الرئيسة \  تقارير  \  التاريخ القديم علمنا كيف يمكننا بناء عالم أكثر مساواة

التاريخ القديم علمنا كيف يمكننا بناء عالم أكثر مساواة

08.11.2021
ديفيد غريبر وديفيد وينغرو


ديفيد غريبر وديفيد وينغرو
- مؤلفا الكتاب المقرر طرحه قريباً “فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشرية” الذي اقتبس هذا المقال منه.
- خدمة “نيويورك تايمز”
الشرق الاوسط
الاحد  7/11/2021
لقد ضاعت منا غالبية فصول التاريخ البشري بصورة لا يمكن إصلاحها؛ فجنسنا البشري، أو بالأحرى الإنسان العاقل، موجود منذ ما لا يقل عن 200 ألف سنة، لكن ليس لدينا أدنى فكرة عما كان يحدث خلال غالبية تلك الفترة الطويلة من الزمن. في شمال إسبانيا، على سبيل المثال، في كهف “التاميرا”، يمكنك رؤية لوحات ونقوش عمرها لا يقل عن 10 آلاف عام، بين نحو 25000 و15000 قبل الميلاد.
من المفترض أن كثيراً من الأحداث الدرامية وقعت خلال تلك الفترة، لكن ليس لدينا طريقة يمكننا من خلالها معرفة ما جرى خلال تلك الحقب الزمنية. قد لا يكون لذلك أهمية كبيرة بالنسبة لغالبية الناس، لأنهم نادراً ما يفكرون في التوسع في دراسة التاريخ البشري على أي حال، وليس لديهم سبب كافٍ لذلك. وبقدر ما يُطرح السؤال، فإنه عادة ما يكون عن التفكير في سبب وجود العالم في مثل هذه الفوضى، ولماذا يعامل البشر بعضهم البعض بشكل سيئ في كثير من الأحيان. هل كنا دائماً هكذا، أم أنه كان لنا ردود فعل في يوم ما وفي مرحلة ما، هل أخطأنا بشكل رهيب؟
كان الفيلسوف السويسري الفرنسي الأصل جان جاك روسو من أوائل الأشخاص الذين طرحوا هذا السؤال في العصر الحديث، في مقال عن أصل وبدايات عدم المساواة الاجتماعية قدمه في إطار مسابقة أقيمت عام 1754. وقد كتب في مقاله يقول: “كنا صيادين وجامعي طعام نعيش في حالة من البراءة الطفولية والمساواة”. يمكن أن تكون مجموعات الباحثين عن الطعام متساوية لأنهم معزولون عن بعضهم البعض، وكانت احتياجاتهم المادية بسيطة. ووفقاً لروسو، فقد انتهى هذا الوضع السعيد فقط بعد الثورة الزراعية وظهور المدن. كانت الحياة الحضرية تعني ظهور الأدب المكتوب والعلوم والفلسفة، ولكن في الوقت نفسه، كان كل شيء سيئاً في حياة الإنسان تقريباً؛ فالنظام الكنسي، والجيوش الدائمة، والإعدامات الجماعية، والبيروقراطيون المزعجون الذين يطالبوننا بقضاء كثير من حياتنا في ملء النماذج.
خسر روسو مسابقة المقال، لكن القصة التي رواها باتت سرداً مهيمناً للتاريخ البشري، وأرست الأسس التي قام عليها كتّاب “التاريخ الكبير” المعاصر، مثل جاريد دايموند، وفرانسيس فوكوياما، ويوفال نوح هراري، ببناء أحداث رواياتهم عن كيفية تطور مجتمعاتنا. غالباً ما يتحدث هؤلاء الكتّاب عن عدم المساواة كنتيجة طبيعية للعيش في مجموعات أكبر مع وجود فائض من الموارد. على سبيل المثال، كتب السيد هراري في كتابه “العاقل: تاريخ موجز للبشرية” أنه بعد ظهور الزراعة، نشأ الحكام والنخب “في كل مكان... يعيشون على فائض طعام الفلاحين، ويتركون لهم عيشاً بسيطاً”.
