الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التطرف الأصولي في سوريا (2)

التطرف الأصولي في سوريا (2)

17.08.2013
ميشيل كيلو

السفير
السبت 17/8/2013
اندفع شباب حملوا راية السلمية خلال فترة التظاهر الاولى الى طلب السلاح من اي مصدر، بعد ان وجدوا انفسهم في قبضة موت لا يستثني احدا منهم، لمجرد انهم شباب. بما ان سلاح الاصولية كان هو الامضى والاكثر فاعلية وتطورا، وأموالها أكثر وفرة، فإن الشباب انضموا إليها حبا بالحياة ودفعا لأذى السلطة عن ذويهم ووطنهم لا حبا بآرائها، خاصة بعد ان مارست عنفا خارج المألوف يقلد عنف النظام، وبعد أن قال قادة عالميون إن المنظمات الأصولية صارت خطيرة على بلدانهم، التي كره السوريون مواقفها من مأساتهم، وتعمدوا الانضمام إلى خصومها بالذات لا سيما بعد إقناعهم بأن رسالتهم العنيفة ستكون نبيلة، وأنهم لن يقاتلوا فقط نظاما عميلا لاسرائيل واميركا، وإنما سيقاتلون أيضا من سمح له بسفك دمائهم وقتل احبائهم وتدمير وجودهم، فمهمتهم مزدوجة، وهم لن ينتقموا من النظام وحده، وإنما كذلك من الذين سمحوا له بممارسة إجرام لا يرحم ضد اهلهم وذويهم. هذا المزاج العام عززه اعلان بعض التنظيمات الأصولية انضمامها إلى حــركة عابــرة للدول هي منظمة «القاعدة»، التي رأوا في الانتماء إليها بعدا تحالفيا مقابلا ومعاكسا لما يسمونه التحالف السلطوي الصهيو ـ أميركي، المكمل للتحالف الروسي الإيراني مع النظام. هنا، ثمة فارق مهم يميز التنظيمات الأصولية عن «الجيش الحـر» وبقــية الأحـزاب السورية. ويتجلى ذلك في كون الأخــير يحــارب بمـفرده حلفا إقليميا دوليا متشابكا، في حين يستطيع حلف «القاعدة» العراقي السوري بما له من دعم مالي سلاحي، وتأييد شعبي اسلامي عابر للحدود تحسين شروط المواجهة مع الأعداء، علما بانه جــزء تكــويني من تنظيم عالمي أذاق الغرب ونظمه العميلة الأمرين، وصمد في صراعه مع هؤلاء وأعجزهم عن القضاء عليه، برغم أنه ينتشر ويقاتل في كل مكان من ارض العرب والمسلمين، ويجسد سندا قويـا للجــهاد السوري ضد النظام والغرب الصهيــوني، الــذي وقف مع النظام خلال المأسـاة الســورية ولم يفعــل شيئا ضده.
إضافة الى ذلك، هناك حجم التدمير والتشريد الذي قوض تماما حياة السوريات والسوريين الشخصية، ودمر مصادر رزقهم المادية ومواردهم، ورماهم في جوع لم يسبق لهم ان واجهوه، لأنهم لم يكونوا جياعا او مشردين في أي يوم من تاريخهم الحديث. استغل الاصوليون هذه الواقعة، وعاملوا الناس بطريقة من يهتم لمصيرهم، بعد أن وضعوا يدهم على جزء لا بأس به من موارد وثروات سوريا، اتاح لهم دخلا ثابتا وإنفاقا منظما مكنهم من إمداد مناطق سيطرتهم ببعض السلع الحيوية، الضرورية للعيش، ووضعهم في موقع أعلى من مواقع سواهم من خصوم النظام، وجعلهم يبدون كمنافسين له، بينما غرق الجيش الحر غرقا تعاظم باضطراد في نقص السلاح والمال وأخيرا في الفقر والجوع، وبدأ المنتمون إليه ينتقلون إلى هذا التنظم الأصولي أو ذاك، طلبا للسلاح الأفضل والذخائر الأوفر والطعام المتاح، علما بأن الانتقال إلى الموقع الجديد بدا وكأنه لا يعني الكثير على الصعيد الأيديــولوجي، في حين يبرز معناه واضحا على المستوى العملي: مستوى القتال ضد النظام. ولعله ليس سرا أن الفاعلية الميدانية للتنظيمات الأصولية كانت لفــترة طــويلة اعلى من فاعلية وحدات كثيرة في الجيش الحر، الذي لم يعـرف كثــيرون له قيــادة او قوامــا ثابتــا، بينما أدارت معارك وسياسات الأصوليات مراكز قيادية موحدة، تكفلت بالإشراف على معاركها وأمدتها بما احتاجت إليه من طعام وسلاح وذخيرة، حتى شاعت فكرة تقول: حيث يخفق «الجيش الحر» في تحقيق انجازات عسكرية، تصير الحاجة إلى قوات التنظيمات الأصولية جدية، ويكون من المحتم استدعاؤها والاستعانة بها.
ما مستقبل التطرف في سوريا وكيف يعالج؟ هذان سؤالان هامان يرتبط بالاجابة عليهما مستقبل ومصير وطننا، الذي يعاني من انفلات اصولي متطرف غريب عن تاريخه وثورته، شرع يفتك بقدراته المستنزفة بقوة، ويدمر قضيته العادلة ويحولها من ثورة تمثل خطوة على طريق الحرية إلى فوضى تهدد البشرية بأعظم المخاطر، يجبر الخوف منها الدول على أحد خيارين: الابتعاد عن مطالب وحقوق شعب سوريا اكثر مما هي بعيدة عنها، وربما معاداتها باعتبارها التربة التي ينمو فيها التطرف اليوم وستنطلق منها الأزمات والتحديات المسلحة غدا، وإلا فإكمال الانحياز إلى النظام ومساعدته على كسب صراعه ضد الشعب، الذي لن يقبل تحوله إلى داعم لأصولية يرفضها العقل ويحاربها أركان النظام الدولي، المختلفون اليوم على مستقبل سوريا والمتصارعون على ارضها، الذين شرعوا يؤمنون بارتباط اصوليته بنضالها اكثر مما يرونها مرتبطة بنظامها، على الرغم من علمهم بانه لطالما رباها ورعاها، وشكل منظمات لها ومنها ارسلها إلى بقية الدول العربية والاجنبية، أو احتفظ بها لساعات الشدة، ليستخدمها في تشويه سمعة خصومه باعتبارها جزءا منهم وليست تكوينا اشرف هو على ولادته، كما يفعل منذ بعض الوقت في اكثر من واحدة من عواصم العالم الغربي الكبرى، بنجاح نسبي لا يستهان به.
ليست الأصولية ابنة الحرية ومن المحال أن تكون وليدتها. إنها جزء بالغ السوء من عالم الاستبداد وصنيعة له. ولو كان العالم الغربي منصفا لتذكر أن من يصفهم اليوم بـ«الجهاديين» اتوا بعد العام 2003 من سوريا ليقاتلوا اميركا في العراق، وأن النظام درب الآلاف منهم وسلحهم واشرف على تسللهم إلى ميادين المعارك، وأن القسـم الأول منهــم رجــع من العراق بعد منتصف العـام 2012 الى ســوريا. سوريا التي كانت خالية بصورة تكاد تكون تامة منهم، وارتبطوا بظاهرة تفشي العنف كإفراز للسياسات الأسدية، ولم يرتبطوا بصرخة الحرية والمواطنة، التي انطلقت من المجتمع، معلنة تصميمه على طي صفحة الاستبداد إلى غير رجعة. علما بأن السوريين لم يمحضــوا الأصوليــة أي تأييــد جــدي إلـى اليــوم، بــدلالة التظاهرات الشعبية المعادية لها، التي انطلقت خلال الأشهر الأخيرة في كل مكان، وطالبتها بالخروج من ديارها وبرفع يدها عنها وعن ثورتــها. ويلاحــظ انها الى ازدياد يومي، وانها ترفض الأصــولية وتواجهها سلميا في الميادين والساحات التي عرفت مواجهاتها السابقة مع النظام الأسدي وأصولييه، مع ما في ذلك من دلالات هائلة الرمزية والأهمية، قد تخفى على كثير من الدول، لكنها لا تخفى على اي مراقب نزيه.
لم تنطلق الثورة السورية من فكر اصولي، ولم تبدأ على يد قوى أصولية، وكانت نتائج تسرب الأصولية إلى مجتمعها مضادة لرهاناته، لذلك نلاحـظ في كل مكان من سوريا اليوم صحوة مدنية عارمة، يحملها شباب راغب في استعادة مطلب السوريات والسوريين الرئيس: الحرية لمواطنات ومواطني شعب واحد موحد، يلاحظ انه يعزف أكثر فأكثر عن قبول أي طرف لا يجعلها مادة برامجه وموضوع نضالاته، ويتــظاهر ضده ويقاومه من دير الزور إلى حوران، من دون أن ينجح حتى الآن في إبطال الشروط الملائمة لتخلق الأصولية وتنظيماتها سواء في سياسات النظام أو في أوضاع الجيش الحر والسياسات العربية والاقليمية والدولية.