الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التراجع الأمريكي عن قرار الانسحاب من سوريا وصرامة الموقف التركي

التراجع الأمريكي عن قرار الانسحاب من سوريا وصرامة الموقف التركي

14.01.2019
صادق الطائي


القدس العربي
الاحد 13/1/2019
بدأت في الأيام القليلة الماضية ما يمكن اعتبارها هزات ارتدادية للزلزال الذي ضرب المشهد السوري الذي أحدثه إعلان الرئيس دونالد ترامب، فالكل توقع أن قرار الرئيس المتسرع بسحب القوات الأمريكية من سوريا غير قابل للتنفيذ بالطريقة التي أعلنها والتي بدت وكأنه يدعو إلى سحب فوري للقوات الأمريكية ‏عندما أطلق تغريدته يوم 19 كانون الاول / ديسمبر الماضي على حسابه الرسمي على “تويتر” وضمنها فيديو أشار فيه إلى أن جنود الولايات المتحدة سوف يقضون فترة الأعياد مع عوائلهم. لكن سرعان ما تداركت التصريحات الرسمية والتسريبات شبه الحكومية الأمر ونوهت إلى أن الانسحاب سيستغرق قرابة أربعة أشهر ولن يتم بشكل فوري، ثم ما لبثت تداعيات الأمر على الساحة الإقليمية وتخوف حلفاء الولايات المتحدة من الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الأمريكي أن جعلت التصريحات الأمريكية الرسمية تنفي أي موعد محدد للانسحاب وتتركه معلقا ومرتبطا بالتنسيق مع الحلفاء على الأرض.
 بدا ذلك للمراقب وكأن الأمريكان يتخلون عن حليفهم الكردي الذي قاتل معهم ودفع التضحيات الجسيمة في حربه ضد تنظيم “الدولة” طوال السنوات الماضية، واليوم جاء موعد انسحابهم المفاجئ ليتركوه لقمة سائغة لهجوم محتمل سواء من الجيش السوري أو من الجيش التركي. وبعد موجة الاستقالات الاحتجاجية على قرار ترامب، والتي كان أبرزها استقالة وزير الدفاع جيم ماتيس، تحركت شخصيات مهمة في ما تبقى من إدارة ترامب في محاولة لرأب صدع ما أحدثه تصريح الرئيس المتسرع، وفي محاولة للملمة الفوضى التي تسبب في إحداثها، إذ تحرك مستشار الأمن القومي جون بولتون في زيارات إلى المنطقة شملت إسرائيل وتركيا، كما تحرك وزير الخارجية مايك بومبيو في جولة شرق أوسطية تشمل الأردن والعراق ومصر وبعض الدول الخليجية مهمتها الأساسية مناقشة وضع القوات الأمريكية في سوريا.
تصريحات متضاربة
بينما نشاهد تخبط موقف إدارة ترامب في إدارة ملف التواجد الأمريكي في سوريا نجد من الناحية الأخرى نوعا من الثبات الاستراتيجي في المواقف الأخرى كالموقف التركي والروسي والإيراني والسوري. فتصريحات الرئيس ترامب وعدت بانسحاب أمريكي سريع مع إشارة إلى التنسيق مع الرئيس التركي لملء الفراغ الحاصل من انسحاب القوات الأمريكية، ثم بات الحديث اليوم سواء في تصريحات بولتون من إسرائيل أو في تصريحات بومبيو من العراق يناقض ذلك ويشير إلى ضمان أمن حلفاء الولايات المتحدة من قوات سوريا الديمقراطية على الأرض.
لكن الموقف التركي كان صارما وواضحا معتبرا تنظيم “الدولة” إرهابيا ويجب محاربته، كما وضعت تركيا كل الأطراف الكردية التي تضم حزب العمال الكردستاني التركي وحلفاءه من أكراد سوريا، وقوات حماية الشعب، وقوات سوريا الديمقراطية، في سلة واحدة متهمة إياهم بالإرهاب. هنا بدا الموقف شائكا ومحيرا وملتبسا، فتركيا حليف إستراتيجي للولايات المتحدة وعنصر فاعل في حلف شمال الأطلسي، وتعمل باستمرار على نقل رسائل تطمين إلى الأمريكان تخبرهم عبرها أنها مستعدة للعب دور مهم في تحجيم النفوذ الإيراني في الإقليم، لكنها في الوقت نفسه، ومن جانب آخر، تسعى إلى تنسيق وجودها العسكري والسياسي مع الروس والإيرانيين عبر مؤتمرات المصالحة في سوتشي واستانة وجنيف بعيدا عما ترغب فيه الولايات المتحدة.
واليوم يبدو الموقف معقدا بشكل أكبر بعد أن كان الموقف في شمال غرب سوريا، وتحديدا في إدلب وبعض مناطق الريف الغربي لحلب محسوما للأتراك وحلفائهم من الفصائل على الأرض. لكن الأمر أخذ بالتغير مؤخرا عندما شن تنظيم هيئة تحرير الشام هجوما كاسحا على المناطق التي يسيطر عليها فصيل نور الدين زنكي المدعوم من تركيا وكبّده خسائر فادحة واستحوذ على كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر التي كانت بحوزته. وبدا واضحاً أن أبو محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام أراد تقديم تنظيمه لاعباً مركزياً إنْ لم يكن وحيداً أمام القوى الضامنة لعملية أستانة. وتفرض الهيئة اليوم موقفا يستند إلى معطيات الجغرافيا، إذ تتجاوز مساحة الأراضي التي يسيطر عليها الجولاني نصف مساحة إدلب وريف حلب الغربي، ما يجعل التنظيم الذي تشكل جبهة النصرة عموده الفقري يستبق عملياً أي إجراءات روسية – تركية لحسم مصير إدلب ومحيطها. وقد كان هجوم 5 كانون الثاني/يناير الجاري عملا استباقيا اختار توقيته قياديو هيئة تحرير الشام مستغلين فيه الانشغال التركي بملف شرق الفرات ومحاولة أنقرة ملء الفراغ الأمريكي في شمال شرق سوريا عبر إطلاق مفاوضات شاقة مع موسكو وواشنطن لم تتبلور نتائجها بعد. في ظل هكذا مناخ وجه الجولاني صفعة مدويّة للضامن التركي المحرج أصلاً أمام الضامن الروسي من فشله بتنفيذ التزاماته وفق اتفاق مفاوضات سوتشي الأخيرة في أيلول/ سبتمبر 2018.
