الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التجويع حتى الموت في سورية.. سياسة عقابية لا رادع قانونيا لها

التجويع حتى الموت في سورية.. سياسة عقابية لا رادع قانونيا لها

28.09.2013
يارا بدر


القدس العربي
الخميس 26/9/2013
أطلق ‘مركز توثيق الانتهاكات في سورية’ يوم 24 أيلول/سبتمبر نداء استغاثة إنسانيا عاجلا، وقعت عليه كل من ‘الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان’ و’مركز الخليج لحقوق الإنسان’، حيث تلقى تأكيدات من سكان داخل مناطق (المعضمية في ريف دمشق ومناطق مخيم اليرموك والحجر الأسود في دمشق المحاصرة منذ عدة أشهر، أنّ الوضع الإنساني قد بلغ درجة خطيرة من التدهور، وأنّ كارثة إنسانية حقيقة تهدد حياة الآلاف من السكان المدنيين الذين باتوا في مواجهة خطر الموت جوعاً، أو نتيجة انعدام المواد الطبية والإغاثية في ظل قصف يومي بشتى أنواع الأسلحة).
إلاّ أنّ العالم لم يزل مشغولاً حتى اللحظة، بالخط الأحمر الواهي للرئيس الأمريكي، ومسلسل ‘تسليم الأسلحة الكيميائية’. هنا لا بُد من التذكير بأنّ منطقة ‘المعضمية’ كانت من المناطق التي استخدم فيها النظام السوري الغاز الكيماوي يوم مجزرة 21 آب/اغسطس 2013، التي لا يزال العالم مشغولاً بالحديث عن تبعاتها السياسية. وكأنّ الشعب السوري لم يخسر مئة وخمسين ألفاً من مواطنيه، قتلى نتيجة استخدام النظام السوري لمختلف أنواع الأسلحة الحربية المُحرّمة دولياً، أو نتيجة التعذيب حتى الموت في الفروع الأمنية، أو حتى بالإعدامات المباشرة، كما ذكر تقرير أصدرته منظمة ‘هيومن رايتس ووتش’ بتاريخ 13 أيلول/سبتمبر أكدّت فيه قيام القوات الحكومية السورية وقوات أخرى مساندة لها في أيار/مايو 2013 بإعدام ما لا يقل عن 248 شخصا في بلدات البيضا وبانياس الساحليتين: (تم إعدام معظم هؤلاء الأشخاص بعد انتهاء المواجهات العسكرية وانسحاب مقاتلي المعارضة.
وعند انتهاء القتال، دخلت القوات الحكومية والقوات المساندة لها إلى المنازل، وفصلت الرجال عن باقي افراد العائلة، ثم قامت بإعدامهم من مسافات قريبة. وفي بعض الحالات، قامت هذه القوات بحرق الجثث التي أطلقت عليها النار). الرد الدولي على ضخامة ملف انتهاكات النظام السوري جميع المواثيق الدولية والشرائع والاتفاقيات في حربها الشرسة عسكرياً وأمنيّاً ضدّ شعبها، تمثّل في دعوة 64 دولة عضوا في مجلس الأمن إلى إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية.
إلاّ أنّ التجويع حتى الموت، يأتي في مستوى مختلف من مستويات سياسات الحروب التي يمارسها النظام السوري، والمسؤولية في هذا الشأن لها شقان: الأول هو مسؤولية تأمين المدنيين وحمايتهم، وفق البروتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقيات جنيف الموقعة في 12 أغسطس 1949 الباب الرابع: السكان المدنيون. إذ تقول المادة (14) بحماية المنشآت التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، حيث يُحظّر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال. ومن ثم يحظر، بناءً على ذلك، مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل المنشآت والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري.
(إنّ تجويع السكان المدنيين، كوسيلة من وسائل الحرب، محظور في كلا النزاعين الدولي والداخلي، وهو حظر نُصّ عليه صراحةً في كلا البروتوكولين الإضافيين لسنة 1977 المُلحقين باتفاقيات جنيف الأربع).
