الرئيسة \  تقارير  \  الاحتواء بعد الحرب الباردة

الاحتواء بعد الحرب الباردة

01.11.2021
الاندبندنت عربية


الاندبندنت عربي
الاحد 31/10/2021
في 15 ديسمبر (كانون الأول) 1991، وصل وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر إلى موسكو وسط فوضى سياسية للقاء الزعيم الروسي بوريس يلتسين، الذي كان مشغولاً في ذلك الوقت بانتزاع السلطة من خصمه، الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. كان يلتسين قد أدلى أخيراً ببيان صادم بأنه وزعماء بيلاروس وأوكرانيا يفككون الاتحاد السوفياتي، بدافع جعل غورباتشوف عاجزاً عن طريق تحويله من رئيس دولة ضخمة إلى رئيس لا شيء.
على المدى القصير، كانت خطوة رائعة، وفي غضون عشرة أيام، نجحت تماماً. إذ استقال غورباتشوف وانهار الاتحاد السوفياتي. في المقابل، كان من الصعب فهم العواقب على المدى الطويل.
حتى قبل مناورة يلتسين، بدأ بيكر يقلق بشأن ما إذا كانت رغبة بعض الجمهوريات السوفياتية في الاستقلال قد تؤدي إلى إراقة الدماء. في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، سأل أحد مستشاري غورباتشوف، ألكسندر ياكوفليف، عما إذا كان انفصال أوكرانيا سيؤدي إلى مقاومة روسية عنيفة. كان ياكوفليف متشككاً وأجاب أن هناك 12 مليون روسي في أوكرانيا، “والعديد منهم في زيجات مختلطة”، إذاً “أي نوع من الحرب قد يحدث”؟ وأجاب بيكر ببساطة: “حرب عادية”.
إذاً، مع قيام يلتسين برفع الرهان عن طريق الدعوة إلى التدمير الكامل للاتحاد السوفياتي، نشأ لدى بيكر خوف جديد. ماذا سيحدث للترسانة النووية السوفياتية الضخمة بعد انهيار القيادة والسيطرة المركزية؟ كما نصح رئيسَه، جورج دبليو بوش، فإن الإمبراطورية المتفككة التي تحتوي على “30 ألف سلاح نووي تشكل خطراً كبيراً على الشعب الأميركي العالِم بذلك والذي سيحمّلنا المسؤولية إذا لم نرد”.
بالتالي، كان هدف رحلة بيكر في ديسمبر 1991 هو التأكد من الجهة التي ستحتفظ بصلاحية التصريح بإطلاق سلاح نووي وكيف يمكن تنفيذ هذا الأمر المصيري بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. بعد وقت قصير من وصوله، دخل مباشرة في صلب الموضوع. ولكن هل سيخبره يلتسين؟
اللافت أن الرئيس الروسي قام بذلك فعلاً. كان انفتاح يلتسين على بيكر في جزء منه، بمثابة مناورة لكسب مساعدة الولايات المتحدة في صراعه مع غورباتشوف، وفي جزء آخر، محاولة لتأمين المساعدة المالية. لكنّه شكّل أيضاً إشارة تدلّ على رغبته في إنشاء بداية جديدة في علاقة موسكو مع الغرب، علاقة تتسم بالانفتاح والثقة. وسرعان ما بدأ يلتسين وبيكر بالعمل جنباً إلى جنب لضمان خروج دولة وريثة نووية واحدة فحسب في نهاية المطاف من الانهيار السوفياتي، وهي روسيا.
واستمرّ هذا التعاون على الرغم من خسارة بوش في الانتخابات عام 1992. وواصل يلتسين جهوده مع الرئيس بيل كلينتون، ووزيري الدفاع الأميركيين ليه آسبن وويليام بيري، وستروب تالبوت، كبير مستشاري كلينتون لروسيا، من بين آخرين، لضمان تدمير الأسلحة الذرية السوفياتية السابقة في بيلاروس وكازاخستان وقبل كل شيء أوكرانيا، أو نقلها إلى الأراضي الروسية. خلال قمة عقدت في عام 1997، طرح يلتسين سؤالاً على كلينتون حول ما إذا كان بإمكانهم التوقف عن استخدام المشغلات النووية بشكل متواصل: “ماذا لو تخلينا عن الاضطرار إلى وضع إصبعنا بجوار الزر طوال الوقت”؟ أجاب كلينتون، “إذا فعلنا الصواب في السنوات الأربع المقبلة، فربما لن نضطر إلى التفكير كثيراً في هذه المشكلة”.
