الرئيسة \  واحة اللقاء  \  البيدق السوري والتنافس الإقليمي

البيدق السوري والتنافس الإقليمي

22.01.2015
غياث بلال



العربي الجديد
الاربعاء 21-1-2015
تقترب الثورة السورية من دخول عامها الخامس، في وقت تشهد فيه دول غربية عديدة عملية مراجعة وتقييم لسياساتها العسكرية والأمنية والسياسية في الشرق الأوسط، على خلفية حادثة  "شارلي إيبدو"، التي أكدت فداحتها لصناع السياسة في العالم أن استراتيجية الانتظار الهادفة لتحويل سورية إلى محرقة للإرهابيين من جميع التصنيفات، لم تسفر إلا عن تحويل الثورة السورية من أزمة إقليمية إلى مشكلة عالمية، تطال نيرانها دول أوروبا الآمنة. فقد أصبح للإرهابيين، اليوم، قاعدة خلفية ذات إمكانات هائلة، يتلقون فيها التدريب والتمويل وكل أشكال الدعم والتنسيق اللوجستي، ابتداء من مرحلة الاستقطاب والتجنيد، وانتهاء بتنفيذ عمليات إرهابية على الأراضي الأوروبية.
فجاء اجتماع رؤساء وملوك ووزراء من أكثر من أربعين دولة في تظاهرة باريس، في مشهد معبّر، ليس فقط عن التضامن مع فرنسا، بل وعن فهم جديد لطبيعة الأزمة، بما يوحي باقتراب اتخاذ مساعٍ جديدة هادفة لتصحيح مسار السياسة الغربية في سورية، إلا أن عدم مشاركة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في هذه التظاهرة بعث، أيضاً، رسالة خفية، توحي بعدم رغبته في إجراء أي تغيير حقيقي على سياسته الحالية في سورية. أو بالأصح، بعدم رغبته في تبني سياسة فاعلة في سورية، وذلك لأن الإدارة الأميركية تملك سياسة محددة، حيال ما يجب فعله في العراق، لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية هناك، وذلك فقط من أجل الخروج من دائرة المسؤولية المترتبة عليها تجاه ذلك البلد الذي قوضت أركانه في ما مضى. أما حيال سورية، فلا يوجد لديها أي استراتيجية محددة سوى سياسة الانتظار ومطالبة الأطراف الإقليمية بالتوصل إلى تفاهمات فيما بينها، تعمل على حل الأزمة، بما يحافظ على بنية الدولة السورية، ومن دون أي تدخل أميركي عسكري مباشر في سورية.
ولكن القوى الإقليمية لا زالت منقسمة فيما بينها بشدة، ففي حين لا زالت إيران تمد النظام السوري بكل أسباب الحياة والاستمرار، إلا أن ثبات النظام السوري واستقراره لم يعد أولويتها الأولى، حيث أصبح السعي إلى خلق وتشكيل ميليشيات عسكرية، محلية وقوية، قادرة على حماية مصالحها هي الأولوية العليا لإيران، بغض النظر عن اسم الحاكم القابع في دمشق. فمعلومات عديدة واردة من داخل المنظومة العسكرية والأمنية لنظام الأسد تؤكد توسع وانتشار عملية خصخصة الميليشيات الشيعية المنتشرة في سورية وربطها مباشرة بالحرس الثوري الإيراني، من دون مرور سلسلة القيادة عبر النظام السوري. الأمر الذي يؤكد ضعف ثقة النظام الإيراني بقدرة الأسد على الاستمرار ضمن المعطيات الحالية. وبالتالي، ستشكل هذه الميليشيات ذراعاً عسكرياً لإيران، يعمل على إضعاف وزعزعة أمن أي حكومة أو نظام جديد، يأتي بعد انهيار الأسد، كما أنها ستكون ورقة تفاوضية مرتفعة الثمن، في لعبة تبادل المصالح مع القوى الإقليمية والدولية، خصوصاً بعد أن أثبت هذا الأسلوب نجاعته في لبنان واليمن.
