الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الاستقرار الوطني وهواجس الأطراف التركية

الاستقرار الوطني وهواجس الأطراف التركية

12.07.2015
عبد الباسط سيدا



الحياة
السبت 11/7/2015
ربما بدت نتائج الانتخابات البرلمانية التركية مفاجئة للبعض. ولكنها كانت متوقعة في هذه الصورة أو تلك للمتابعين المطّلعين على تفصيلات الخارطة السياسية في تركيا، والعوامل المؤثرة فيها.
فقد كان التراجع في شعبية حزب العدالة والتنمية، الحاكم، واضحاً بيناً. وربما كانت الخشية ضمن أوساط صانعي القرار في الحزب المذكور، أن تكون الخسارة أقسى مما عكسته النتائج، وذلك بفعل تضافر عوامل حزبية وداخلية، وتفاعلها تالياً مع الظروف الإقليمية.
فحزبياً، كان لاضطراب الرؤية بخصوص من هو الزعيم الفعلي للحزب، أثره السلبي البالغ في حماسة ناخبي الحزب. فالدور الكاريزمي لأردوغان غاب عن المنابر الرسمية، وحضر فعلياً، ما أحدث اضطراباً وتشوّشاً، وحتى قلقاً، لدى أنصار الحزب، وخافوا من وجود منافسة ضمنية غير معلنة، بخاصة أن الرئيس السابق عبدالله غل كان غائباً عن المشهد. كل هذه الأمور أتاحت لخصوم الحزب فرصة توجيه انتقادات لاذعة له، استناداً إلى المعطيات الواقعية التي دعمت انتقاداتهم.
كما أن الصراع مع جماعة فتح الله غولن ألقى هو الآخر بظلاله على المشهد، وأثر فيه، بعكس ما كان عليه الوضع إبان انتخابات البلديات. فكأن عامل الوقت منح الجماعة المعنية الفرصة لإعادة ترتيب أوراقها، وتوجيه أنصارها نحو مواقع المواجهة مع العدالة والتنمية.
وكانت للعلاقة الحرجة بالمؤسسة العسكرية انعكاساتها السلبية ضمن أوساط معيّنة، لا سيما الحزبين المعارضين: االشعب الجمهوري والحركة القومية. كما أن أخبار الفساد، بغض النظر عن حقيقة ما حدث بالفعل وطبيعته، أثرت هي الأخرى سلباً، وأدت إلى تراجع في شعبية أردوغان تحديداً. وفي الوقت ذاته، أثار إصرار الحزب على الترويج لفكرة النظام الرئاسي، مخاوف كثر من إمكانية التأسيس لصيغة تفرّد بالحكم.
كل هذه العوامل، وربما غيرها، تفاعلت مع الزلزلة التي تعيشها المنطقة برمتها. وتركيا، بحكم موقعها ودورها، على صلة مباشرة بما يحدث في جوارها الإقليمي في كلّ من سورية والعراق، سواء من جهة ضخامة عدد اللاجئين، أو بروز الجماعات المتشدّدة، بخاصة "داعش". هذا إلى جانب تعاظم قوة "حزب الاتحاد الديموقراطي"، الجناح السوري لـ "حزب العمال الكردستاني" التركي، وسيطرته على المناطق الكردية في سورية. وهو ما استغلّه الحزبان الخصمان، الجمهوري والقومي، في هجماتهما الانتخابية على العدالة والتنمية.
كما أن الأوضاع في العراق عموماً، وكردستان العراق تحديداً، أثرت سلباً في النشاط الاقتصادي التركي الداخلي، بخاصة المناطق الكردية، ما أدى إلى فقدان حزب العدالة جزءاً لافتاً من رصيده هناك.
أما بالنسبة إلى "حزب الشعوب الديموقراطي"، فتمكّن من استثمار جملة أمور جعلته يتجاوز العتبة الانتخابية باقتدار، وحصل على ما يقارب 13 في المئة من الأصوات، وهي نسبة أقل من الثقل الكردي الواقعي في تركيا، لكنها تظل كبيرة في الحسابات الانتخابية، لا سيّما في أجواء عدم حصول أي من الأحزاب المنافسة على الغالبية المطلقة التي كان من شأنها منح صاحبها فرصة تشكيل الحكومة من دون الحاجة إلى أي ائتلاف.
