الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الإصلاح والعمارة والمصالحة الوطنية في سورية

الإصلاح والعمارة والمصالحة الوطنية في سورية

15.12.2015
أنس صوفان



الحياة
الاثنين 14/12/2015
في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 1839 أعلن السلطان عبدالمجيد بدء مرحلة ما يعرف بالتنظيمات أو الإصلاحات العثمانية قاصداً تحقيق هدفين مترابطين: الأول، معالجة حالة الترهل والانحطاط في مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش الذي لم يتوقف عن الهزيمة سواء أمام الحركات الوطنية الانفصالية كحملة محمد علي باشا على سورية، 1831-1841، أو الاستعمارية الأوروبية المباشرة كاحتلال الجزائر من القوات الفرنسية بدءاً من 1830. والهدف الثاني، خلق حداثة عثمانية محلية تجابه تلك الأوروبية الغازية وترتكز على تعميق ترابط ولايات السلطنة بعضها مع بعض من خلال المناداة بهوية "عثمانية" تتجاوز وحدانية المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع فتؤلف بين شعوب وإثنيات وطوائف الولايات المختلفة حول مشروع وطني وحضاري متكامل.
لم تنجح الإصلاحات في معالجة التدهور المتسارع للدولة ولا في منع إعادة رسم خارطتها ولا الحفاظ على لغتها أو هويتها. ويعود ذلك الى أسباب عدة لعل أهمها افتقارها إلى فلسفة ومرجعيات محلية متكاملة ما أدى إلى اعتمادها على نماذج أوروبية أعيدت صياغتها غالباً بطرق سطحية مبتورة عن الواقع ومجردة من معانيها الإنسانية الحقيقية. أضف الى ذلك وقوع انقلاب جمعية الاتحاد والترقي عام 1908 وما تبعه من سياسات تتريك سعت لطمس هويات المجتمعات المحلية، العربية مثلاً، فأججت نضال حركاتها القومية والتحررية.
تكتسب دراسة وتحليل استراتيجيات الإصلاحات العثمانية وانعكاساتها المباشرة أو الطويلة الأمد أهمية تأريخيه وأكاديمية كبرى تجب الاستفادة منها. فسعي العالم العربي اليوم للتغيير يواجه ظروفاً وتوازنات تاريخية وحضارية معقدة يمكن مقارنة خطوطها العريضة بحال الولايات العثمانية العربية خلال التنظيمات. ومع الأسف، أفضى الجهل ببعض هذه الخطوط الى الغرق في بحور الدماء ومستنقعات التخوين ولجج التعصب. بالطبع لا تسمح هذه الأسطر القليلة الحديث عن كل ذلك لكن يمكنها تناول تبعات هذه الإصلاحات على بعض مظاهر مجتمعات الولايات العربية كتحولات محيطها العمراني والمعماري.
ففي إطار إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وبهدف تجسيد حالة انقطاع تاريخي واضحة، حرص الحكم العثماني على إنشاء مراكز إدارية واقتصادية خارج المدن القديمة متبعاً منهجاً عمرانياً مناقضاً لما عرفته هذه المدن خلال قرون. يرسم توسع مدينة دمشق القديمة صورة جلية عن هذا المنهج ويعبّر عن تغيّر مرجعياته خلال حوالي نصف قرن. فقد ميّز طراز القوناق المستوحى من منازل شواطئ العاصمة إسطنبول عمارة الجيل الأول من الأبنية العامة المشيدة في ساحة المرجة في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر لكن لم يبق من هذه الأبنية شيء اليوم. لم يطور هذا الطراز بأياد محلية بل من خلال المهندسين الأوروبيين المعينين في بلديات الولايات ما أدى الى تحوله مع نهاية القرن التاسع عشر الى شكل مبسط من الطرز النيوكلاسيكية الأوروبية متجسّداً، مثلاً، ببناء السرايا الجديدة (وزارة الداخلية الحالية) العائد الى 1900-1904. إلا أنه مع بدايات القرن العشرين، أدرك الباب العالي حالة الغربنة الواضحة التي أضحت تطغى على الكثير من الأبنية العامة التي كان من المفترض أن تعكس حداثة محلية وليست أوروبية.