أما تركيا وقطر والعربية السعودية فلا زالوا مصرين على حل سياسي، يبدأ بخروج بشار الأسد، على الرغم من إرسال الأخيرة إشارات عديدة لقبولها باستمرار النظام الأمني والعسكري في السيطرة على مقاليد الحياة في سورية، فالسعودية على الرغم من أنها تقدم الدعم لبعض الكتائب الاسلامية السلفية في سورية، إلا أنها معنية، بشكل أساسي، بإيجاد نظام سياسي علماني في سورية، يشكل قطيعة مع أي شكل من الإسلام السياسي الذي يمكن أن ينافسها شرعية تمثيل الإسلام عالمياً، أو ربما يمكن أن يقدم نموذجاً بديلاً قادراً على المزاوجة بين الحداثة والإسلام، ما سيعني عملياً دورانه في الفلك التركي، وكذلك قدرته على تقديم بديل جذاب للشباب السعودي والعربي الفاعل والطامح للالتحاق بركب الحداثة والتطور في العالم. أما الدعم المقدم للكتائب السلفية في سورية، فإن الهدف منه الحفاظ على حد أدنى من القدرة على التأثير في مجريات الأحداث الميدانية في سورية لاستثمار هذه القدرات في بازارات السياسة.
في حين تتفق قطر وتركيا مع العربية السعودية بضرورة التوصل إلى حل سياسي، لا يكون الأسد جزءاً منه، إلا أنهم يختلفون في أغلب التفاصيل التي تتبع ذلك. فالحكومة التركية تسعى، اليوم، إلى إقامة منطقة عازلة في الشمال، قادرة على إيواء اللاجئين، وفي الوقت نفسه، قادرة على توفير قاعدة خلفية للمعارضة ومؤسساتها وللجمعيات الأهلية والإغاثية، المهتمة بالشأن السوري. حيث يمكن لتركيا أن تتخفف من الحمل الاجتماعي والأمني الثقيل لوجود أكثر من مليوني سوري على أراضيها، ولو نسبياً، من خلال حصر النشاطات السياسية والعملية الخاصة بالسوريين، في هذه المنطقة خارج الحدود السورية. في حين أن تحقيق هذا المسعى سيسمح بإيجاد نوع من الاستقرار في هذه المناطق، فإن هذا الاستقرار سيؤدي إلى نازحين إلى هذه المناطق، وعودة عجلة الحياة والاقتصاد في هذه الأماكن إلى الدوران، ما سيعمل على إعادة بناء الأطر والهياكل الاجتماعية والسياسية، الكفيلة بالسماح بخروج قيادة مدنية اجتماعية، يمكنها تمثيل المعارضة بشكل حقيقي وجدي، والتفاوض عنها.
من حيث النتيجة، تمتلك الدول الإقليمية الفاعلة رؤى متضاربة عن الكيفية الأمثل، للوصول إلى حل سياسي، يحقق مصالح كل الأطراف، ويؤدي إلى إنهاء الحرب في الحالة السورية. الأمر الذي حال دون تمكن القوى الرئيسية الكبرى للوصول إلى موقف توفيقي بين الأطراف، يحفظ ماء الوجه لإيران، ويلقى القبول لدى العربية السعودية وتركيا.
في هذه الأثناء، فقدت التشكيلات السورية المعارضة أغلب مقدرات التأثير وصناعة الفعل السياسي والمبادرة السياسية، ما أدى إلى تحول الأزمة السورية إلى صراع مشاريع إقليمية وعالمية على أرض سورية وبدماء أبنائها. في حين تحول السوريون من بيدق يمتلك القدرة على التأثير في لعبة الأمم إلى الرقعة نفسها التي تدير عليها الأمم ألعابها.
وبناء على ما سبق، تؤكد معظم مراكز الأبحاث الغربية أن الأزمة السورية ستستمر سنوات طويلة أخرى، طالما أن عجلة النزاع بين الأطراف الدولية والإقليمية مستمرة بالدوران في غياب قدرة المعارضة السورية على التأثير عليها بشكل فاعل، إلى أن يحدث تغيير جذري مفاجئ لدى أحد طرفي الصراع، يؤدي إلى تغيير جذري وغير متوقع. عندها، سيتغير شكل الصراع وستتغير أدواته، إلا أن الأزمة ستبقى مستمرة، ولكن، بأشكال جديدة.