الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "الاختراع" السوري: "دفتر شروط" الانقلابات! 

"الاختراع" السوري: "دفتر شروط" الانقلابات! 

06.12.2020
حسام الدين محمد



القدس العربي 
السبت 5/12/2020 
خلال قراءته للفترة التي تلت الاستقلال السوري عن فرنسا (17 نيسان/إبريل 1946)، يتساءل كتاب "سوريا: من الحرب الكبرى إلى الحرب الأهلية" لجون ماكهيوغو: هل كان ممكنا الحديث عن أمة سورية حقيقية؟ أم أن الدولة المستقلة لم تكن سوى تعبير جغرافي حديث الاختراع؟ 
حافظت حلب، كبرى المدن السورية ومركز البلاد التجاري، خلال سنوات الانتداب الفرنسي، على علاقاتها – المستمرة منذ الحقبة العثمانية – مع الموصل وبغداد، وكان ذلك، إلى حد كبير، وراء نزوع نخبتها الاقتصادية والسياسية لفكرة انضمام سوريا لفيدرالية مع العراق، أو حتى التوحد معه، وقد تدعمت هذه النزعة، أحيانا، بتذمر مناطق أخرى كحمص ودير الزور، من هيمنة دمشق السياسية. 
كانت البلاد محاطة أيضا بجيران أقوياء، تسود علاقة قادة الاستقلال بهم مشاعر عدم الثقة والخوف، كتركيا، التي لم ينس السوريون تسليم الفرنسيين منطقة إسكندرون لها، والعراق، الذي يؤهله غناه النفطي، وعلاقات الهاشميين الخاصة بسوريا، لتهديد النظام السياسي، والأردن الذي كان يمتلك جيشا قويا، ومناصرين له بين الدروز والنخبة السياسية والصحافيين، وكان التحالف غير المعلن بين السعودية ومصر، يعمل على منع التقارب أو الاتحاد بين العراق وسوريا، ومع نشوء "دولة إسرائيل" و"المسألة الفلسطينية"، تجمعت نذر الانقلابات العسكرية فوق سوريا. فيما كان الانقسام يتوسع بين قيادات الاستقلال بين دمشق وحلب، كانت البلاد تتغير بفعل تسارع التعليم، وظهرت الأفكار القومية والثورية، لتلعب دورا في تعبئة الفراغ السياسي بعد الاستقلال، وتنافست القوى التقليدية، مع حركات سياسية، كالحزب السوري القومي الاجتماعي، والحزب الشيوعي، والإخوان والبعث العربي. 
عفلق: غاندي القومية العربية! 
يخصص المؤلف حيزا مهما لدراسة "البعث"، القوة السياسية الأخرى التي طبعت البلاد بطابعها لاحقا، مشيرا إلى أن الرؤية الغربية إليه كانت مختلفة عن الصورة الوحشية التي آل إليها لاحقا، ويعود إلى أرشيف صحيفة "التايمز" ليستخرج عرضا لمراسلها حول ميشيل عفلق عنوانه "غاندي القومية العربية"، يصف فيه عفلق بأنه "شخص ضئيل الجسم شاحب، شديد الخجل، مع لطف عميق وعادات بسيطة متقشفة"، وأنه "يسكن بيتا بسيطا مع والدته في دمشق". 
يتابع جون ماكهيوغو بدايات الحركة وصداقة المؤسسين، عفلق وصلاح الدين البيطار، منذ كانا صبيين في حي الميدان، أقصى جنوب دمشق، ثم سفرهما إلى باريس للدراسة 1929-1934، مشيرا إلى أن الحي كان مسكونا بمسلمين ودروز ومسيحيين، وأن سكان الحي المسيحيين تمت حمايتهم خلال مجزرة 1860 الطائفية، وأنه كان حيا للمقاومة خلال الثورة السورية الكبرى 1923-1925. يشير أيضا إلى مساهمة تجار الحبوب في الحي، في دعم عصيان الدروز ضد الفرنسيين، وأنه لم تكن صدفة أن عفلق والبيطار كانا ابني تاجري حبوب، وأن هؤلاء، كفئة اجتماعية، خسروا من تقسيم سوريا الكبرى، ووضع قوات الاحتلال القيود الجمركية مع فلسطين والأردن، كما يتابع حضور الاشتراكية في فكرهما لاحقا، بتأثير من فرنسا. 
يخصص المؤلف حيزا مهما لدراسة "البعث"، القوة السياسية الأخرى التي طبعت البلاد بطابعها لاحقا، مشيرا إلى أن الرؤية الغربية إليه كانت مختلفة عن الصورة الوحشية التي آل إليها لاحقا. 
