الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الاتفاق الأمريكي ـ التركي وانتصار استراتيجية أوباما… تأطير القوى الإقليمية وحصار الحرب السورية

الاتفاق الأمريكي ـ التركي وانتصار استراتيجية أوباما… تأطير القوى الإقليمية وحصار الحرب السورية

08.08.2015
صادق أبو حامد



القدس العربي
الخميس 6-8-2015
لم تدم الفرحة التي قابل بها الكثير من السوريين الإعلان عن اتفاق تركي ـ أمريكي، إذ سرعان ما انكشفت محدوديته، وخلوه من أي التزامات أمريكية، روّج لها الأتراك، تخص المأساة السورية.
إلا أن المعاني التي يحملها الاتفاق ضمن المشهد الإقليمي تتجاوز الشمال السوري، وربما تحدد مصير الإقليم في السنوات المقبلة، فما تم التوافق عليه يؤكد من جهة أن ما يعني واشنطن في سوريا هو فقط محاربة "داعش"، ويشير من جهة أخرى إلى أن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة عموماً، وفي سوريا على وجه الخصوص، تشارف على الاكتمال لجهة تحييد الأزمة السورية، وإعادة ترتيب المنطقة لمرحلة ما بعد "الربيع العربي".
لكلٍّ حصته من الحرب
ولأمريكا ضبط النيران
عندما وقع الانفجار المباغت لثورات "الربيع العربي"، لم تكن لدى الإدارة الأمريكية أي استراتيجيات واضحة للتعامل مع هذا المنعطف التاريخي المفاجئ، لذلك اقتصرت في متابعتها على بعض الدعوات الشعاراتية العامة للديمقراطية وحرية التعبير، ولم تكن لدى باراك أوباما، الذي فاز في الانتخابات بخطابات معادية للحرب، ومهتمة بتضميد الجراح التي خلفتها الغوغائية العسكرية لسلفه جورج بوش الابن، ومعنية بالتوجه إلى الداخل لدعم وتنشيط الاقتصاد الأمريكي، لم تكن لدى هذا الرئيس رغبة باعتماد أسلوب سلفه العسكري، وكانت ليبيا الاستثناء الوحيد الذي وقع بتوافق، وربما إلحاح، أوروبي ـ عربي، لكن ما أن تم إسقاط القذافي، حتى سارعت واشنطن إلى الانسحاب من المشهد العسكري، في إطار اختيار استراتيجي بالابتعاد عن الانفجارات، ومن ثم الفوضى، التي خلقها الصراع المرير بين زخم ثوري خارج الأطر الحزبية والتنظيرية، وبين استبداد متجذر عسكرياً وأمنياً واقتصادياً. التراجع الكبير للحضور الأمريكي، وسعي إدارة أوباما الحثيث لتجنب أي انخراط عسكري جديد، خلّف فراغاً قلقاً في الإقليم. قلق استطاعت الإدارة الأمريكية تنظيمه، بدون أن تعالجه، من خلال سلسلة من التفاهمات المنفصلة مع القوى الإقليمية، وهو ما ضمن لواشنطن أن تحول دون انفجار صراعات مباشرة بين هذه القوى، جاعلة همها ضبط شرر الحرائق بدون إطفائها، فتركت للقوى الإقليمية أن تحمي نفسها من دومينو الفوضى من خلال حروب تشغلها بدون أن تكسر استقرارها.
في هذا السياق يمكن إدراج الاتفاق الأمريكي ـ التركي، وقبله الاتفاق الأمريكي ـ الإيراني، وكذلك التفاهمات الأمريكية السعودية، إضافة إلى التفاهم مع مصر، الذي بدأت بموجبه واشنطن استعادة علاقاتها السابقة مع القاهرة، بدون أن نغفل بالطبع التنسيق والتفاهم المستمر بين واشنطن وتل أبيب. ويبدو أن أوباما استطاع أن يفرز المشهد المعقد والمتشابك للصراعات في الإقليم، موزعاً حصة من الحرب والاستنزاف على كل طرف، بما يضمن إشغاله في المدى القريب والمتوسط.