وما يزال الموقف شائكا
جاءت زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون إلى المنطقة بهدف تقليل آثار زلزال الانسحاب الأمريكي الذي أطلقه الرئيس ترامب قبل أسابيع، إذ حاول بولتون تطمين حلفاء الولايات المتحدة عبر تصريحاته التي أطلقها من تل ابيب، محطته الأولى التي زارها يوم 6 كانون الثاني/ يناير، وقال في تصريحه الإعلامي الأشهر بهذا الخصوص: “سنناقش قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب، ولكن بهدف تنفيذ الانسحاب من شمال ‏شرق سوريا بطريقة تضمن أن تنظيم الدولة الاسلامية قد هُزم ولم يعد قادراً على إحياء نفسه ليصبح ‏تهديداً مجددا”. وأضاف: “وكذلك لنتأكد من الضمان التام للدفاع عن إسرائيل وأصدقائنا الآخرين في المنطقة، ‏وللاهتمام بمن حاربوا إلى جانبنا ضد تنظيم الدولة الاسلامية وغيره من الجماعات الإرهابية”.
من جانبه أكد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على النقاط نفسها التي أكد عليها بولتون إذ صرح من العاصمة العراقية بغداد قائلا: “من المهم بذل كل ما في وسعنا للتأكد من سلامة أولئك الذين قاتلوا معنا”. ومن أربيل، عاصمة إقليم ‏كردستان العراق، أكد بومبيو كذلك على أن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان “قد قدم ضمانات، وهو يقدر‏أننا نريد التأكد منها”. وأضاف “سنحقق تقدما حقيقيا في الأيام المقبلة”.
لكن الموقف التركي من جانبه كان مناورا، إذ كشفت صحيفة أمريكية عما طلبته تركيا من الولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص الانسحاب من ‏سوريا والدور التركي الذي سيعقبه. وقالت “وول ستريت جورنال” إن تركيا طلبت دعما عسكريا ‏كبيرا يتضمن عمليات الدعم الجوي والنقل وخدمات لوجستية أخرى، لكي تتمكن من تحمل ‏المسؤولية الكبيرة المترتبة على انسحاب القوات الأمريكية  من معركة محاربة “تنظيم الدولة” في ‏سوريا، وذلك نقلاً عن مسؤولين أمريكيين كبار.
لكن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان كان قد ذكر أن الانسحاب الأمريكي من سوريا يجب أن يُخطط له بعناية ومع الشركاء المناسبين، قائلا إن بلاده هي الدولة الوحيدة “التي لديها القدرة والالتزام بإتمام المهمة”. وفي مقال له في صحيفة “نيويورك تايمز” قال اردوغان إن تركيا ملتزمة بهزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” وغيره من “الجماعات الإرهابية” في سوريا. وأردف أن “تركيا، التي تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف شمال الاطلسي، هي الدولة الوحيدة التي لديها القوة والالتزام لتنفيذ ‏المهمة”.
لكن يبدو أن تصريحات بومبيو وبولتون حول التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها الأكراد أثار حفيظة وامتعاض الرئيس اردوغان، وقد انعكس ذلك بوضوح على زيارة جون بولتون التي قام بها إلى تركيا والتي استمرت يومين لكنه لم يحض خلالها بلقاء الرئيس اردوغان الذي رفض مقابلته، لذلك اقتصرت مشاورات جون بولتون مع المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، ومساعدي وزيري الخارجية والدفاع، ومساعد رئيس جهاز الاستخبارات. وجاء تعليق اردوغان على تصريحات بولتون عنيفا يوم الثلاثاء 8 كانون الثاني/ يناير الجاري إذ انتقد بشدة تصريحات بولتون التي دافع فيها عن شركاء بلاده الأكراد في سوريا والذين أدرجتهم أنقرة على لائحة “الإرهاب”.
وصرح اردوغان في كلمته معربا بخصوص تصريحات بولتون التي أعلنها الأحد خلال زيارته لإسرائيل إن تصريحات بولتون “غير مقبولة بالنسبة لنا ولا يمكن التساهل معها”. وأضاف “لقد ارتكب جون بولتون خطأ فادحا” لتأتي الفقرة الأكثر عنفا في خطابه والتي بينت بوضوح الموقف التركي إزاء الموقف من الملف السوري الشائك إذ قال: “في حين أن هؤلاء الناس هم إرهابيون البعض يقول (لا تقتربوا منهم، إنهم أكراد). قد يكونون أيضا أتراك أو تركمان أو عرب إنْ كانوا إرهابيين فإننا سنقوم باللازم بغض النظر من أين اتوا”. وتابع: “سوف ننتقل قريبا إلى الفعل من أجل تحييد الجماعات الإرهابية في سوريا”.
فهل تمكن التحرك الدبلوماسي الأمريكي عبر جولتي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية من نزع فتيل الأزمة التي أشعلها الرئيس ترامب؟ هذا ما لم تتضح معالمه حتى الآن.