ابن الشيخ الصوفي وصانع الانقلابات 
يتابع الكاتب أيضا مسار أكرم الحوراني، الشخصية الثالثة المؤثرة في الحركة (وإن كان بدأ مساره السياسي مع الحزب القومي السوري) و"صانع الانقلابات" لاحقا، الذي أصبح نائبا في البرلمان عام 1946 ضمن تحالف من 33 نائبا من البعث والشيوعيين والمستقلين (فيما نال حزب القوتلي 24 مقعدا فحسب)، مشيرا إلى أنه محام حموي وابن شيخ صوفي يعمل في الحياكة، وأن دفاعه عن الفلاحين واصطدامه بنفوذ العائلات الغنية وملاك الأراضي، وأنه ازداد جذرية ورفضا لفساد الطبقة الحاكمة والقضاء بعد مشاركته في محاكمة أحد أعضاء تلك الطبقة الذي قتل ابنة عمه للحصول على إرثها، لكنه حصل على براءة بدعوى أن قتلها كان "حادثة شرف"، رغم أن الفحص الجنائي أثبت أنها كانت عذراء. نبه انقلابا الجيش في العراق في 1936 و1937 النخبة السورية والرئيس القوتلي إلى خطر تدخل الجيش في السياسة، وحسب الكتاب فإن القوتلي كان ميالا لبقاء الجيش ضعيفا، لأنه لا يستطيع إصلاحه جذريا، ولأنه كان قوة موروثة من الاستعمار الفرنسي، الذي اتبع سياسة ضم أبناء الأقليات والفلاحين لصفوفه، والذين كانوا على عداء سياسي "طبيعي" مع زعماء الاستقلال، وهو عداء سيزداد مع اشتداد قوة دعاية البعث والقوميين والشيوعيينبن غوريون يرفض عرض الزعيم! 
ساند القوتلي "جيش الإنقاذ" الداخل إلى فلسطين، كما وافق على تدخل الجيش السوري، غير أن النكبة أدت إلى غضب شعبي سوري من جرائم الحرب الصهيونية، ومن فشل الجيش السوري في صدها، وأدت المظاهرات والإضرابات إلى فرض حالة الطوارئ، وتصاعد شعور المهانة لدى العسكريين الذين أرسلوا من دون استعداد وترسانة كافية، وازداد غضبهم نتيجة تحميلهم مسؤولية الكارثة، وبعد طلب اعتقال ضابط مقرب من رئيس الأركان، حسني الزعيم، بدعوى فساد، حرك الزعيم الجيش في 30 آذار/مارس 1949 واعتقل القوتلي ثم نفاه، وقام بتنصيب نفسه رئيسا، وبذلك اجتاز انقلاب سوريا خطا أحمر غير مسبوق، فعلى عكس انقلابي العراق، اللذين حافظا على النظام الملكي الدستوري، اختار حسني الزعيم، الذي خدم في الجيشين العثماني والفرنسي (الذي طرده بعد تعاونه مع حكومة فيشي العميلة للنازيين)، إسقاط النظام السياسي، وهو ما يمكن اعتباره النموذج الذي فتح الطريق ليس للانقلابيين، الذين جاؤوا بعده فحسب، بل لانقلابيي العالم العربي أيضا. 
أخبر الزعيم، حسب مايلز كوبلاند في "لعبة الأمم" السفارة الأمريكية بمخططه للانقلاب، وأدهشهم بالقول، إنه يريد السلام مع إسرائيل، وبإعطائهم قائمة بأسماء الضباط الشيوعيين في الجيش، مقترحا خطة على مراحل، تقوم على تنصيب رئيس شكلي، وتوسيع الجيش واستلام أسلحة حديثة من أمريكا، وقد قام بعد الانقلاب فعلا بتقديم عرض سري لإسرائيل يتضمن تطبيعا كاملا للعلاقات، وتوطين 350 ألف فلسطيني، ولكن دافيد بن غوريون رفض العرض، مطالبا قبل ذلك باتفاق على وقف إطلاق النار، وإعادة مناطق يسيطر عليها الجيش السوري. 
رغم سقوط حكم الزعيم خلال أربعة شهور ونصف الشهر (يعتبر ماكهيوغو أن الضباط الذين انقلبوا عليه كانوا من الحزب السوري القومي للانتقام لتسليمه زعيمهم أنطون سعادة)، فإن "دفتر الشروط" الذي قدمه للأمريكيين والإسرائيليين، سيتكرر كثيرا لاحقا مع ازدياد الانقلابات العسكرية في سوريا والمنطقة العربية والعالم، حيث يتحول الجيش مجددا إلى قوة احتلال داخلية، تتعاون مع قوة خارجية، ستكون الاتحاد السوفييتي أو أمريكا غالبا، للإمساك بقوة وتسلط وحشي على مقدرات البلاد والعباد.