الرئيسة \  واحة اللقاء  \  البلدان العربية: قوننة الاستبداد

البلدان العربية: قوننة الاستبداد

17.04.2014
د. سعيد الشهابي


القدس العربي
الاربعاء 16/4/2014
ربما لم تشهد البلدان العربية حقبة سوداء من الاستبداد والديكتاتورية كما تشهدها في الوقت الحاضر. فبعد نجاح قوى الثورة المضادة في اسقاط مشروع التغيير والدمقرطة الذي رفعته ثورات الربيع العربي، دخلت المنطقة حقبة أكثر سوادا وأشد استبدادا من سابقاتها.
هذه المرة اصبح هذا الاستبداد مغلفا بالقانون تارة والاعلام المضلل اخرى، وما تبثه شركات العلاقات العامة ثالثة، ودعم الدول ‘الديمقراطية’ رابعة، وصمت الاعلام الدولي عن ذلك الاستبداد والانتهاك المنظم لحقوق الانسان خامسة، واحتواء قطاع واسع من المحسوبين على ‘النخبة’ وذوي الاقلام و’المفكرين’ سادسة، وإشغال الجماهير عن مقارعة الاستبداد بصراع طائفي مدمر سابعة. ويمكن القول ان الاستبداد المقنن خطر قاتل، يشبه السرطان الى حد كبير. فهو يستطيع الاستمرار فترة اطول مع حقن التخدير التي تبعد الانظار عن المرض وتقنع المريض بان وضعه ‘أفضل’ لان آلامه تراجعت تحت تأثير مسكنات الألم. انه قتل بطيء للحرية والكرامة والانسانية، وإعداد خطير لمخاطر مستقبلية أكبر نتيجة تعمق الديكتاتورية وما يصاحبها من ظلم وفساد واستبداد وتغييب لحكم القانون وتوسع ظواهر الانتهازية والتسلق و ‘الاستحمار’. وبعد عقود من تشويه صورة الاسلاميين من قبل قوى الثورة المضادة، وتوسع الاعلام النفطي والامبريالي المعادي لمشاريع التغيير، وتقنين قمع حرية التعبير حتى على المستوى الدولي (خصوصا في مجال البث الفضائي وما تمليه الدول الغربية من شروط على المحطات تحت شعارات براقة تخفي اهدافا هابطة)، اصبحت آفاق الانفراج تتقلص، وتستبدل بانماط جديدة من الاستبداد المقنن الذي حل محل الاستبداد المطلق. فالديكتاتور الحالي وسع دائرة حربه على الحرية والديمقراطية، وعلمه ‘الخبراء’ الغربيون كيف يصادر لغة معارضيه بفاعلية لتعميق التخدير وكسر ارادة التغيير لدى الجيل الجديد الذي اصبح، هو الآخر، ضحية ثقافة الاستهلاك التي استنفدت طاقاته وابعدته تدريجيا عن معترك السياسة ودفعت به نحو حياة عبثية تفتقر للمعنى والهدف. الجميع ضحية الاستبداد الذي اصبح صناعة دولية، مدعوما بالخبرات التكنولوجية والامنية الغربية، وسلعة تروج بلباس التمدن والتحرض والتقدم والاصلاح.
