الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التدخل التركي وصِلَته برضوض التاريخ

التدخل التركي وصِلَته برضوض التاريخ

29.08.2016
حسن شامي


الحياة
الاحد 28/8/2016
جرابلس ليست مرج دابق. قد يبدو بديهياً هذا التشخيص الإنكاري لأي تطابق أو حتى تشابه بين حدثين متباعدين من كل النواحي والوجوه. صحيح أن الموقعين متقاربان جغرافياً، إذ بضعة كيلومترات فقط تفصل بين مدينة جرابلس السورية الحدودية وبين الموقع الذي انطلقت منه القوات العثمانية، قبل خمسمئة سنة بالضبط، لتدشين حقبة طويلة من السيطرة العثمانية على مصر وبلاد الشام وما يعرف منذ وقت قريب بالمشرق العربي.
لقد لمّح بعض متابعي واقعة التوغل التركي، المكشوف والجهري هذه المرة، داخل الأراضي السورية، إلى حـــصول التـــوغل بعـــشـرات الــــدبــــابــات والآلــــيـات، وبـــتـــغطية جوية من قوات التحالف الدولي ضد "داعش" بقيادة الولايات المتحدة، في الذكرى المئوية الخامسة لمعركة مرج دابق العتيدة. وانطوى التلميح على اعتقاد بصعوبة أن يكون هذا التطابق محض مصادفة. إذ من المستبعد بالفعل أن يكون هذا التطابق قد غاب عن بال قادة تركيا الأردوغانية الساعين، من فوق الماضي الأتاتوركي القريب، إلى ما هو أكثر، أيديولوجياً في الأقل، من تصالح الأمة التركية وجمهوريتها العلمانية الحديثة مع ماضيها وتاريخها الإسلاميين في نسختهما وسرديتهما العثمانية: استعادة المكانة التاريخية واستئناف ملحمة التأسيس.
هذا التلميح يظل إذاً حمّال أوجه. ولكن يسعنا، وإن بقدر من الاختزال، أن نتوقف عند وجهين متعارضين للتدخل العسكري التركي لتطهير جرابلس السورية من المجموعات الموصوفة بالإرهابية. فهو يظهر في بيئات المرحبين بالتدخل المباشر في صورة وعد "شرعي" بالفتح المبين الذي سيضع حداً لفوضى العصابات المملوكية الكثيرة وبتثبيت قواعد أصلب لنظام جديد. في هذه البيئات وفصائلها المسلحة، مثل السلطان مراد وجماعة نور الدين زنكي، لا تعود سلبية صورة "السلطان" العثماني المنسوبة، في زمن السيولة والاستسهال الإعلاميين، إلى رجب طيب أردوغان. في المقابل، يظهر التدخل التركي، في بيئات المنددين به أو المشككين في صدقية ادعاءاته ونواياه، في صورة اجتياح توسعي ثقيل الوطأة والوصاية مثله مثل التاريخ العثماني كله، أي أنه قاتل للوطنيات الناشئة، أكانت كردية أم عربية أم سورية قطرية ومحلية.
يتبدى، في كلا الحالين، مدى صعوبة مقاربة الحقبة العثمانية في منظار تاريخي وكموضوع مستقل ومتمايز عن أهواء الأيديولوجيات الحديثة القومية منها والفئوية الضيقة.
التشديد على هذه المسألة ضروري لأنه يقلص فرص الوقوع في المغالطات التاريخية الشائعة، كما يلجم نزعة الخلط بين أزمنة ما قبل الوطنيات الحديثة واكتساب الجنسيات والقوميات صفات سياسية طارئة وبين زمننا هذا، زمن انهيار الأطر الوطنية الموروثة عن كيانات سايكس - بيكو وحقبة الاستقلال اللاحق، وهو أيضاً زمن جموح الجماعات العرقية والمذهبية والجهوية إلى الاستيلاء كعصبيات هائجة على معنى السياسة.
