الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التوازن الدقيق: مسار العلاقات الأمريكية التركية في عهد بايدن 

التوازن الدقيق: مسار العلاقات الأمريكية التركية في عهد بايدن 

26.05.2021
باسم راشد

 
ذات مصر 
الثلاثاء 25/5/2021 
تشهد العلاقات الأمريكية التركية منذ وصول بايدن للسلطة في الولايات المتحدة، تصاعدًا ملحوظًا للتوتر بين البلدين، وذلك رغم ما يربط الطرفين من علاقات ومصالح استراتيجية لها أبعادها الإقليمية والدولية، فضلًا عن كونهما حليفين مشتركين في حلف الناتو منذ 70 عامًا، بما يدفع للتساؤل حول مسار العلاقات التركية الأمريكية في المرحلة المقبلة. 
هل سيكون مسارًا تصادميًا أكثر أم تعاونيًا؟ أم أن التوتر الحالي لا يعدو كونه مناورة سياسية من إدارة بايدن لتحقيق التوازن في العلاقة بين البلدين عبر إبراز إمكانية الضغط على تركيا وفي الوقت ذاته السعي لاحتوائها وتعزيز التقارب معها؟ 
ضغط أمريكي متزايد 
توجد مؤشرات عدة توضح طبيعة الضغط الأمريكي على تركيا منذ تولي بايدن السلطة، يمكن إبرازها على النحو التالي: 
تصريحات بايدن المتكررة المنتقدة لأردوغان وللسياسات التركية 
في يناير 2020، وصف بايدن الرئيس التركي أردوغان بالمستبد، وندد بسياسته تجاه الأكراد، ودعا إلى دعم المعارضة لإزاحة أردوغان عبر الانتخابات، وذلك خلال مقابلة مصورة مع صحيفة “نيويورك تايمز”، وهي التصريحات التي أثارت ردود فعل غاضبة لدى تركيا. 
وفي 21 مارس الماضي، انتقد بايدن انسحاب تركيا من “اتفاقية إسطنبول” الموقعة عام 2011، والتي تهدف إلى حماية المرأة من العنف الأسري، قائلًا إنها خطوة “مُخيبة للآمال”. 
وفي المقابل، لم يتوانَ أردوغان هو الآخر عن انتقاد بايدن في بعض المناسبات، ففي 19 مارس الماضي، انتقد أردوغان بايدن على تصريحاته عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي وصفه فيها بـ”القاتل”، مؤكدًا أنها “تصريحات لا تليق برئيس دولة. ومن غير المقبول أن يستخدم رئيس دولة عبارة كهذه بحق رئيس الدولة الروسية بوتين”. 
استبعاد تركيا رسميًا من برنامج تطوير المقاتلة الأمريكية “إف-35” 
ففي 21 أبريل 2021، أخطرت واشنطن أنقرة بإخراجها رسميًا من برنامج مشترك يشرف عليه حلف الناتو لإنتاج وتطوير المقاتلة الأمريكية “إف-35” بسبب إصرارها على اقتناء منظومة الدفاع الجوي الصاروخي الروسية “إس- 400، وقد كان هذا التوجه ساريًا منذ يوليو 2019 بعد تسلم تركيا المنظومة الجوية الروسية، لكنه تم تأكيده رسميًا من خلال هذا القرار. 
وقد أثار الأمر غضب تركيا، التي أشار رئيس صناعاتها الدفاعية “إسماعيل دمير”، في 7 مايو الجاري، أنه لا يمكن لدولة بمفردها إخراج تركيا من هذا البرنامج، وفقًا لاتفاقية الشراكة التي تعد تركيا عضوًا فيها، وأن هذا القرار يتم بالإجماع أو عبر انسحاب الدولة من تلقاء نفسها. 
اعتراف بايدن رسميًا بأن مذبحة الأرمن التي ارتكبت على يد الإمبراطورية العثمانية عام 1915 كانت “إبادة جماعية” 
وهو تصنيف تجنّبه الرؤساء الأمريكيون لفترة طويلة، خوفًا من الإضرار بالعلاقة الأمريكية التركية، وقد دفع هذا الإعلان التاريخي من الرئيس بايدن في 24 أبريل 2021، المسؤولين الأتراك إلى توجيه انتقادات لهذا البيان، واعتبرت أنه “يفتح جرحًا عميقًا” بين البلدين، وتم استدعاء السفير الأمريكي في أنقرة لإبلاغه رسميًا بالرفض التركي لهذا القرار الأمريكي. 
ويبدو أن جميع هذه الضغوط الأمريكية تستهدف توصيل رسائل واضحة إلى تركيا، تفيد بأن الولايات المتحدة في عهد بايدن لن تتهاون مع السلوك التركي العدواني، بما قد يدفعها إلى إجراء تغييرات في سياستها على نحو يمكن أن يساعد في الوصول إلى توافق بين الطرفين حول العديد من الملفات الخلافية، كالملف السوري، وملف التعاون مع روسيا وغيرها. 
