الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التسامح والعيش المشترك

التسامح والعيش المشترك

02.05.2015
كمال عبد اللطيف



العربي الجديد
الخميس 30-4-2015
لا نعتبر أن الدعوة إلى مطلب التسامح، أو العناية به اليوم، كمفهوم في الفلسفة السياسية الغربية، أو في الفكر العربي، يُعَدُّ من باب الاهتمام العارض أو المؤقت، أو الاهتمام المرهون بمعارك سياسية محدَّدَة، ذلك أن التحوُّلات الجارية في مجتمعاتنا العربية، وفي العالم، تدعونا إلى استحضار المفهوم، والتفكير في كيفيات جعله من وسائل تجاوز أعطابٍ وعِلَلٍ كثيرة أصابت مجتمعاتنا.
ينطبق الأمر نفسه على المجتمعات الغربية، سواء في علاقتها بالتحولات التي تجري داخلها في موضوع المجموعات البشرية المتساكنة معها، أو في علاقتها بمستعمراتها السابقة، وكذا في رؤيتها لكثير من قضايا المجتمع الدولي، وبؤر الصراع المنتشرة في العالم. ففي القضايا المشار إليها، على سبيل التمثيل لا الحصر، نُعايِن، اليوم، بالمكشوف كثيراً من مظاهر الانغلاق والتعصب واللاّتسامح، إن لم يكن الرفض المطلق والنفور الأعمى، كما نقف على مختلف صور عدم الاعتراف بالآخر، وخصوصياته التاريخية والثقافية، ليظل التمركز على الذات عنواناً لغطرسة متواصلة، ما يفضح، في العمق، ازدواجية خطابات ومواقف الغرب وتناقضها مع الأسس والمبادئ والفلسفات التي قامت عليها الحضارة الغربية.
وإذا كنا نعرف أن خطابات التسامح الأنوارية، كما نشأت وتطوَّرت في أعمال اسبينوزا ولوك وﭭﻭلتير، قد ساهمت في عمليات الاستواء النظري للمفهوم، في سياق معارك الحداثة السياسية الأوروبية مع الكنيسة وطقوسها وصكوكها، فإن التطور الذي لحق المفهوم بعد ذلك، في سياق الفكر المعاصر، ساهم في التقليص من شحنة دلالته الدينية، لحساب دلالة أخلاقية سياسية أوسع، في إطار فهم محدد للحرية والعدالة، وهما المفهومان المحايثان له.
ساهمت مواثيق حقوق الإنسان وفلسفاتها بعد ذلك، في تطوُّر وإغناء حمولة المفهوم خلال عقود القرن الماضي، وفي أثناء مراحل الانتقال الديمقراطي، في مجتمعاتٍ كثيرة في أوروبا وأميركا الجنوبية وفي أفريقيا، الأمر الذي وسَّع دوائر الدلالة في المفهوم، فأصبح يستوعب مجالات اجتماعية وسياسية ومعرفية، لم تكن واردةً بشكل مباشر، في سياق تبلوره الاصطلاحي الأول، ضمن معارك الدولة والكنيسة، في أوروبا الحديثة. وقد تطوَّر المفهوم، بموازاة ذلك، في سياق الفلسفات الأخلاقية والسياسية المعاصرة، حيث استوعبت دلالته معارك سياسية واجتماعية مرتبطة بتطور المجتمع المعاصر، داخل البلدان الديمقراطية، حيث يجري العمل على بلورة المعايير التي تُمكِّن من مأسسة كل ما يسمح بترسيخ القيم المدافعة عن العدالة والمساواة، وفي مقدمتها التسامح.
وفي ضوء ما يجري اليوم من صراعات في المجتمع العربي، تتأكَّد حاجتنا، وحاجة مجتمعاتنا وثقافتنا إلى التسامح، فضيلة عقلية وأخلاقية، لا ترتبط فقط بميراث نظري تاريخي معين، بل ترتبط، أولاً وقبل كل شيء، بحاجتنا الفعلية والتاريخية لما تختزن معانيه من فضائل وقيم. ففي حاضرنا مظاهر انغلاق وقهر وتعصُّب وإقصاء كثيرة، وقد تضاعفت المظاهر المذكورة في الطور الانتقالي الذي تَعبرُه اليوم بكثير من العُسْر أغلب بلدان الثورات العربية. كما أن أخلاق عدم الاعتراف بالآخر، والنظر إليه من زاوية أنه مصدر خراب، تتواصل اليوم في مجالات الصراع الدولي. وعندما نتأمل، اليوم، خطابات الاتحاد الأوروبي في موضوع الهجرة والمهاجرين، ندرك عمق المسافات التي تفصل القارات عن بعضها، والمجتمعات عن بعضها. وندرك، في الآن نفسه، أهمية، بل ضرورة، استحضار مفهوم التسامح وسيلة للدفاع عن التعايش، والإقرار بالاختلاف، والاعتراف بالحرية، قيمة لا تقبل المساومة.
"تتأكَّد حاجتنا، وحاجة مجتمعاتنا وثقافتنا إلى التسامح، فضيلة عقلية وأخلاقية، لا ترتبط فقط بميراث نظري تاريخي معين، بل ترتبط، أولاً وقبل كل شيء، بحاجتنا الفعلية والتاريخية لما تختزن معانيه من فضائل وقيم
نزداد كل يوم تأكداً من أن الغرب لم يستطع، في سلوكه الفعلي المباشر، تمثُّل روح التسامح، ولم تمكنه دروس تاريخ الفلسفة السياسية من لوك إلى لتير إلى راولز وأمارتيا سن، ودروس تاريخ العلم المؤسسة لمبدأ النسبية في المعرفة، من الاعتراف بالآخر وثقافاته، بصورة تتجاوز المفارقات التي ولَّدها تاريخه المعاصر في علاقته بالآخرين، في أفريقيا وآسيا وباقي قارات العالم. وإذا كانت حصيلة النظر الأخلاقي المتمثلة في المواثيق والعهود المتعلقة بحقوق الإنسان، قد بلورت من الشرائع والمبادئ والقواعد، ما ينبئ عن جهود مهمة في الفكر السياسي والحقوقي، فإن الأفعال والمبادرات والمواقف وردود الفعل القائمة في الواقع تكشف وجود تناقضات مرعبة بين النظر والممارسة، حيث تعكس الممارسات تراجعات رهيبة عن منطوق المبادئ والشرائع المعلنة وروحها.
ينطبق الأمر نفسه على واقع المجتمعات العربية. ومن هنا، نستنتج أن معركة التسامح مفتوحة. صحيح أنها جديدة في مجتمعنا، حيث دُشِّنَت قبل مائة عام في السجال الذي دار بين فرح أنطون ومحمد عبده في موضوع الاضطهاد في المسيحية والإسلام، إلاَّ أنها تُستأنف، اليوم، في المعارك الفكرية والسياسية التي تطالب بفتح باب الاجتهاد في مجال مراجعة الظواهر التراثية ونقدها، وهي تعد اليوم من بين المعارك التي لا ينبغي أن نغفلها، سواء في مواجهتنا ذاتنا، أو في مواجهة الآخرين. فهل نستطيع القول، في ضوء ما يجري اليوم في مجتمعنا وثقافتنا، إنها معركة لم تعد قابلة للتأجيل؟