أمّا الشق الثاني فهو شق ضمان وصول المساعدات الإغاثية الإنسانية والطبية للمدنيين المحاصرين، الذي تضمنته المادة (23) من اتفاقية جنيف الرابعة، (تتمتّع المساعدة الإنسانية بحق المرور الحُر عبر خطوط المعركة، إذا كانت مُرسلة إلى ‘أطفال دون 15 من العمر والحوامل’). لكن هذا الشق، وفي حالات النزاع المُسلّح، وبحجة حق الأطراف المُتنازعة في التأكّد من عدم مرور مواد قتالية ضمن المساعدات، فتحت صياغته القانونية الدولية مجالاً واسعاً للالتباس، وإمكانيات منع وصول هذه المساعدات (طبقاً للمادة 70 من البروتوكول الأول، إذ لم تتوفر لمدنيين في نزاع مواد كافية ‘تجري أعمال الغوث ذات الصبغة الإنسانية المُحايدة من دون تميّيز مُجحف، شريطة موافقة الأطراف المعنية عليها’).
إنّ سياسة التجويع حتى الموت التي يعتمدها نظام الأسد في حربه ضدّ شعبه، والتي يبدو مجال ملاحقته القانونية عليها من أكثر الملفات إشكالية، لها العديد من الأهداف:
أوّلاَ: تبدأ بكونها سياسة عقابية للبيئة الحاضنة للثورة. سياسة عقابية لا تفرّق بين رجل عجوز، أو طفل قاصر، أو امرأة حامل، أو رجل مُسلّح.
ثانياً: تدعم سياسة التجويع حتى الموت خطة النظام في تهجير السكان المدنيين من مناطقهم، لضمان شــــريط مناطـــقي خاضع بشكل مُطلق لسيطرته العسكرية، وإن كانت أرضاً خالية، أرضاً محروقة. إذ في مدينة المعضمية كما في سواها من مدن ريف دمشق الثائر، وغيره، اتبع النظام مجموعة من السياسات التي يمكن عند تصنيفها اعتبارها ممارسات تأتي ضمن سياسة الأرض المحروقة قبل أي شيء آخر.
الهدف الثالث يتمثّل في الضغط على المنظمات الدولية للحصول على مساعدات إغاثية إنسانية، غالباً لن يصل إلاّ الجزء البسيط جداً منها إلى الأهداف التي أُرسلت من أجلها، من جهة، ومن جهة ثانية فتح مجال للضغط على الثوّار ضمن المناطق المحاصرة لابتزازهم بتلك المساعدات وبحاجتهم إليها لإنقاذ المدنيين، أو سيكونون، قانونياً، وليس عسكرياً، طرفاً مساهماً في عقاب المدنيين المُحاصرين.
الهدف الرابع هو الترهيب، الذي يمتد مداه من إرهاب مناطق الثورة، حتى المناطق المؤيدة، التي يزداد رعب كتلها الصامتة يوماً بعد يوم مع ازدياد الأنباء والتقارير التي تبحث في وحشيّة ممارسات النظام السوري بحق الثوّار.
إنّ النظر في جميع المُعطيات السابقة، يُضاف إليها نداء الاستغاثة الذي أطلقته الأمم المتحدة في بداية شهر يونيو 2013 وكان الأضخم في تاريخها لجمع تبرّعات بقيمة (5.2) مليار دولار لمساعدة 10 ملايين سوري بين نازح، ولاجئ، ومدني مُتضرّر نتيجة الحصار والحرب العسكرية، تؤكد أنّ الأزمة تتجاوز انتهاكات النظام السوري لحقوق الإنسان، باعتبارها الأضخم ربما في التاريخ البشري، مع أن إثبات هذا مرهون بنتائج التحقيقات الدولية التي لن تكون ممكنة فعلياً حتى سقوط النظام وكشف جميع الملفات، كما تتجاوز واجب المجتمع الدولي في الرد عليها، أو في القيام بواجباته الإنسانية في إغاثة المدنيين. إننا نشهد في القرن الواحد والعشرين امتهاناً للكرامة البشرية، وترخيصاً دولياً لنظام بقتل شعبه، ليس بضربة واحدة، كما يُتيح له السلاح الكيميائي أن يفعل، وإنّما ببطء شديد وعلى مدى زمني مفتوح، ممّا يضع المجتمع الدولي أمام حقائق تلزمه بمراجعة عميقة للممارسات والقوانين التي يتبعها كسياسات في حماية حقوق الإنسان. لقد تجاوز الأمر محاسبة نظام الأسد، إلى محاسبة أشمل. قد تكون مجرّد رغبات اليوم، لكن أي دراسة مستقبلية سياسة أو حقوقية لإبادة الشعب السوري وما حدث في ثورة آذار 2011 في سورية، ستكون صفحتها المقابلة دراسة التخاذل الدولي في جميع المستويات السياسية، والحقوقية والإغاثية والإنسانية.