ولفترة طويلة من الزمن، يبدو أن الأدلة الأثرية، من مصر وبلاد ما بين النهرين والصين وأميركا الوسطى وأماكن أخرى، تؤكد ذلك. فإذا وضعت عدداً كافياً من الأشخاص في مكان واحد، تبدأ الأدلة في الظهور، وسيبدأون في تقسيم أنفسهم إلى طبقات اجتماعية. يمكنك ملاحظة عدم المساواة تظهر في السجل الأثري مع ظهور المعابد والإقطاعيات التي يملكها الحكام وأقاربهم من النخبة، والمخازن والورش التي يديرها إداريون ومراقبون. بدت الحضارة وكأنها رزمة واحدة: كانت تعني البؤس والمعاناة لأولئك الذين سيتحولون حتماً إلى عبيد أو مدينين، لكنها سمحت أيضاً بإمكانية ظهور الفن والتكنولوجيا والعلوم.
يجعل كل ذلك التشاؤم الحزين بشأن الحالة الإنسانية يبدو وكأنه الحس السليم: نعم، قد يكون العيش في مجتمع قائم على المساواة ممكناً إذا كنت قليل المكانة. لكن إذا كنت تريد أن تعيش في مدينة مثل نيويورك أو لندن أو شنغهاي (إذا كنتَ تريد كل الأشياء الحميدة التي تأتي مع تجمعات من الأشخاص والموارد) فعليك أن تتقبل الأشياء السيئة أيضاً. فعلى مدى أجيال، شكلت هذه الافتراضات جزءاً من قصة أصلنا البشري. لقد جعلنا التاريخ الذي نتعلمه في المدرسة أكثر استعداداً للتسامح مع عالم يمكن للبعض فيه تحويل ثرواتهم إلى قوة في مواجهة الآخرين، بينما يقال للآخرين إن احتياجاتهم ليست مهمة، وإن حياتهم ليس ذات قيمة جوهرية. ونتيجة لذلك، قد نعتقد في الغالب أن عدم المساواة هو مجرد نتيجة لا مفر منها للعيش في مجتمعات كبيرة ومعقدة وحضرية ومتطورة تقنياً.
نريد أن نقدم سرداً مختلفاً تماماً للتاريخ البشري، ونعتقد أن كثيراً مما تم اكتشافه في العقود القليلة الماضية، من قبل علماء الآثار وغيرهم في التخصصات المشابهة، يتعارض مع الحكمة التقليدية التي طرحها الكتاب الحديث “التاريخ الكبير”. ما يُظهره هذا الدليل الجديد هو أن عدداً من المدن الأولى في العالم تم تنظيمها وفقاً لخطوط مساواة قوية. ونعلم الآن أنه في بعض المناطق حكم سكان المدن أنفسهم لقرون من دون أي إشارة إلى المعابد والقصور التي ستظهر لاحقاً؛ وفي حالات أخرى، لم تظهر المعابد والقصور على الإطلاق، ولا يوجد دليل على وجود فئة من الإداريين أو أي نوع آخر من الطبقة الحاكمة. يبدو أن مجرد حقيقة الحياة الحضرية لا تعني بالضرورة أي شكل معين من أشكال التنظيم السياسي. وبعيداً عن الاستسلام لعدم المساواة، فإن الصورة الجديدة التي تظهر الآن لماضي الإنسانية العميق قد تفتح أعيننا على احتمالات المساواة التي لم نكن لولاها لنأخذها في الاعتبار.
