الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التغيير على وقع أحداث فلسطين والعراق

التغيير على وقع أحداث فلسطين والعراق

11.08.2014
د. رضوان السيد



الاتحاد
الاحد 10/8/2014
يُعتبر الحدثان العراقي والفلسطيني أهمَّ ما وقع في الشرق الأوسط في عام 2014. فالحدث العراقي أظهر فشل المشروع الإيراني لاصطناع مناطق نفوذ تمتد ما بين أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان وغزة. والحدث الفلسطيني أَظهر أزمتين بدلا من أزمة واحدة؛ استحالة استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ودخول المنطقة في زمن ما بعد الإسلام السياسي (والجهادي).
والطريف أن الإسلام الثوري أو الجهادي هو الذي فجّر الأزمتين أو أظهر فشل المشروعين: مشروع استمرار الاحتلال في فلسطين، ومشروع استمرار الهيمنة الإيرانية في المنطقة. وقد فعل الإسلام الداعشي وشبه الداعشي ذلك وهو يقوم بغزواته الانتحارية، التي تدمِّر الذات والعدوّ في الوقت نفسه.
عندما كان الأميركيون يخرجون من العراق (2010-2011) أجروا ترتيبين: ترتيب مع إيران، وترتيب بين إيران وإسرائيل. في الترتيب مع إيران منحوها الاستيلاء شبه الكامل على العراق ولبنان وسوريا. أما الترتيب بين إيران وإسرائيل فتمثّل في أخذ ضمانة من إيران أن لا تعود إلى التحرش بإسرائيل. وهكذا اطمأنّ الطرفان أحدهما إلى الآخر، وظلّت هناك مشكلات بالطبع بين أميركا وإيران، لكنها المشكلات المتعلقة بالنووي، والتي تلقّت إيران بشأنها ضمانات لا تسمح بتطور النزاع إلى حرب علنية.
بيد أنّ الأطراف الثلاثة ما حسبت حسابات كافية لعوامل أُخرى، وهي: إمكانيات التفجر الداخلي بالدول العربية، ومنها تلك الدول التي تُعتبر مناطق نفوذ لإيران، وانزعاج أطراف مثل تركيا وروسيا والصين والهند لعدم إشراكها في الصفقة الاستراتيجية، والقلق الشديد لدول الجوارين الإيراني والإسرائيلي مثل السعودية والأردن.
كانت الولايات المتحدة تعرفُ أن إسرائيل دولة محتلة، وأن احتلالها لا يمكن أن يستمر إلى الأبد لحريات وأراضي ومواطن عشرة ملايين فلسطيني بفلسطين والأردن ولبنان وسوريا. لكنها اعتقدت أنها تستطيع فعل شيء لحلّ هذه المشكلة عبر احتضان حكومة السلطة الفلسطينية، ومحاولة الوصول إلى حل ما ولو مؤقت عن طريق التفاوض. وكانت الولايات المتحدة تعرف أن حكومة المالكي إيرانية، وأن حكومة بشار الأسد طغيانية، وأنّ "حزب الله" الإيراني لا يستطيع السيطرة على لبنان للأبد. لكنها اعتقدت أن السيطرة الإيرانية يمكن الاستمرار في الضغط عليها بالحصار، ثم التفاوض على الموضوع النووي.
أما على الجانب الإسرائيلي من الصفقة؛ فإن حسابات أوباما وكيري ومساعيهما فشلت في تحريك الحل وخلال فترتي أوباما في الرئاسة. إذ اعتقدت إسرائيل أن الفلسطينيين ما عادوا قادرين على رفع درجة التحدي، وأنها آمنة من جهة أدوات إيران ("حزب الله" و"حماس") بسبب الصفقة السالفة الذكر. أما على الجانب الإيراني من الصفقة؛ فإن إيران أمنت إلى تغير السياسات الأميركية، وإلى أنه لا أولوية للولايات المتحدة غير النووي وأمن إسرائيل. وهي مستعدة للتفاوض ضمن ثنائية وقف النووي مقابل فك الحصار. وقد حدث "التمرد السوري"، كما سمّاه فؤاد عجمي، والصفقة في أوج استتبابها. والواقع أن ذلك "التمرد" أزعج الولايات المتحدة، بقدر ما أزعج إيران. لذلك ما حرَّك الأميركيون ساكناً عندما تدخل الروس وتدخل الإيرانيون لدعم الأسد عسكرياً ومالياً. وخلال عامي 2011 و2012 تبادل الإيرانيون والإسرائيليون رسائل الطمأنينة، باعتبار أنّ الحراك السوري "مؤامرة" تركية. وازداد الاطمئنان عندما دخل الأميركيون والإيرانيون في مفاوضات حول النووي، فحتى إسرائيل لم يعد لديها مبرر للشكوى من احتمال حصول إيران على السلاح النووي.