فهم التدهور في العلاقات الأميركية- الروسية قد يساعد الولايات المتحدة في إدارة المنافسة الاستراتيجية الطويلة الأجل.
ولكن بحلول نهاية التسعينيات، تلاشت تلك الثقة إلى حد كبير. إذ إنّ فلاديمير بوتين، خليفة يلتسين المختار بعناية، لم يكشف عن الكثير في محادثات الـ 1999 التي أجريت على مضض مع كلينتون وتالبوت. بدلاً من مشاركة بروتوكولات الإطلاق الروسية، ركّز بوتين بمهارة على حاجته الملموسة إلى خط كرملين أكثر تشدداً من خلال وصف العواقب الوخيمة الناتجة من تراجع القوة الروسية، مشيراً إلى أنّ الإرهابيين في المناطق السوفياتية السابقة، يلعبون الآن كرة القدم برؤوس الرهائن المقطوعة.
وكما قال بوتين لاحقاً، “من خلال إطلاق استعراض السيادة”، وهو مصطلح يستخدمه للإشارة إلى حركات استقلال الجمهوريات السوفياتية في 1990-1991، “ساعدت روسيا بحد ذاتها في انهيار الاتحاد السوفياتي”، وهي النتيجة التي فتحت الباب أمام مثل هذه الفوضى المروّعة. في رأيه، كان على موسكو أن تعمل بجهد وحزم، داخل الاتحاد وخارجه، بدلاً من الوقوف جانباً بينما غادرت دول الكتلة السوفياتية السابقة للانضمام إلى الغرب. وقال في هذا السياق: “كنا سنتجنب مشكلات كثيرة لو لم يقم السوفيات بمثل هذا الخروج المتسرع من أوروبا الشرقية”.
وبمجرد وصول بوتين إلى السلطة، بدأ يتراجع عن إضفاء الطابع الديمقراطي على حقبة يلتسين وعن المشاريع التعاونية مع واشنطن. وعلى الرغم من وجود حلقات ملحوظة تعيد إحياء روح أوائل التسعينيات، مثل التعبير عن التعاطف بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية والاتفاق النووي في عام 2010، كان خط الاتجاه الأساسي سلبياً. ووصلت العلاقة إلى مستويات منخفضة جديدة مخيفة خلال نزاع روسيا مع جورجيا عام 2008 وغزوها لأوكرانيا عام 2014، وغرقت أكثر منذ عام 2016، بسبب الكشف عن الهجمات الإلكترونية الروسية على الشركات والمؤسسات والانتخابات الأميركية.
لماذا تدهورت العلاقات بين واشنطن وموسكو بشدة؟ نادراً ما يكون التاريخ أحادي السبب، في الواقع، كان الانحلال نتاجاً تراكمياً للسياسات والأنظمة الأميركية والروسية بمرور الوقت. لكن من الصعب الهروب من حقيقة أن سياسة أميركية معيّنة، وهي الطريقة التي وسعت بها واشنطن حلف الناتو، زادت الأعباء على الديمقراطية الروسية الفتية الهشة عندما كانت في أمس الحاجة إلى الأصدقاء.
والجدير بالذكر أنّ التوسع بحد ذاته كان استجابة مبرَرة للجغرافيا السياسية في التسعينيات، علماً أنّ الناتو خضع للتوسيع عدة مرات. وبالنظر إلى أن دول الكتلة السوفياتية السابقة كانت تطالب الآن بالانضمام إلى الحلف، لم يكن السماح لها بالدخول أمراً غير مسبوق أو غير معقول.
لم يكن خطأ واشنطن في توسيع التحالف بل في القيام بذلك بطريقة تزيد من تفاقم حالة موسكو.
