الرئيسة \  واحة اللقاء  \  البنان والشرق الأوسط: سياسة الاضطراب والطريق إلى الاستقرار

البنان والشرق الأوسط: سياسة الاضطراب والطريق إلى الاستقرار

05.04.2014
أمين الجميل


الحياة
الجمعة 4/4/2014
إحاطة الوضع السياسي في لبنان والشرق الأوسط برؤية شاملة تبدو أمراً ضرورياً، وسأتناول في هذا المجال النقاط الآتية: طبيعة اليقظة العربية، الحرب في سورية وأبعادها الإقليمية، وضع لبنان المتزعزع، بعض السبل من أجل إبعاد المنطقة عن سياسة الاضطراب والاتجاه نحو استقرار جديد.
ولا بدّ من التشديد على أنّ "الاستقرار الجديد" الذي أتحدّث عنه ليس أبداً السياسة القديمة المعيبة التي تعمد الى إرساء الاستقرار عبر الديكتاتورية وقمع حقوق الإنسان. فالعالم العربي بحاجة إلى صيغة اكثر إنسانية وتقدّمية من الاستقرار المبني على الديموقراطية والتعدّدية.
- اليقظة العربية: على رغم السلبيات التي لا يمكن نكرانها أو تجاهلها، تبقى اليقظة العربية بعد مرور ثلاث سنوات أحد أعظم الحوادث التي تبعث الأمل في بداية القرن الحادي والعشرين. وبفضل الناشطين الشباب، وعلى رغم ظهور المتطرّفين في بعض المناطق مثل سورية، دخل الشرق الأوسط مرحلة ما بعد الديكتاتورية والتي ستؤدي حتماً إلى حقبة جديدة من الحرية.
شدّد الناشطون الشباب في اليقظة العربية، منذ البداية، على الحاجة إلى الديموقراطية وحقوق الإنسان. بذلك يصحّحون الخطأ التاريخي الفادح الذي ارتكبه أسلافهم. ولم نتوقّع يوماً أن يكون انتقال العالم العربي من الديكتاتورية إلى الديموقراطية مسألة سريعة أو سهلة. ففي النهاية، المرحلة الانتقالية لأي تحول سياسي صعبة، تتخللها خطوات نحو الأمام وأخرى إلى الوراء. ويمكننا اعتبار أوروبا الشرقية المثل الأكثر حداثة. قبل 25 عاماً فقط، كانت برلين مدينة منقسمة، برلين الغربية جزيرة من الديموقراطية في بحر من الديكتاتورية الشيوعية.
انطبعت رحلة أوروبا الشرقية نحو أوروبا ديموقراطية كما نحو حقوق الإنسان بإخفاقات توجت في النهاية بالنجاح. وعلى مرّ الحرب الباردة، تعلّم الناشطون في المجتمع المدني في أوروبا الشرقية من أخطائهم وفشلهم، وتمكّنوا من إحداث التغيير عبر التحرّك الجماعي على مستوى القاعدة الشعبية.
وأنا مؤمن بأنّ الناشطين المدنيين في اليقظة العربية يمكنهم تكرار التجربة هذه وسيفعلون. وسبق أنّ أدّى الشباب الفاعل في مصر دوراً محورياً ليس في إنهاء ديكتاتورية واحدة فحسب، بل اثنتين، الأولى نظام مبارك والثانية نظام الإخوان المسلمين. وقد يرد المتشائمون بأنّ أوروبا الشرقية حظيت بعامل جاذب يحضّها على التغيير هو أوروبا الغربية، بينما لا تحظى قوى اليقظة العربية بأي عامل جاذب. لكن، برأيي، العامل الجاذب والأمل الأكبر للديموقراطية العربية هو تونس. فالدستور الذي أصدره أخيراً المجلس الوطني التأسيسي في تونس ثمرة عملية طويلة ومدروسة مشبعة بروح المؤسسات المشتركة والمساومة العقلانية. وتضمن الميثاق الذي نتج من تلك العملية إجراءات حاسمة، منها إنشاء دولة مدنية، وضمان تكافؤ الفرص بين الجنسين في الهيئات المنتخبة، وحفظ الحقوق العالمية للإنسان، وأهمّها الحرية الدينية. ومع هذا الدستور التقدّمي، تنضمّ تونس إلى لبنان كثاني ديموقراطية تنشأ بنفسها في العالم العربي. انما ايضاً ينبغي عدم المغالاة في نتائج هذا الإنجاز كوحي ونموذج للمنطقة.