ولم ترتكب إسرائيل خطأً لجهة سوريا وأحداثها، بل دعمت من طرف خفي بشار الأسد، وتبادلت رسائل وزيارات الاستحسان مع روسيا الاتحادية لموقفها من الثورة السورية. الذين ارتكبوا الخطأ بل الخطيئة كانوا الإيرانيين فهم لم يكتفوا، مثل الروس، بالدعم العسكري والسياسي للنظام السوري؛ بل أشعلوا حرباً طائفيةً شيعيةً على الشعب السوري، عندما استجلبوا مقاتلي "حزب الله" والمليشيات العراقية للقتال في سوريا، باسم حماية المزارات ومصارعة التكفيريين! وبذلك غذّوا التكفيريين الذين قالوا إنهم إنما جاؤوا إلى سورية لمقاتلتهم! وقد بدا لأول وهلة، في صيف 2013، أنّ الثورة السورية تتآكل تحت وطأة حروب الإبادة التي شنّها الأسد والإيرانيون.
ووسط الإبادات والدماء الهائلة في سوريا (2013-2014)، نهضت الأصوليات السنية القاتلة أيضاً، والتي انطلقت من عقالها بسبب الحرب الطائفية التي شنتها إيران وأتباعها في سوريا. وفرح الإيرانيون والمالكي والأسد وبالصعود الداعشي، والذي بدا أنه يُسهم في تآكل التمرد. بيد أنّ "داعش" المهادِنة للأسد والمالكي، مستندةً إلى الغليان بسبب المذابح الإيرانية ضد السنّة، ضربت ضربتها في العراق وصولا إلى الموصل (10 يونيو 2014). وتلك نتيجة لم يتوقعها الإيرانيون أبداً وأثارت جنونهم إلى حدود القول إن الأمة الإيرانية مستعدة للتدخل في العراق لحماية المراقد المقدسة! والجنون الإيراني هذا كانت له نتائج سريعة. فقد أثاروا الحوثيين باليمن، وطلبوا من النظام السوري بإلحاح الاصطدام بـ"داعش" المستولية على آبار النفط بشمال سوريا. بيد أن أكبر خطايا الإيرانيين بعد الحرب الطائفية التي أثاروها، كانت دفعهم "حماس" إلى التحرك بغزة. وهنا بدأ الدور على إسرائيل في ارتكاب الأخطاء. فقد شنّت حربها الإبادية على المدنيين بغزة بحجة إزالة الأنفاق، فأضعفت "حماس" كثيراً، لكن جرائمها فتحت المجال للحديث في العالم عن ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بأي ثمن. إذ أن غزة والضفة، قبل "حماس" وبعدها، أرضٌ محتلةٌ من جانب إسرائيل.
والحروب الطائفية التي شنتها إيران في كل مكان، والتي أجابتها عليها الداعشية اللابسة لباس الدفاع عن أهل السنة ضد "الصفويين"، فتحت الباب على مصراعيه للبحث في كيفية إخراج إيران من مناطق نفوذها. وهو بحثٌ إن أصغى الإيرانيون المصدومون لضروراته، كفيل بإخراج بلدان النفوذ الإيراني العربية، المصابة بمليشيات الحرس الثوري ومليشيات "داعش" معاً.
ما الذي يحدث الآن وما هي تداعياته المتوالية؟ الذي يحدث أن النصف مليون عربي المقتولين، والملايين العشرة من المهجرين، في أقل من خمس سنوات، صار صوت استغاثاتهم مسموعاً الآن. فالنار تنتشر فيما بين الموصل والعريش والمتوسط. ومن جهة العريش ورفح والصحراء الغربية وليبيا، تتقدم مصر للتعامل مع الخطرين: الاحتلال الإسرائيلي، والهيجان الإرهابي. أما من جهة العراق والشام فتتقدم السعودية لصون الدماء والعمران ووحدة المجتمعات واستقرارها في وجه الفتن والحروب الطائفية والإرهاب معاً.
قال لي أستاذ ألماني مختص بالدراسات الشرق أوسطية: لو أن الإيرانيين والإسرائيليين والأميركيين أصغوا إلى "صوت العقل والمصلحة"، لما كانت "داعش"، ولا كانت الخسائر الهائلة. ثم تابع: لكنْ أين كان يمكن التماسُ العقل؟ عند سليماني أم المالكي أم الأسد أم أبو بكر البغدادي ومليشيات أبو الفضل العباس؟