أينما ظهرت المدن، كانت تتحدد مرحلة جديدة من تاريخ العالم؛ فقد ظهرت المستوطنات التي يسكنها عشرات الآلاف من الناس لأول مرة منذ نحو 6000 عام. وتقول القصة التقليدية إن المدن تطورت إلى حد كبير بسبب التقدم التكنولوجي: كانت نتيجة للثورة الزراعية التي أطلقت سلسلة من التطورات التي جعلت من الممكن دعم أعداد كبيرة من الناس الذين يعيشون في مكان واحد. ولكن في الواقع، لم تظهر واحدة من المدن المبكرة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في أوراسيا (مع مزاياها التقنية واللوجيستية العديدة)، لكنها ظهرت في أميركا الوسطى التي لم تكن بها مركبات ذات عجلات أو سفن شراعية ولا توجد وسيلة نقل تعمل بالحيوان، وأقل بكثير في طريق علم المعادن وفي البيروقراطية المتعلمة. باختصار، من السهل المبالغة في أهمية التقنيات الجديدة في تحديد الاتجاه العام للتغيير.
في كل مكان تقريباً في هذه المدن المبكرة، نجد بيانات كبيرة وواعية للوحدة المدنية، ولترتيب المساحات المبنية في أنماط متناغمة، وغالباً ما تكون جميلة، مما يعكس بوضوح نوعاً من التخطيط على نطاق البلدية. عندما تكون لدينا مصادر مكتوبة (بلاد ما بين النهرين القديمة، على سبيل المثال)، نجد مجموعات كبيرة من المواطنين يشيرون إلى أنفسهم ببساطة على أنهم “شعب” مدينة معينة (أو غالبا “أبناؤها”)، متحدون في إخلاص لأسلافها المؤسسين، ولأبطالها. في مقاطعة شاندونغ الصينية، كانت المستوطنات الحضرية موجودة قبل أكثر من ألف عام من أقدم السلالات الملكية المعروفة. وظهرت نتائج مماثلة من الأراضي المنخفضة لمجتمع المايا، حيث يمكن للمراكز الاحتفالية ذات الحجم الهائل (حتى الآن لم تقدم أي دليل على الملكية أو على التقسيم الطبقي) ويعود تاريخها إلى عام 1000 قبل الميلاد، أي قبل فترة طويلة من ظهور ملوك وسلالات المايا الكلاسيكية.
ما الذي جعل هذه التجارب المبكرة في التحضر متماسكة، إن لم يكن ذلك هو الملوك والجنود والبيروقراطيين؟ ولنصل إلى إجابات، قد ننتقل إلى بعض الاكتشافات المدهشة الأخرى في الأراضي العشبية الداخلية لأوروبا الشرقية، شمال البحر الأسود، حيث وجد علماء الآثار مدناً كبيرة وقديمة مثل تلك الموجودة في بلاد ما بين النهرين. ويعود أقرب تاريخ إلى نحو 4100 قبل الميلاد، في حين أن مدن بلاد ما بين النهرين، فيما يعرف الآن بأراضي سوريا والعراق، تشكلت في البداية حول المعابد، وفيما بعد أيضاً القصور الملكية، كانت مدن ما قبل التاريخ في أوكرانيا ومولدوفا تشكل تجارب مذهلة في التحضر اللامركزي. تم تخطيط هذه المواقع على صورة دائرة كبيرة (أو سلسلة من الدوائر) من المنازل، مع عدم تحديد أحد أولاً، ولا أحد أخيراً. جميعها مقسمة إلى مناطق بها مباني تجمع للاجتماعات العامة.
إذا كان كل شيء يبدو باهتاً أو “بسيطاً”، فعلينا أن نضع في اعتبارنا بيئة هذه المدن الأوكرانية المبكرة؛ فالسكان الذين يعيشون على حدود الغابات والسهول لم يكونوا مجرد مزارعي حبوب ورعاة ماشية، بل كانوا يصطادون أيضاً الغزلان وغيرها، ويجلبون الملح المستورد والصوان والنحاس، ويحتفظون بالحدائق داخل حدود المدينة، ويستهلكون التفاح والكمثرى والكرز والجوز والبندق والمشمش، كلها تُقدم على السيراميك المطلي، الذي يُعتبر من أرقى الإبداعات الجمالية في عالم ما قبل التاريخ.