هناك بالطبع من يرفض عن حق هذا التبسيط المانوي للعلاقة التاريخية المركّبة والمديدة بين جماعات المشرق والدولة العلية، على اضطراب هذه العلاقة وتقلبات أحوالها وأوصافها. وإذا كان من السهل أن نرى في صفة السلطان الملصقة إعلامياً بأردوغان ضرباً من الإثارة الدعوية السهلة والرخيصة، فإن العقدة لا تكمن في المطابقة بين الرئيس التركي الحالي والسلطان سليم، بل تكمن في معرفة من هو اليوم قانصو الغوري الذي هزمه السلطان العثماني قبل خمسة قرون. هل هو تنظيم "داعش" أم نظام بشار الأسد أم حزب الاتحاد الديموقراطي القريب من حزب العمال الكردستاني ومعه وحدات حماية الشعب وقوات سورية الديموقراطية ذات الغالبية الكردية؟ قد يكون هؤلاء كلهم وفق البعض.
جرابلس ليست مرج دابق. يرى كثيرون أن هذا بديهي وأنه من أبسط مستلزمات الحس السليم، إذ لا يعقل أن تكون القرون الخمسة الحافلة بما لا يحصى من التبدلات ومن جريان مياه كثيرة تحت جسورها مجرد اجترار لماض لا يمضي. على النحو ذاته، قيل في بدايات الربيع العربي وانتقال شرارته من بلد إلى بلد، إن سورية ليست ليبيا وهلم جرا. وقد صدر هذا التشخيص الإجمالي عن مواقع متعارضة، فقد صرح بذلك بشار الأسد من جهة والمتحمسون للتدخل الخارجي في أوساط المعارضة من جهة مقابلة. لكن ماذا لو أخضعنا هذه البديهية للفحص والتساؤل؟ وليس المقصود بذلك موافقة هواة الزمن المصمت الشاخصين بعناد نحو فترة ذهبية تحققت فيها هوية المجتمع الإسلامي مرة واحدة وإلى الأبد بحيث ينبغي الرقص الهذياني والقيامي حولها كي تطهّر الحاضر من ماهيته النجسة. وليس المقصود أيضاً موافقة دعاة القطيعة، على اختلاف قراءاتهم وتنوع مشاربهم، مع الماضي العثماني باعتباره شراً مطلقاً وسجناً قاسياً أعاق التقدم والتنمية وينبغي الخروج منه وعليه وحرقه بالكامل. فالقراءتان، الماضوية المتزمتة والمكابرة والمستقبلية البلهاء، تصادران التاريخ لجعله على قياس الفئة أو العصبية المتسلطة. وبينهما وعلى أطرافهما تزدهر تعبيرات الحقد والضغينة والثأر كما يزدهر الوعي الشقي.
القراءتان هاتان تطمحان إلى إزالة الرموز والرسوم التي تشي بالتركيب والتفاوت والاختلاف وتحتفظان بالرضوض العميقة التي تتناقلها الذاكرة الجماعية. تشكيكنا بالبديهية المذكورة يرمي إلى النظر في البنى العميقة لمجتمعات المنطقة وفي الظواهر الطويلة الأمد والعصية على التغيّر. فتعبيرات هذه الظواهر المتعلقة بالسلوك الذهني وبأشكال الحاجة إلى التديّن والعبادة وموقع العلاقة القرابية أو المذهبية أو الإتنية في طريقة بناء السلطة أو رفضها وإدارة الثروة الوطنية...، بقيت على هامش الحياة السياسية من طريق الكتم والتستر حيناً ومن طريق إخراجها في صورة فولكلورية حيناً آخر.
من الواضح أن التوغل التركي المسبوق باستدارات أردوغانية لافتة وبانقلاب فاشل لا يعدم الصلة باعتبارات تتعدى الحسابات الظرفية. فازدهار الحديث عن رسم خرائط جديدة بسبب موت الكيانات الموروثة عن الحرب الأولى، خصوصاً مع تمدد "داعش" على إقليم يربط سورية والعراق، وبسبب تصدّع الوطنيات المعهودة، افترض أن تركيا خارج اللعبة. والحال أن اشتباك لاعبي العالم كله تقريباً في سورية المحطمة أيقظ شياطين عصبيات تركية مختلفة بقيت تتلجلج تحت القشرة السميكة للدولة الأتاتوركية وعسكرها. وفي قلب هذا التلجلج نجد المشكلة أو المسألة الكردية. تحت غطاء دعم مسلحي المعارضة المعتدلة لتطهير الحدود السورية - التركية من "داعش"، يسعى التدخل التركي إلى منع قيام إقليم كردي متصل. وقد يرضخ هؤلاء. لكن المعضلة باقية.