وفق هذه الرؤية، يبدو الاتفاق الأمريكي ـ التركي بمثابة ختام لسلسلة التفاهمات تلك. اتفاق يرضى بموجبه أردوغان، الذي يسعى إلى الانتصار الانتخابي، وجمع أكبر قدر من السلطات في يده، بأن يصطف خلف الولايات المتحدة في حربها الهادئة ضد "داعش"، فيما تُمنح أنقرة حصتها من الحرب ضد مسلحي وناشطي حزب العمال الكردستاني في تركيا وسوريا والعراق معاً. وعلى المنوال ذاته نجد إيران الباحثة عن استعادة قوامها الاقتصادي بعد الاتفاق النووي، مشغولة بالعراق حصتها الأثمن والأخطر، الذي يعيش حرباً مستمرة، بينما تكمل دعمها الاقتصادي والعسكري والسياسي لنظام الأسد، للحيلولة دون انقلاب سوريا عليها، بعد أن أدركت استحالة استعادتها إلى الموقع القديم. فيما تغرق السعودية، وبعض دول الخليج من ورائها، في مستنقع الحرب اليمنية. الحرب التي ثبت منذ يومها الأول أنها صعبة ومعقدة، لكنها أظهرت أيضاً وجود اعتراف أمريكي، بل إيراني أيضاً، بأن اليمن منطقة نفوذ سعودية، ولعل الأصح أن نقول إنها حصة السعودية من حروب المنطقة. وهي حصة مكلفة ومنهِكة يصعب معها توقع تحرك سعودي "حازم" في الملف السوري. أما مصر المنهكة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، فهي مشغولة بحربين، واحدة في شرقها (سيناء)، وأخرى في غربها (ليبيا)، وتبدو عاجزة عن لعب أي دور محوري في الإقليم.
إسرائيل أيضاً لا تبدو خارج المعادلة الأمريكية الجديدة، صحيح أن الضمانات الأمريكية لأمن وسلامة إسرائيل ثابتة، إلا أن التغييرات العنيفة التي تحدث حولها، والمخاطر التي تعيشها حدودها، أمام فوضى السلاح التي تحيط بها، تتركها في حالة مستمرة من التأهب، وتحول دون قدرتها على التحرك بأي اتجاه سوى المراوحة في المكان، واجترار الخطابات القديمة. فيما يمثل الاتفاق النووي مع إيران المزيد من التقييد لحضورها في المنطقة، خاصة أن خطر أذرع إيران لم ينته بعد، رغم غرق حزب الله في دماء السوريين، في الوقت الذي سُحبت منها الورقة، التي طالما هددت بها، بضرب الصناعة النووية الإيرانية، فالاتفاق العالمي، بزخمه ورعايته من قبل الدول الست الكبرى، بل تسابق هذه الدول على نيل نصيبها من الكعكة، أغلق هذا الاحتمال، في المدى المنظور على الأقل.
سوريا حلبة حرب مسوّرة بالمصدّات
منذ ما قبل الاتفاق النووي مع إيران، ظهرت تصريحات أمريكية واضحة تتحدث عن الخشية من الانهيار المفاجئ لنظام الأسد، وعدم الرغبة بسيناريو كهذا، أو الاستعداد له، فهو يهدد بإدخال المنطقة في المزيد من الفوضى المدمرة، وقد يفسح المجال لامتداد سيطرة "داعش" أو "جبهة النصرة" على مقاليد الحكم في سوريا. لم يُعر الأمريكيون أهمية طبعاً لدورهم في وصول سوريا إلى هذا المأزق، إذ جلّ ما يعني واشنطن أن سياستها الثابتة في حصر الأزمة السورية وتحييدها عن بقية الملفات، توشك أن تكمل فصولها. فبعد أن ركزت جهودها في منع أي جهة مسلحة داخل سورية من امتلاك التفوق النوعي، ما يعني منع إمكانية الحسم لصالح أي طرف، تكاد تنجح اليوم في حصر الأزمة في حدود داخل الحدود السورية، من خلال بناء أشرطة حدودية عسكرية، وربما مدنية لاستيعاب أزمة اللاجئين التي باتت تقلق دول الجوار وأوروبا، ما يقي هذه الدول من الانفجار السوري، ويمنع "داعش" من التمدد خارج عمق الجغرافيا السورية ـ العراقية.