الباحثون بعيدون عن إجماعهم على نوع الترتيبات الاجتماعية التي يتطلبها كل هذا، لكن غالبيتهم يتفقون على أن التحديات اللوجيستية كانت شاقة. ومن المؤكد أن السكان أنتجوا فائضاً، ومعه جاءت فرصة كبيرة للبعض منهم للسيطرة على المخزونات والإمدادات للسيطرة على الآخرين أو القتال من أجل الغنائم، ولكن على مدى ثمانية قرون وجدنا القليل من الأدلة على الحرب أو الصعود من قبل النخب الاجتماعية. كان التعقيد الحقيقي لهذه المدن الأولى يكمن في الاستراتيجيات السياسية التي اعتمدوها لمنع مثل هذه الأشياء. يُظهِر التحليل الدقيق الذي أجراه علماء الآثار كيف تم الحفاظ على الحريات الاجتماعية لسكان المدن الأوكرانية من خلال عمليات صنع القرار المحلي، في الأُسر ومجالس الأحياء، من دون الحاجة إلى سيطرة مركزية أو إدارة من أعلى إلى أسفل.
ومع ذلك، حتى الآن، لم تظهر هذه المواقع الأوكرانية أبداً في المنح الدراسية. وعندما يفعلون ذلك، يميل الأكاديميون إلى تسميتها “المواقع الضخمة”، بدلاً من المدن، وهو نوع من التعبير الملطف الذي يشير إلى جمهور أوسع بأنه ينبغي عدم اعتبارها مدناً مناسبة بل قرى توسعت في الحجم بشكل غير عادي لسبب ما، حتى إن البعض يشير إليهم صراحة على أنها “قرى متضخمة”. كيف نفسر هذا الإحجام عن الترحيب بالمواقع الضخمة الأوكرانية في الدائرة الساحرة للأصول الحضرية؟ لماذا سمع أي شخص لديه اهتمام عابر بأصل المدن عن “أوروك” أو “موهينجو دارو” ولم يسمع أحد تقريباً عن “تالجانكي” أو “نيبليفكا”؟
من الصعب هنا ألا نتذكر قصة أورسولا لوجوين القصيرة، بعنوان “هؤلاء الذين ابتعدوا عن أوميلاس”، التي تدور حول مدينة خيالية استغنت أيضاً عن القادة أو الحروب والعبيد والشرطة السرية. وهنا أشارت لوجوين إلى أن شطب مجتمع أوميلاس قد حدث لأنه مجتمع “بسيط”، لكن في الواقع، لم يكن هؤلاء المواطنون في أوميلاس “قوماً بسطاء، ولم يكونوا رعاة صغاراً، ولا متوحشين. فهم لم يكونوا أقل تعقيداً منا”.
ما نحتاج إليه اليوم هو ثورة حضرية أخرى لخلق طرق عيش أكثر عدلاً واستدامة. فالتكنولوجيا لدعم البيئات الحضرية الأقل مركزية والاخضرار (الملائمة للواقع الديموغرافي الحديث) موجودة بالفعل. لا تشمل المدن التي سبقت مدننا الحديثة المدن الكبرى فقط، بل تشمل أيضاً مدينة الحدائق الأولية ووفرة من الأشكال الحضرية الأخرى، وكلها تنتظر منا العمل على استعادتها. وفي مواجهة عدم المساواة وكارثة المناخ، فإنها توفر المستقبل الوحيد القابل للحياة لمدن العالم، وكذلك لكوكبنا. كل ما ينقصنا الآن هو الخيال السياسي لتحقيق ذلك، ولكن كما يعلمنا التاريخ، فإن العالم الجديد الشجاع الذي نسعى إلى إنشائه كان موجوداً من قبل، ويمكن أن يوجد مرة أخرى.