المصدر الآخر للتفاؤل نجده في الأصوات العربية الرائدة التي شجّعت المبادرات المهمة المؤيدة للتعدّدية. وهنا أتحدّث عن شخصيات مثل العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، والإمام أحمد الطيّب شيخ الأزهر الشريف، ورئيس الوزراء السابق سعد الحريري، والعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
- الدوامة السورية: عند مقاربة سورية، لا بدّ من الإشارة اولاً إلى أنّ ما بدأ كحركة شعبية سلمية تطالب بالديموقراطية وحقوق الإنسان تحوّل إلى نزاع مسلّح، وعن قصد وبسعي من حكومة الأسد. فبسرعة وبشكل مدروس، اتسم النزاع بلعنة الطائفية لزرع الخوف والحقد بين الاطياف المختلفة في سورية.
وتُعتبر سورية اليوم دوّامة الشرق الأوسط، إذ تتدفّق العناصر المزعزعة للاستقرار إلى البلاد ومنها وضمنها، فتدمّر كل ما في طريقها. وعلى المستوى الإقليمي، لا يمكن التخفيف من التداعيات الكارثية التي يخلّفها الوضع السوري. فقد شنّ المتطرّفون الدينيون الذين يعملون في سورية حملات تهويل وتعنيف ليس داخل الدولة فحسب، بل عبر حدودها أيضاً، الأمر الذي يشكّل خطراً على المنطقة برمّتها. وهؤلاء المتطرّفون، يمارسون شتى أشكال الفظاعات .
- البوتقة اللبنانية: البلد المجاور الأكثر تأثراً سلبياً بالدوامة السورية هو من دون شكّ لبنان، الذي يُعتبر "بوتقة الشرق الأوسط" حيث تحضر الاتجاهات كافة في المنطقة، إيجابية كانت أو سلبية، وتتفاعل بطريقة مخرّبة أحياناً.
كما أدّت الحرب المستشرية في سورية إلى نشوب شبه حرب في لبنان بين الجماعات الداعمة والمعارضة للحكومة السورية. ووقعت الصدامات في مدينة طرابلس في الشمال وفي وادي البقاع شرق لبنان. واستهدفت تفجيرات السيارات المناطق الواقعة تحت سيطرة "حزب الله" في لبنان. وجاءت هذه الهجمات الإرهابية رداً على الدعم العسكري المباشر الذي يمدّه "حزب الله" لنظام الأسد.
وحمّلت هذه التحديات وغيرها، مثل حماية حدود الدولة، أعباءً هائلة للجيش ولقوات الأمن في لبنان. ومن الناحية السياسية، أصبحت إعادة إرساء الأمن أولى الأوليات للبنان.
وتعاني البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والخدمات الأساسية في لبنان من ضغط يخلّفه وجود أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري في البلد اليوم، أي ما يعادل خمسة وعشرين في المئة من سكان لبنان. ومع أنّ اللبنانيين أدوا كامل واجباتهم تجاه الأشقاء السوريين، وسيواصلون ذلك، فإن على المجتمع الدولي أن يقدم المزيد من المساعدة، فالتحديات الآنية وعلى المدى الطويل التي يفرضها هذا التدفّق الكبير للسوريين إلى لبنان كثيرة، وتشمل البطالة، وانخفاض الأجور، وارتفاع معدلات الجريمة.
ويخشى اللبنانيون بقاء أعداد من اللاجئين السوريين في لبنان حتّى بعد حلول السلام، ما يؤدي الى خلل في التوازن السكاني والاجتماعي الهشّ بسبب الوجود الدائم لأعداد هائلة من اللاجئين السُنّة عموماً، بخاصة إذا طالبوا بالحصول على الجنسية اللبنانية.
ولا تُعتبر أزمة اللاجئين السوريين مسألة ثنائية الأطراف بين سورية والدول المجاورة، بل هي في الأساس مشكلة دولية يجب أن يتحمّل مسؤوليتها المجتمع الدولي. وأعني بهذه المسؤولية أن تستقبل دول أخرى أعداداً كبيرة من اللاجئين.
ولكي يستعيد لبنان استقراره حتّى مع استمرار الحرب في سورية إلى جانب النزاعات الإقليمية، عليه أن يعتمد سياسة "الحياد الإيجابي" بكل ما للكلمة من معنى. بكل بساطة، على كل المجموعات اللبنانية المقاتلة في سورية، وهنا نعني "حزب الله" أساساً، الانسحاب فوراً وفقاً لإعلان بعبدا المبرم عام 2012.