تركت الولايات المتحدة إذن لتركيا أن تجهز مناطق "آمنة" في الشمال السوري، تطرد منها "داعش"، وتحد من طموحات حزب العمال الكردستان، بالاستناد إلى الفصائل السورية المسلحة الموالية لتركيا. وتركت للأردن وإسرائيل أن ينظما الجنوب السوري بهدوء، وليس من المستبعد أن يتم التوافق على منطقة "آمنة" تتحكم بها الأردن، بتنسيق مباشر مع إسرائيل والولايات المتحدة، منطقة هي بالأحرى شريط حدودي لدرء الخطر، وكما في الجبهات الأخرى سيكون العبء الأثقل عسكرياً على المعارضة السورية المرتبطة والمرهونة بالدعم الأردني. فيما تُرك لحزب الله أن يمهد بدوره شريطه الحدودي مع سوريا، لكنه مازال عاجزاً عن احتلال هذا الشريط داخل الأراضي السورية، ومازالت خساراته كبيرة ومباشرة، نظراً لانشغال بقايا جيش النظام بمناطق أشد حساسية بالنسبة إليه في دمشق والساحل، وليس من المتوقع أن يستتب للحزب الأمر في "الشريط الحدودي"، لكن انشغاله المستمر في هذه الحرب المفتوحة، يجعل منه طرفاً مفيداً في المعادلة الأمريكية، ويسبب له المزيد من الضعف والتآكل، وهو ما يرضي إسرائيل بدون شك.
بهذا الشكل يمكن القول إن إدارة باراك أوباما تمكنت من توظيف جميع القوى الإقليمية في حربها ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" وأشباهه، بأقل التكاليف، وبدون أن تترك لأي جهة إمكانية استثمار هذه الحرب لصالح صعودها النوعي على حساب القوى الأخرى. ولعل النظر إلى خريطة المنطقة كفيل بشرح المشهد، حيث سُحب من العراق وسوريا أي صفات سيادية، أو قدرات فاعلة، وتحولا إلى ساحة صراع مع تنظيم "الدولة الإسلامية" بأدوات إيرانية في الشرق والغرب، وأدوات تركية في الشمال، وأدوات أردنية خليجية في الجنوب، بينما تحولت جميع الفصائل المسلحة داخل هذه الجغرافيا إلى توابع، بما في ذلك البيشمركة المدعومة غربياً، ووحدات حماية الشعب الكردية، التي تبحث اليوم عن ظهر تستند إليه بعد تخلي واشنطن عنها.
هذه المعمعة السورية تجد فيها الولايات المتحدة فرصة لتطبيق "حل سياسي" يعتمد مبدأ المحاصصة بين النظام والمعارضات السورية. فالدمار الرهيب الذي سحق سوريا، وتوازنات القوى المسلحة داخلها التي تقارب الدرجة صفر، جعل عودة هذا البلد إلى استقراره، تحت نفوذ قوة إقليمية واحدة، أمراً مستحيلاً في المدى القريب والمتوسط. وبالتالي لم يعد هناك خطر، بالنسبة إلى أمريكا وإسرائيل أولاً، وبالنسبة إلى بقية القوى الإقليمية ثانياً، بأن تصحو دمشق على نظام حكم جديد قوي ومتماسك وحليف لأحد الأطراف الفاعلة، بقول آخر: لم يعد هناك خطر من دولة سورية جديدة تقلب التوازنات بين الخصوم الإقليميين، وهو ما يرضي بلا شك هؤلاء الخصوم، بعد اقتناعهم أن أياً منهم لن يستطيع الانتصار بمفرده.
المحاصصة التي قد تتوافق عليها القوى الإقليمية بضغط ومواكبة من قبل القوى الدولية، التي قد تبلغ نمطاً من أنماط التقسيم، لن تنهي بأي حال الحرب السورية، ناهيك عن افتقادها لأبسط مفردات العدالة، بيد أن حلاً يضمن رحيل الأسد على ما يحمله من رمزية، ويتوقف فيه القصف بالبراميل والصواريخ، سيحدّ من عمليات اللجوء، وربما يدفع بالكثير من اللاجئين في "المناطق الآمنة" ودول الجوار إلى العودة، وهو ما قد يسمح لسوريا باستعادة شعبها، واستعادة هذا الشعب لدوره، بعد أن أجبره صراع البقاء على الرحيل أو الاحتماء بالحراب الشاردة.
٭ كاتب فلسطيني