قضايا خلافية 
لدى كل من الولايات المتحدة وتركيا ملفات شائكة تقف عائقًا رئيسيًا أمام تطوير العلاقات بين البلدين. 
يتمثل الخلاف الأول في نظام الدفاع الصاروخي “إس-400” الذي اشترته تركيا من روسيا، لكونه يتضمن بالضرورة مشاركة روسية في تشغيل النظام، ومن ثَمَّ إمكانية حصولها على معلومات استخباراتية حول أي طائرة تحلق في المجال الجوي التركي، خاصةً طائرات “إف-35” الأمريكية التي كانت تركيا تسعى لشرائها، والمشاركة في تنفيذ مشروع تصنيعها. 
وقد ترتب على ذلك توقيع عقوبات أمريكية على الصناعات العسكرية الروسية، كما يستعد الكونجرس لفرض عقوبات عسكرية ومالية أكثر قسوة على تركيا نتيجة لهذه الصفقة. 
ونظرًا لإدراك تركيا خطوة هذا الملف بالنسبة للولايات المتحدة، ورغبةً منها في إبداء حسن النية، طرح وزير الدفاع التركي “خلوصي آكار” نموذجًا من شأنه أن يسمح لتركيا بتخزين صواريخ إس -400 في الخارج، بهدف استعادة الثقة بين الطرفين. 
وتُمثِّل الأزمة السورية مناط الخلاف الثاني بين الطرفين، خاصةً في ظل الدعم الأمريكي للأكراد السوريين، الذي تؤكد الولايات المتحدة أنه يستهدف تنظيم “داعش” في سوريا، في حين تعتقد تركيا تعتقد أن واشنطن تدعم الحكم الذاتي للأكراد وإقامة دولة لهم في شمال سوريا، خاصةً أن الأكراد السوريين الذين تدعمهم واشنطن هم جزء حزب العمال الكردستاني (PKK)، المُصنّف رسميًا كمُنظّمة إرهابية بموجب القانون الأمريكي. 
وينصرف الخلاف الثالث حول ملف حقوق الإنسان في تركيا، وتعزيز الإصلاحات الديمقراطية بها، إذ تُعتبر تركيا واحدة من أسوأ الدول في العالم فيما يتعلق بملاحقة وسجن الصحفيين، فضلًا عن أن السلطات التركية تستهدف النشطاء المعارضين بمواجب قوانين واسعة النطاق لمكافحة الإرهاب. 
وفي مطلع مارس 2021 أرسل 170 من أعضاء الكونجرس رسالة إلى الرئيس الأمريكي بايدن، لحثه على ضغط أردوغان بشأن سجل تركيا في مجال حقوق الإنسان، بما يمثل دفعا من الكونجرس في هذا الاتجاه. 
ورغم أن تركيا كانت ترفض هذه المزاعم سابقًا، فإن حاجتها الاستراتيجية لإصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة دفعها لتقديم تنازلات أكبر في سياستها الخارجية في الملفات الشائكة في علاقات البلدين، لذا طرح أردوغان في 3 مارس “خطة عمل” قال فيها إن حكومته ستُعزِّز الحق في محاكمة عادلة وحرية التعبير، كما أكد أن الخطة ستعمل على تحسين النظام القضائي في تركيا، الذي تعرّض لانتقادات بسبب افتقاره إلى الاستقلال. 
ورغم أن ما سبق يعد بمثابة القضايا الخلافية “الكبرى” في علاقات البلدين، فإن هناك بعض الملفات الشائكة الأخرى التي تزعزع ثقة الطرفين تجاه بعضهما، مثل إيواء الولايات المتحدة لـ”فتح الله جولن” الذي تتهمه تركيا، ومن ورائه الولايات المتحدة، بتدبير انقلاب 2016، بالإضافة إلى ملف شرق المتوسط، والذي يحتل أهمية كبرى فيما يتعلق بالتوترات حول الغاز الطبيعي في المنطقة. 
احتياج متبادل 
رغم القضايا الخلافية التي ترسم علاقة البلدين حاليا، والضغط المتزايد الذي تمارسه إدارة بايدن على تركيا، فإن واشنطن تدرك مدى حاجتها إلى الحليف التركي ذي الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لمصالحها. 
على الجانب الآخر، أبدت تركيا رغبة واضحة في إصلاح وتطوير علاقتها مع الولايات المتحدة، ففي 20 فبراير الماضي، قال أردوغان: “نريد تعزيز تعاوننا مع الإدارة الأمريكية الجديدة على المدى الطويل على أساس الربح للجميع”. 