من هنا، ظهر طراز بناء جديد ارتكز على مبادئ معمارية أوروبية من جهة أولى، وعلى مفردات من الفن الإسلامي التقليدي المنظور اليه من قبل السلطات الرسمية كفن عثماني، من جهة ثانية. ميّز هذا الطراز بناء وحيداً في دمشق يعود للفترة العثمانية هو محطة الخط الحديدي الحجازي المنجزة عام 1917.
طُرد العثمانيون من سورية عام 1918 وأقيمت المملكة العربية الكبرى 1918-1920 التي ما لبثت هي الأخرى أن تحولت سراباً مع احتلال قوات الانتداب الفرنسي والبريطاني لسورية الطبيعية وتجزئتها وفق معاهدة سايكس- بيكو المعروفة. ورفض جزء كبير من السوريين من ألوان وانتماءات مختلفة الانتداب الفرنسي مناديين بالاستقلال التام ومؤكدين إما الهوية الدينية للدولة والمجتمع أو الهوية العلمانية العربية أو السورية أو غيرهما. وسعى كل فريق الى إثبات صوابية نظريته في التطور والتحرر بطرق شتى، لا سيما تطوير ثقافة مجتمعية داعمة لأيديولوجيته وجدت في الأدب والصحافة منبراً دعوياً فعّالاً وفي العمارة والتراث المحلي رافداً خصباً من روافد بناء الهوية المنشودة للوطن.
يمكن النظر إلى تنوع الطرز المعمارية العائدة الى فترة الانتداب وحتى الستينات كانعكاس لتنوع ثقافات وأيديولوجيات الفرق المشار اليها. فالبناء ليس حيّزاً لممارسة وظيفة محددة وحسب، بل هو أيضاً وسيلة للتذكير بإنجاز انساني معين وطريقة للتعبير عن هوية ثقافية محددة تفهم حسب قناعات الناظر لهذا البناء. من هنا شكّل الطراز المعماري القائم على جمع مرجعيات معمارية غربية وإسلامية، طراز محطة الحجاز وإدارة مياه عين الفيجة والقصر العدلي القديم ومجلس الشعب ووزارة الاشغال العامة وغيرها، نموذجاً لتوافق أو تعايش أيديولوجيات الكثير من القوى السياسية والاجتماعية السورية. فالقوى الإسلامية المحافظة وجدت في استعمال زخارف وتفاصيل من الفن الإسلامي تعبيراً عن هويتها الإسلامية المجددة واستمراراً لماضيها الزاهر. أما مناصرو الغربنة فوجدوا في المبادئ الأوروبية في المعالجة المعمارية والعمرانية لأبنية هذا الطراز تجسيداً لحداثة غربية يؤمنون بضرورتها في النهوض العربي المأمول. فلا يستغرب مثلاً موقف صحيفة "المشرق" الصادرة عن جامعة الآباء اليسوعيين وهي تتغنى بجمال عمارة أحد أبنية هذا الطراز (برج الساعة في بيروت) على اعتبارها "عربية مشرقية"، ولا موقف القوميين العرب أيضاً، بلسان محمد كرد علي، وهو يشير الى محطة الحجاز كبناء ذي طراز "عربي حديث". إلى جانب ذلك، يدعم اختلاف مذاهب المعماريين الذين تبنّوا هذا الطراز فرضية ما يمثله من إجماع تيارات وطنية متخالفة على تبني قيم ثقافية جامعة.
فتصاميم رواده كجوزيف افتيموس من بيروت، وعبدالرزاق ملص من دمشق، ووجيه الجابري من حلب، وفرناندو داراندا المهندس الاسباني السوري وعشرات غيرهم، عبرت الى حد ما عن توافق رؤيتهم للحداثة وتطوير الدولة والمجتمع.
تتعدد الأسماء والتأويلات المتناولة لهذا الطراز، لكن الجوهر والمعنى واحد. عمارة محلية غربية، أحيت تراثاً إسلامياً، عثمانياً، عربياً، مشرقياً أو سورياً مثّل هوية كثيرين من السوريين.
أتساهم عمارة ما بعد الأزمة في لأم الجراح ونسيان المآسي وترسيخ مصالحة السوريين حول تاريخ ومستقبل مشترك يجمعهم إن شاؤوا أو لم يفعلوا؟ هل المصالحة الحقيقية في مجتمع ما هي أكثر من التوافق على تفاصيل مشروع حضاري انساني مشترك يسمح بالحياة وبالعيش الكريم أولاً وممارسة أي من العبادات والشعائر تالياً؟