وجاء تشكيل الحكومة اخيراً بعد أشهر من الجمود كتحرّك إيجابي يفعّل ويمكّن الجيش وقوى الأمن، كما أيضاً الإشراف على الانتخابات الرئاسية المقبلة وهي ضرورة ملحّة، إذ إن الرئاسة القوية وحدها تستطيع الحفاظ على الأمن الوطني والاستقرار الداخلي. وبعد الانتخابات الرئاسية، ستكون المحطة السياسية المهمة الانتخابات النيابية، وقبلها ينبغي صوغ قانون انتخابي جديد يضمن مشاركة جميع فئات المجتمع اللبناني وتمثيلها. كما يتوقّف استقرار لبنان على المدى الطويل على تطبيق الإصلاحات الإدارية الرئيسة في القطاع العام. في هذا الصدد، حظيت قبل سنوات بفرصة نشر دراسة مع جامعة هارفارد، بعنوان "إعادة بناء لبنان"، وفيها أصف أفكاري حول الحوكمة الصالحة والنمو الاقتصادي.
إذا كانت سورية دوّامة الشرق الأوسط، وهي فعلاً كذلك، ولبنان بوتقة الشرق الأوسط، كما كان على الدوام، علينا البدء بوضع خطة لليوم الذي يعيد فيه لبنان تأكيد موقعه كأرض الحرية والفرص، ليس للبنانيين فحسب، بل لجميع العرب والمجتمع الدولي. أمّا نقطة الانطلاق لهذه العملية، فهي استعادة سيادة الوطن كاملة على المستوى الخارجي، والحكومة المدنية التقليدية على المستوى الداخلي.
- سياسة الاضطراب: بالطبع، لن يصل لبنان، وأية دولة عربية أخرى، يوماً إلى استثمار كامل إمكاناته إلا إذا تخطّت منطقة الشرق الأوسط سياسة الاضطراب عبر اكتشاف السبل إلى شكل جديد وإيجابي من الاستقرار.
وتتجلّى سياسة الاضطراب التي يعانيها الشرق الأوسط في أسلوب العمل الديبلوماسي في المنطقة، وبالتحديد عملية إدارة النزاع التي تحافظ على العوامل المزعزعة للاستقرار من دون حلّها حقاً.
يحتاج الشرق الأوسط اليوم إلى أشكال من الديبلوماسية اكثر صدقاً وأقل مكيافيلية. ومن أجل تمكين الشعوب وتطوير المجتمعات، لا بدّ من التركيز على حل النزاعات عوضاً عن إداراتها.
لعل إرساء السلام في الشرق الأوسط بحاجة إلى فلسفة موجّهة جديدة على كل الصعد، تستلهم من التقاليد الديبلوماسية التي وضعها رجال الدولة مثل ميتيرنيخ وبسمارك في القرن التاسع عشر، وآديناور في القرن العشرين، والمستشارة مركل اليوم. تقوم هذه المدرسة من الديبلوماسية الألمانية على الإيمان بفنّ الإقناع، والصبر حول عملية التفاوض، والالتزام بطريقة تصوّر البدائل. ولا شكّ في أنّ مقاربة مماثلة، ضرورية لإرساء الاستقرار في الشرق الأوسط.
السبل نحو الاستقرار: التحدي الواقع أمام شعوب المنطقة هو إثبات أنّهم يـــستــطيــعون تحقيق التعدّدية والحريـــة والحداثة. وقد آن الأوان لهذه المنطقة المضطربة أن تتفوق على انعدام التسامح الديني وأن تــحدّد مفهـــوم المواطنــة على أساس قيم الديموقراطية العالمية والتي تشمل الحرية الدينية. اقترحت في الماضي إطلاق "خطة مارشال عربية" تستوحى من تجــــارب مشروع المستشار آديناور الأوروبي ونجاحاته، وتكون بقيادة العرب، وبدعم الديموقراطيات الراسخة في المجتمع الأطلسي، ومكرّسة لإنشاء الشراكات مع مجتمع الدول الديموقراطية العربية الناشئ وبينه. وإنّنــي واثـــق بأنّ "خطة مارشال العربية" قد تـــساعد في تغيير وضع الشـــرق الأوسط المتـــأزم. وستكون أولى أولويات الخطة وضع حد لانتشار التطرف الديني، ويمكن أن تولي الأولوية للتعليم والحـــوار من أجل تشجيع المشاركة واحترام التعددية. كما يمكن الخطة أن تركّز على مسائل الانفتاح والشفافية وتـداول السلطة. والأهـمّ أن تـشدّد على وعــد الشراكة، وأن تعتبرها مستقلة ومنفصلة عن الحكم الأبوي القديم. فقد نجحت خطة مارشال التاريخية لأنّها حضّت الأوروبيين على التــعاون معاً، وانطلاقاً من ذلك التعاون، على بناء شراكات دائمة.
* رئيس الجمهورية اللبنانية (1982- 1988)، الرئيس الأعلى لـ "الكتائب اللبنانية"، والنص موجز محاضرة ألقاها في مؤسسة كونراد أديناور في برلين - 24 آذار (مارس) 2014.