وللاستبداد المقونن سماته واسلحته. في الماضي كان الاستبداد يمارس بقرار فردي من الحاكم الفرد الذي يتصرف في البشر كما يشاء، بدون مرجعية من دستور او قانون. وقد وصف عبد الرحمن الكواكبي في كتابه ‘طبائع الاستبداد’ المستبد بانه ‘عاجز، لا حول له ولا قوة الا بأعوانه، أعداء العدل وأنصار الجور، وان تراكم الثروات المفروطة مولد للاستبداد، ومضر بأخلاق الأفراد، وان الاستبداد أصل لكل فساد’. ولكن ‘التطور’ فرض على المستبدين الجدد ان يعمدوا لتشريع دساتير وقوانين تطلق يدي الديكتاتور لاتخاذ ما يراه من اجراءات قمعية ضد مناوئيه، فيتحول القانون من علاقة تنظم العلاقة بين الطرفين، باتفاق حر بينهما، الى سلاح آخر بيدي الطاغية يستخدمه ضد معارضيه متى شاء. وهذا ما حدث في البلدان التي يحكمها الاستبداد. ففي مصر ألغى العسكريون الدستور الذي صوت الشعب عليه في 2012، واستبدلوه بدستورهم الذي كتبوه بعد انقلابهم العسكري العام الماضي. ومنح الدستور الجديد مزايا خاصة للقوات المسلحة، من بينها أن المجلس الأعلى لهذه القوات (الذي يتكون من قادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة الذي يعينهم وزير الدفاع ورئيس الأركان بالتشاور مع رئيس الجمهورية) لا بد أن تؤخذ موافقته على تعيين وزير الدفاع وذلك لمدة ثماني سنوات (مدتين رئاسيتين كاملتين). كما نصت مسودة الدستور الحالي على إمكانية محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية. وتمت صياغة الدستور بشكل يعطي العسكريين صلاحيات تقلص سلطات الرئيس وتقنن هيمنتهم على مقاليد البلاد. وقد اكتشف الكثيرون ممن استدرج للمشاركة مع العسكريين لاسقاط التجربة الديمقراطية خطأ الموقف خصوصا حين اعيد فتح السجون لاستقبال اكثر من عشرين الفا من المعارضين، ومورس التعذيب بحق اغلبهم، من الاسلاميين وغيرهم. وفي لقاء الرئيس اوباما بزعماء السعودية مطلع الشهر طرح الجانب السعودي ضرورة اعادة الدعم الامريكي للنظام العسكري المصري لمنع تردي العلاقات بينهما. وسبقت البحرين مصر في تجربتها لتقنين الاستبداد. فقد الغى الحاكم الحالي في شباط/فبراير 2002 دستور 1973 الذي كان عقدا تاريخيا بين المواطنين والعائلة الحاكمة، وكتب دستورا جديدا وفق مقاسات خاصة الغت مبدأ التداول على السلطة والشراكة السياسية الحقيقية. وحين تلغى الدساتير التي تكتبها الشعوب وتقرها بالاستفتاء العام، بجرة قلم من الحكام، تدخل البلاد في دوامة من التوتر السياسي برغم ادعاء الحكام انهم يمارسون دورهم وفق دساتيرهم.
الاستبداد المقونن يؤدي تدريجيا لتهميش مؤسسات المجتمع المدني ويوفر للحكام وسيلة لضرب معارضيهم باسم القانون. وبدلا من التفكير في تنمية البلاد وإشراك المواطنين في القرار السياسي، فان جهدهم ينصب على البحث عن مجالات التضييق على المعارضين لاستباق اي تحرك ضدهم. وطوال العقود الثلاثة الاخيرة كانت المساجد احدى دوائر التنافس والصراع. فمنذ ان دخل الاسلاميون على خط الصراع السياسي بعد ثورة ايران، اصبحت المساجد احدى ساحات العمل السياسي، كما هي النوادي والمنابر العامة. واصبحت الهيمنة عليها هدفا مهما للحكام. وطالما صدرت دعوات لـ ‘منع تسييس المساجد’ او ‘ابعاد دور العبادة عن الصراع السياسي’. وفي الاسبوع الماضي كثفت الحكومة المصرية حملة للحد من نفوذ جماعة الإخوان المسلمين بالمساجد وقالت إنها صرحت لأكثر من 17 ألفا من خريجي الأزهر ومعاهد تابعة لوزارة الأوقاف بإلقاء خطبة الجمعة ‘حتى لا تقع (المساجد) في أيدي المتشددين..’ وجاء في بيان أصدرته الحكومة أن خطوتها استهدفت ‘إحكام إشراف وزارة الأوقاف على جميع مساجد مصر حتى لا تقع بأيدي المتشددين وغير المؤهلين الذين يخرجون بها عن مسارها.’ وأضاف البيان ‘الدعوة إلى توظيف حزبي أو مذهبي (للمساجد) يضر بمصلحة الوطن ويؤدي إلى انقسامه والإضرار بأمنه الفكري ونسيجه الاجتماعي. وقبل ذلك عمد العسكريون للسيطرة على الجامع الازهر، وجعلوه شريكا في الانقلاب الذي قاموا به ضد حكم محمد مرسي. ويفترض ان تكون المساجد مستقلة عن اي طرف، لان عبادة الله يجب ان لا تخضع لتدخل من احد، ايا كان، وان يترك تنظيم شؤونها لمرتاديها، وان يكون لائمتها حرية قول ما يشاؤون، ضمن حدود الشرع والعقل. فاذا اقتضى الامر التطرق لشأن سياسي فليس من حق احد منعه. والامر ينطبق على كافة مؤسسات المجتمع المدني. فمن حق النادي الثقافي ان ينظم ندوة حول الاوضاع السياسية في البلاد، ومن حق الرياضيين ان يحتجوا ضد الظلم والاستبداد، وللنقابات العمالية الحق في التعبير عن مواقف اعضائها بالتظاهر او الاحتجاج السلمي، ضمن القانون الذي ينسجم مع المعايير الدولية. ولا تحظى الدساتير او القوانين بشرعية ملزمة الا اذا ا نسجمت مع تلك المعايير. فان لم تكن كذلك فانها تكون تقنينا للاستبداد. فلا شرعية للقانون الجائر الذي لا يراعي قيم العدل. فالشرعية للحق وليس للقانون. والقانون ليس مقدسا الا اذا كان تعبيرا حقيقيا عن رضا جميع الاطراف التي توافقت على كتابته، فحينئذ يكون ملزما للجميع بشرط ان يكون منسجما مع المعايير الدولية والقيم الانسانية. فلو اتفقت جماعة على قانون يسمح بقتل الآخرين او ارتكاب اية جريمة فانه لا يكون ملزما او شرعيا.
انظمة الاستبداد عمدت كذلك للهيمنة على مؤسسات المجتمع المدني. فاشترطت على كافة المؤسسات تسجيل نفسها ضمن القوانين التي وضعتها بناء على الدساتير التي كتبت لحماية الاستبداد. وحينما تتمرد تلك المؤسسات تبادر انظمة الاستبداد لتأسيس منظمات تتظاهر بانها غير حكومية ‘جانجو’ للدفاع عن النظام السياسي او مواجهة الجهات المعارضة.
وخلال انعقاد الدورات السنوية لمجلس حقوق الانسان تكتظ قاعاته بمنظمات ‘جانجو’ التي تؤسسها الانظمة للدفاع عنها في المحافل الدولية بالتظاهر باستقلالها وانها ‘منظمات غير حكومية’. وشهدت البحرين اعتقالات واسعة لاعضاء المنظمات والنقابات المهنية، وما تزال السجون مكتظة بالاطباء والمحامين والصحافيين والمعلمين والرياضيين، لانهم عبروا عن مواقفهم بشكل سلمي وتضامنوا مع شعبهم في المطالبة بالحرية والتحرر من الاستبداد والطغيان. وفي مصر ما يزال عشرون من موظفي قناة ‘الجزيرة’ يرزحون في السجون بسبب وقوف القناة مع الاخوان المسلمين. ان ذلك محاكمة للرأي ومحاسبة على ما هو حق مشروع وفق المعايير الدولية. وبهذا فالقانون الذي سمح بسجنهم لا يحظى بشرعية، ولا يستحق الورق الذي كتب عليه. ولكن في وضع تنكر فيه ما يسمى ‘العالم الحر’ لثورات الشعوب العربية وتجاهل استغاثات ضحاياها، واستمر اما في الدفاع عن انظمة الاستبداد لاطماع اقتصادية او اهداف سياسية، او الصمت على جرائمها بحق معارضيها، انقلبت الصورة واصبح الاحرار ضحايا الاستبداد المقنن.