في المقابل، ما اعتُبر خطوة غير حكيمة هو توسيع الحلف بطريقة لا تأخذ في الحسبان الواقع الجيوسياسي. فكلما نقل حلف الناتو بنيته التحتية، المؤلفة من القواعد الأجنبية، والقوات، وقبل كل شيء الأسلحة النووية، إلى مكان أقرب إلى موسكو، زادت التكلفة السياسية للعلاقة التعاونية الجديدة مع روسيا. وقد فهم بعض صانعي السياسة الأميركيين هذه المشكلة في ذلك الوقت واقترحوا التوسع في مراحل طارئة لتقليل الضرر. في الواقع، كان من الممكن أن يؤدي هذا النمط البديل التوسيعي الواعد إلى تجنّب رسم خط جديد عبر أوروبا، لكنه واجه معارضة قوية داخل واشنطن.
وعوضاً عن ذلك، انتصر دعاة التوسع وفق طريقة “نهج واحد يناسب الجميع”. لم يكن خطأ واشنطن توسيع الحلف بل القيام بذلك بطريقة تزيد من تفاقم حالة موسكو وتقوّي الرجعيين الروس. في عام 2014، برر بوتين استيلاءه على شبه جزيرة القرم بأنه رد ضروري على “نشر الناتو للبنية التحتية العسكرية على حدودنا”.
تجدر الإشارة إلى أنّ الحروب الباردة ليست شؤوناً قصيرة العمر، لذا فإن ذوبان الجليد ثمين. ولكن لم يستغل أي من البلدين ذوبان الجليد بأفضل طريقة في التسعينيات. حاضراً، بينما تتجادل الولايات المتحدة وروسيا حول العقوبات والحرب الإلكترونية وأمور أخرى كثيرة، بقيت الخيارات التي اتُّخذت قبل ثلاثة عقود تحمل أهمية دائمة. إذ لا يزال البلدان يمتلكان أكثر من 90 في المئة من الرؤوس الحربية النووية في العالم، بالتالي القدرة على قتل كل كائن حي على وجه الأرض تقريباً. وعلى الرغم من ذلك، مزقا كل اتفاقية متبقية تقريباً للحد من الأسلحة، ولم يبديا استعداداً كبيراً لاستبدالها باتفاقيات جديدة.
ويمكن لفهم التدهور في العلاقات الأميركية- الروسية، وكيفية مساهمة أسلوب توسع الناتو في ذلك، أن يساعد الولايات المتحدة في إدارة المنافسة الاستراتيجية الطويلة المدى في المستقبل بشكل أفضل. وكما أظهرت تسعينيات القرن الماضي، فإن الطريقة التي تنافس بها واشنطن يمكن أن ينتج منها بمرور الوقت تأثير عميق يوازي عمق تأثير المنافسة بحدّ ذاتها.
لماذا ساءت الأمور؟
بهدف فهم سبب تدهور العلاقات الأميركية- الروسية، من الضروري النظر إلى ما وراء الثنائية المألوفة التي تصنف توسيع حلف الناتو بالجيد أو السيء والتركيز بدلاً من ذلك على الطريقة التي نما بها هذا الحلف. بعد انهيار القوة السوفياتية في أوروبا، واستجابةً للطلبات العاجلة من الدول الخارجة من هيمنة موسكو، وهي دول أصبحت بشكل مبرر حريصة على اختيار تحالف أمني لنفسها، تضخّم الناتو بعد جولات متعددة من التوسيع فوصل إلى 30 دولة شكّلت معاً موطناً لما يقرب من مليار شخص.
في الواقع، تُظهر الأدلة التاريخية الجديدة أن قادة الولايات المتحدة كانوا يركزون بشدة على توسيع الناتو بالطريقة المفضلة لديهم لدرجة أنهم لم يأخذوا في الاعتبار مخاطر المسار الذي سلكوه أو كيف ستؤدي خياراتهم إلى مضاعفة خيارات روسيا التي تجعلها تؤذي نفسها بنفسها. ببساطة، كان التوسع سياسة معقولة. غير أنّ المشكلة كمنت في كيفية حدوث ذلك.
