الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التغريبة السورية ..نظرة مختلفة

التغريبة السورية ..نظرة مختلفة

09.07.2015
علي الرشيد



الشرق القطرية
الاربعاء 8/7/2015
لم تعد التغريبة مقتصرة على الفلسطينيين، فقد دهانا ما هو أشد وأنكى وأكبر منها منذ عدة سنوات، ونقصد بتلك التغريبة السورية التي هي في الصدارة، وثمة تغريبة عراقية ويمنية، بسبب إصرار الأنظمة المستبدة على التصدي بالحديد والنار لمطالبات الشعوب لها بحقها في الحرية واستعادة كرامتها، أو الانقلاب على ثوراتها والمؤسسات الديمقراطية الشرعية التي انبثقت عنها، وإعادة البلاد للحكم العسكري الديكتاتوري.
وتبرز مأساة اللاجئين في المنطقة العربية، على اعتبار أن الأزمات التي شهدتها المنطقة خلال الأعوام الأخيرة، كانت مسؤولة عن العدد الأكبر من اللاجئين في العالم، وقد بدا ذلك واضحا في تصدر أزمة اللاجئين السوريين للفعاليات التي نظمتها المفوضية العليا للاجئين في مناطق مختلفة من العالم، حيث وصفها البعض بأنها أسوأ أزمة لجوء منذ الحرب العالمية الثانية (حوالي 4 ملايين شخص في مدة أربع سنوات).
في مثل هذه الظروف وبسبب حجم الكارثة وتفاوت قدرة اللاجئين على تلبية الاحتياجات الأساسية الخاصة بهم وبأسرهم من مسكن ومأكل وتعليم ورعاية صحية وتفاوت القدرة على احتمال شدة وطأة المصاب، وصمت العالم عن هذه المأساة الإنسانية الكبيرة، تتفشى مشاعر الإحباط واليأس في أوساط شرائح من اللاجئين، وتهيمن السلبية والسخط على حياتهم، في مواجهة ظروف الغربة التي فرضت عليهم قسرا، بدلا من التكيف مع البيئة الجديدة واستثمار إيجابياتها في حاضرهم ومستقبلهم.
أعجبني في هذا الصدد الفيلم القصير:"هاجر" الذي لقي ومازال تفاعلا واسعا على شبكات التواصل الاجتماعي، باعتبار أنه يعرض مفهوما مختلفا للهجرة، ويعطي نظرة جديدة لمفهوم الوطن والغربة، حيث يقارن بين ما فعله الرسول الكريم عندما هاجر من مكة إلى المدينة، وما قد يفعله بعض من يهاجر اليوم تاركا وطنه وأرضه حاليا، ويحرص الفيلم الذي أنتجته وأخرجته كوادر سورية فرض عليها البعد عن وطنها في السنوات الأخيرة، على تذكير المغترب بضرورة السعي للاستفادة من مكاسب البلد المحتضِن، بدل البكاء على أطلال الوطن وحلم العودة، رغم أهميته، طالما أن الابتعاد جاء لأسباب قسرية.
لا شك أن الغربة فصل طارئ في حياة الناس، والأصل هو العيش في الأوطان وإسهام أبنائها في بنائها وتنميتها، والتطلع للعودة إليها مهما شطّ المزار وبعدت المسافات، وبلغ حجم التحديات التي تمنع من ذلك لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، باعتبار أن ذلك غريزة إنسانية فطر الله الإنسان عليها، ولكن بالإمكان تحويل المحنة التي تفرض على البشر إلى منحة، واستثمار الفرص لصالح الإنسان اللاجئ أو المهاجر حتى تحين ساعة العودة، ونقصد تطوير القدرات والمهارات والإفادة من خبرات الدول المستضيفة والفرص المتاحة فيها والمزايا النسبية التي تتمتع بها، وتقديم نماذج مشرِّفة على مستوى الأفراد والمجموعات من خلال التفاعل مع بيئات الدول التي استقبلتهم. وهو ما سينعكس على مستقبلهم الشخصي وعلى مستقبل بلادهم الذي يفترض أن يسهموا في صياغته.
وقد كشفت الأيام والشهور الماضية عن العديد من النماذج المشرفة قدّمها اللاجئون السوريون في الدول التي اضطروا للجوء إليها، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، فقد حصل طفل سوري لاجئ في ألمانيا على جائزة إمبراطور القراءة في مسابقة نظّمتها مكتبة بلدة هارتزبيرغ بولاية ساكسونيا، رغم مضي ثمانية أشهر على وصوله للأراضي الألمانية، كما حصلت طالبة سورية (نور ياسين) على العلامة التامة في الثانوية ببلدة شفيدت بولاية براندنبرغ الألمانية رغم أنها أتت لألمانيا لاجئة قبل ثلاث سنوات، وحدث مثل ذلك مع الطالب السوري فراس مصري في بريطانيا الذي تم تعيينه مدرسا مساعدا في جامعة مانشستر لإدارة الأعمال عام 2013، لتفوقه خلال دراسته، وتم تكريمه مؤخرا كأفضل مدرس مساعد.
وقد رصدتُ مؤخرا فوز ثلاثة من أدباء ورسامي الطفل السوريين بثلاث جوائز من أصل تسع جوائز منحت هذا العام من قبل جائزة الدولة لأدب الطفل بدولة قطر، وأعرف على الأقل واحدا منهم كان يعاني من ظروف غير مستقرة بسبب الأزمة.
وحتى لا يُحمَل المقال على غير ما أريد له، فإنه لا يمثّل بحال من الأحوال دعوة للتخلي عن الأوطان وثوراتها وقضاياها الأساسية، أو للذوبان في محيط الدول التي تستقبل اللاجئين والبقاء فيها إلى مالا نهاية، بل هو دعوة للاعتماد على الذات باقتدار والتميز والتفوق في الغربة، والتكيف مع الواقع واغتنام واستثمار الفرص المتاحة طالما أنّ ظروف اللجوء مفروضة على من اضطر لمغادرة دياره.