ولم تتوقف هيمنة الاستبداد عند حدود البلدان العربية، بل اخترقت المسافات وأسست قواعد لها في عواصم ‘العالم الحر’. وخلال السنوات العشر الاخيرة (اي بعد حوادث 11 سبتمبر الارهابية) انفق من اموال النفط للتأثير على مراكز القرار الغربي ما لا يمكن احصاؤه. فبالاضافة للاستثمارات العملاقة في العقارات والشركات والنوادي الرياضية، توسع اهتمام انظمة الاستبداد ليشمل تمويل المؤسسات الاعلامية والمنظمات الحقوقية ومراكز الدراسات لتحييد مواقفها ومنعها من التعاطف مع ما يطرحه دعاة التغيير في العالم العربي. ومن يراقب اداء المؤسسات الاعلامية الكبرى في بعض العواصم الغربية يكتشف تغيرا واضحا في سياساتها الاعلامية بدعاوى عديدة من بينها عدم توفر الامكانات. وفي الحقيقة يرجع ذلك لعاملين اساسيين: التناغم مع سياسات حكومات دولها التي اصبحت اكثر اصرارا على الدفاع عن انظمة الاستبداد، والحفاظ على الدعم المالي الهائل الذي يصل الى تلك المؤسسات اما مباشرة او عبر اعلانات مدفوعة الثمن او الحصول على تسهيلات اعلامية وتكنولوجية من تلك الانظمة. وتقوم المنظمات غير الحكومية (الحكومية) المعروفة بـ ‘جانجو’ بدور الوسيط مع المنظمات الحقوقية والسياسية العاملة في العواصم الغربية ضمن مشروع التشويش والتضليل لابعاد اهتمامها عن الانتهاكات الفظيعة لحقوق الانسان. ويلاحظ مدى تأثير تلك الجهود من خلال القرار البريطاني الاخير بالتحقيق في انشطة بعض المجموعات المعارضة لانظمة الاستبداد مثل الاخوان المسلمين، وكأن هذه المنظمات حديثة العهد او مجهولة الهوية والنشاط. وهذا وجه آخر لتقنين الاستبداد، حيث يبدو النظام الاستبدادي وكأنه مستهدف من مجموعات ارهابية وهمية. هذا مع علم الانظمة الغربية بهوية الارهاب الحقيقي ومصادر ثقافته ورعاته ومموليه.
في عالم اصبح بشكل تدريجي يتنكر لقيم الحرية والحق والعدل والانسانية، اصبح على ‘العالم الحر’ ان يعلن بوضوح وبدون لبس هزيمته امام الاستبداد والتخلف والرجعية، ان كان لدى زعمائه شيء من الاخلاق او الانسانية. هذا ‘العالم الحر’ يعلم ان المستبدين يسعون لمصادرة لغة معارضيهم واعادة تسويق انفسهم كانظمة جادة في اصلاح نفسها وتطوير ملفاتها الانتخابية والحقوقية، وانفتاحها الاعلامي (بعد إفراغها من محتواها الحقيقي المتطور)، وان بعض المجموعات الارهابية انما هي ضد ‘الاسلام السياسي’ وليس ضد الغرب.
ولعل هذا مطلب صعب لا يتيسر تنفيذه، ولكن البديل استمرار الاستبداد والارهاب والتواطؤ الغربي وتجهيل الشعوب واسترضاؤها بقطع الخبز اليابسة، وهو بديل خطير لا يؤدي للامن والاستقرار الدوليين، ولا يضمن مصالح الغربيين لان هذه الاساليب محدودة في تأثيرها وأمدها، ولن تلبث طويلا قبل ان تسقط. سؤال جوهري واحد: أليس صحيحا ان من يدعم الاستبداد عدو للديمقراطية؟ ومن يسكت على اعتقال دعاتها وتعذيبهم يتحمل قسطا من جريمة التعذيب ومصادرة الحريات وتمكين الاستبداد المقونن؟
 ‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن