان من قبل دائرة لخدمة البريد) لا يمكنه إلا أن يعقد مقارنة بين رمزين "علمانيين" مخيفين، وخروج أنصار ال PYD رافعين شعار: "شرف القائد من شرف الشعب" ليس سوى ترجمة كردية لبعثيّة سوريّة. باسم الإدارة الذاتية يقتل الكردُ الكردَ، وهكذا يتغير الفاعل ويبقى الفعل، ومن يحمل سلاحاً يصنعْ قبراً قومياً يدعى "الإدارة الذاتية"، وتلك بيئة تناسب الخدمَ المرئيين وأسيادهم المحتجبين سواءٌ بسواء.
* كاتب سوري