على الرغم من أن الناتو هو تحالف يضمّ بلداناً متعددة، إلا أن وجهات نظر الولايات المتحدة في نهاية المطاف هي الأكثر أهمية حين تكون ضمانة المادة 5 على المحك، علماً أنّها تنصّ على التعهد بمعاملة أي هجوم على أحد أعضاء الناتو على أنه “هجوم عليها جميعاً”. بالتالي، ساد النهج الواحد الذي يناسب الجميع والمتمحور حول الولايات المتحدة، على الرغم من مخاوف الأعضاء الآخرين بشأن مشكلة جغرافية خطيرة: كلما اقتربت حدود الحلف من روسيا، زاد خطر أن يؤدي توسع الناتو إلى عرقلة التعاون الجديد مع موسكو وتعريض التقدم الهائل المحرز في مجال الحد من التسلح للخطر.
كان التوسع سياسة معقولة. والمشكلة كمنت في كيفية حدوث ذلك.
إن البلدان الأعضاء في التحالف الاسكندنافي، مثل النرويج، التي عرفت كيف تعيش في حي مجاور للسوفيات ولكن غير خاضع لسيطرة السوفيات، قامت في العقود السابقة بتطويع عضوياتها في الناتو بحكمة. قررت النرويج، بصفتها العضو الأصلي الوحيد في الناتو الذي يتقاسم الحدود مع الاتحاد السوفياتي، عدم الموافقة على تمركز قواعد أجنبية أو نشر قوات أجنبية على أراضيها في وقت السلم واستبعدت الأسلحة النووية سواء على أرضها أو في موانئها. وقد قامت بذلك كله لإبقاء الخلافات الطويلة الأمد مع موسكو تحت السيطرة. كان من الممكن أن يكون هذا النهج نموذجاً تعتمده دول وسط وشرق أوروبا ودول البلطيق، لأنها أيضاً تحتل منطقة قريبة من روسيا وغير خاضعة لسيطرتها. لقد فهم بعض صانعي السياسة تلك الديناميكية في ذلك الوقت ودعموا إنشاء إطار عمل يمكن بموجبه أن يكتسب حلفاء جدد عضوية مشروطة (أو طارئة) على مراحل من خلال ما يسمى الشراكة من أجل السلام (PfP)، وهي منظمة تم إطلاقها في عام 1994 للسماح للدول الأوروبية ودول ما بعد الاتحاد السوفياتي غير الأعضاء في الناتو بالانضمام إلى الحلف.
لكنّ الغطرسة الأميركية، جنباً إلى جنب مع القرارات المأساوية التي اتخذها يلتسين، وعلى وجه الخصوص، إراقة دماء خصومه في موسكو عام 1993 وفي الشيشان عام 1994، دعمت أولئك الذين يجادلون بأن واشنطن لم تكن بحاجة إلى توسيع تدريجي لإدارة روسيا. وبدلاً من ذلك، أكدوا أن الولايات المتحدة بحاجة إلى اتباع سياسة الاحتواء بعد الحرب الباردة.
بحلول منتصف التسعينيات، اكتسبت عبارة “ولا بوصة واحدة” (وهي عبارة تهدف في الأصل إلى الإشارة إلى أن سلطة الناتو لن تتحرك بمقدار بوصة واحدة شرقاً) معنى مخالفاً: يجب ألا تكون أي منطقة محظورة على توسيع العضوية الكاملة وألا تكون هناك قيود ملزمة على البنية التحتية من أي نوع. وحدث ذلك في الوقت الذي كان يلتسين يستسلم فيه للمرض وبوتين يرتقي في الرتب في روسيا. غير أنّ قادة الولايات المتحدة أصروا على موقفهم، على الرغم من معرفتهم بأنّ “الأطفال الكبار في موسكو”، مع أنّهم “مجانين فعلاً”، لديهم “قدرة هائلة على إلحاق الضرر”، وفق ما قاله تالبوت في مذكرة أميركية داخلية حول دور التحالف في قمع العنف في البوسنة.
تخطّي الحدود
يتطلب فهم الانهيار في العلاقات الأميركية- الروسية العودة إلى وقت كانت الأمور تسير على ما يرام، أي فترة التسعينيات. في هذه الحالة، يكمن الشيطان حقاً في التفاصيل، على وجه التحديد، في ثلاثة خيارات اتخذتها واشنطن بشأن توسع الناتو، واحد في عهد بوش واثنان في عهد كلينتون، أدى كل منها بشكل تراكمي إلى منع الخيارات الأخرى للأمن الأوروبي.