فقد استفاد الحزب المذكور من تجربته في الانتخابات الرئاسية المنصرمة، كما استفاد من دعوة السلام التي أطلقها زعيم "حزب العمال الكردستاني" عبدالله أوجلان من سجنه في جزيرة إيمرلي، وركّز فيها على أهمية السلام، وكانت مطالبه أقل بكثير من الحد الأدنى الذي يطالب به الكرد. وفي الوقت ذاته، تمكّن الحزب من الانفتاح على القوى غير الكردية بخطابه العلماني، وتوجّهه نحو المكوّنات غير الكردية، بخاصة العرب والسريان وحتى الأتراك.
واستفاد الحزب من الهالة الإعلامية التي كلّلت معركة كوباني، والنجاحات التي سجّلها "حزب الاتحاد الديموقراطي" في مواجهة "داعش"، وذلك كله استثمره "حزب الشعوب"، باعتباره يتبع القيادة عينها التي يخضع لها "الاتحاد الديموقراطي".
والآن بعدما أصبحت العملية الانتخابية من الماضي، تنصبّ جهود مختلف الأطراف حول كيفية التعامل مع النتائج التي فرزتها، وهي نتائج معقّدة، لكنها في نهاية المطاف لن تكون عصية على المعالجة إذا ما توافقت أطراف العملية السياسية التركية على إعطاء الأولية للأمن والاستقرار والتنمية، ما يساهم من جانبه في الحفاظ على قسط من التوازن في المنطقة مقابل الاضطرابات الكبرى، بل الزلازل التي تعيشها مختلف دول المنطقة.
ولا يزال حزب العدالة والتنمية، أكبر الأحزاب، يواجه الاحتمالين الأساسيين: إما تشكيل حكومة ائتلافية أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة. أما الاحتمال الثالث المتمثّل بتشكيل حكومة أقلية، فضعيف للغاية، ولن يكون حلاً واقعياً لجملة التحدّيات الكبرى التي تواجهها تركيا راهناً، وستواجهها مستقبلاً.
وبعيداً من التصريحات الانتخابية، تظل إمكانية تشكيل حكومة ائتلافية بين الحزب المذكور و "حزب الشعب الجمهوري"، مع توافق برلماني مع "حزب الشعوب الديموقراطي"، الإمكانية الأكثر واقعية وانسجاماً مع موجبات الأمن والاستقرار في تركيا. فحزب العدالة لديه برنامج بخصوص حلّ المسألة الكردية في تركيا، وقد دخل في مفاوضات مباشرة مع رئيس "حزب العمال الكردستاني"، الذي يظل صاحب القرار الملزم بالنسبة الى "حزب الشعوب". ومن مصلحة تركيا عموماً حل القضية الكردية على أسس عادلة ضمن إطار وحدة البلدن كما هو متفق عليه بين الجميع. لكن الإقدام على خطوة كبرى مفصلية كهذه، يستوجب إشراك القوى الآخرى أيضاً، لأن القضية وطنية عامة ولا تخصّ حزباً بعينه. ولن يتمكن حزب العدالة من حلّها عبر الاتفاق مع "حزب الشعوب" وحده.
ومن المنتظر أن تستمر المناقشات والمشاورات المطوّلة بين قيادات الأحزاب المعنية وكوادرها، ومن المتوقع أن يكون لإقليم كردستان والكتلة الكردية الوازنة ضمن حزب العدالة، دور فاعل إيجابي في التقريب بين وجهات النظر بين الجانبين التركي والكردي، بقصد دفع الأمور نحو توافقات تكون لصالح تركيا إجمالاً، والمنطقة بأسرها. ولكن في حال الإخفاق، تظل الاحتمالات الأخرى قائمة، وفي مقدّمها إعادة الانتخابات التي ستضع الجميع أمام جملة مجاهيل غير محددة المفاعيل.
* كاتب وسياسي سوري