على الجانب الأمريكي، تعد تركيا مهمة جدًا جغرافيًا وحاسمة للغاية بالنسبة لموقف القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، كما أنها تعد بمثابة الفاعل الإقليمي، ربما الوحيد، الذي استطاع مواجهة روسيا في مناطق نفوذ عدة في ليبيا وسوريا ودول القوقاز، فضلًا عن أنها لا تزال لاعبًا هامًا في منطقة البحر الأسود أيضًا، حيث تصاعدت التوترات بين الغرب وروسيا منذ أن ضمت موسكو شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني عام 2014، بما دفع البعض لوصفها بأنها “عدو طبيعي” لروسيا. 
بالإضافة إلى ذلك، فإن العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة وتركيا عميقة، إذ لدى وزارة الدفاع الأمريكية أسلحة نووية في قاعدة إنجرليك الجوية، على بعد أقل من 40 ميلاً من البحر الأبيض المتوسط​​، وتم إنشاء نظام رادار للإنذار المبكر لحلف شمال الأطلسي في تركيا للدفاع ضد هجمات الصواريخ الباليستية التي تنطلق من إيران. 
بالنسبة لأنقرة، فإن احتياجها للولايات المتحدة يعد بمثابة احتياج شامل، سياسي واقتصادي وأمني، إذ يحتاج الاقتصاد التركي إلى روابط مع الأسواق الغربية والاستثمارات، حيث يعاني اقتصاد تركيا -الذي نجا من ركود كورونا العام الماضي بفضل موجة إقراض حكومي سخي- من ارتفاع معدلات التضخم، وهبوط العملة، وركود نمو الوظائف. 
ورغم تصاعد التوترات بين البلدين، فإن أردوغان ليس مستعدًا للتخلي عن علاقاته العميقة مع الغرب من أجل منافسيه الاستبداديين في موسكو أو بكين. 
أمّا سياسيًا، فيحتاج أردوغان تدعيم موقفه السياسي الداخلي، خاصةً بعد أن هُزم حزبه في الانتخابات المحلية في اسطنبول قبل عامين، مما يؤكد ضعفه السياسي في بعض أجزاء البلاد، والذي يحاول تعويضه عبر تطوير علاقاته الخارجية التي تأثرت بشدة بسياساته العدوانية. 
أمنيًا، تمثل الولايات المتحدة حليفًا استراتيجيًا لا غنى عنه بالنسبة لتركيا، ولا يمكن استبداله بروسيا بأي حال من الأحوال. ورغم أنها أصبحت أكثر استقلالًا عسكريًا، فمجمعها الصناعي العسكري المحلي الناجح بالكامل لا يزال يعتمد إلى حد كبير على التراخيص الأمريكية. 
التوازن الدقيق 
من واقع ما سبق، يمكن القول بأن براجماتية أردوغان ورغبته في الحفاظ على السلطة، لا تترك لها خيارًا سوى العمل مع الولايات المتحدة وإصلاح العلاقة معها، أمّا من جهة بايدن، فأمامه مقاربتان لتعامل واشنطن مع بتركيا، تدعم المقاربة الأولى استعادة العلاقات القوية مع تركيا بداعي أن الأخيرة يمكنها مساعدة واشنطن في احتواء التوسع الروسي في مناطق البحر الأسود والقوقاز وآسيا والوسطي وسوريا، مع التأكيد أن صفقة الأسلحة الروسية لتركيا لا تعبر عن تحالف استراتيجي عسكري دائم بين الطرفين نظرًا للخلافات القائمة بينهما في غالبية القضايا الإقليمية ذات الأهمية الاستراتيجية. 
أمّا المقاربة الثانية فترى عكس ذلك، إذ بالنسبة لها تمثل تركيا خطرًا على المصالح الأمريكية، فلا تشاطر أنقرة واشنطن مصالحها في الشرق الأوسط أو في شرق المتوسط، ومن ثَمَّ ينبغي التعامل معها بالقوة وربما الإكراه وعدم السعي لاستقطابها أو إصلاح العلاقات معها. 
في هذا الإطار، يبدو أن بايدن ينتهج مقاربةً ثالثةً تعتمد على تحقيق التوازن الدقيق في العلاقة بين البلدين، ففي حين يدفع تركيا إلى موازاة مصالحها الاستراتيجية مع مصالح واشنطن في عدة مناطق نفوذ استراتيجية كالبحر الأسود والقوقاز مثلًا، فإنه في الوقت ذاته يلوَّح بمعاقبتها إذا اتخذت سلوكًا عدوانيًا خارجيًا أو تعاونت مع خصوم الولايات المتحدة. 
فعلى سبيل المثال، بالرغم من أن بايدن ينتقد السلوك العدواني الخارجي لتركيا في شرق المتوسط، فهو يُطلِق يد تركيا في مواجهة روسيا في أقاليم عدة مثل البحر الأسود، حيث لم تعترض الولايات المتحدة على الدعم التركي لأوكرانيا، ولم تعترض كذلك على تدخل تركيا في أزمة إقليم ناجورنو قره باخ في مواجهة روسيا أيضًا. 
كذلك حينما أعلن بايدن اعتراف بلاده بأن المجازر التي تعرض لها الأرمينيون على يد العثمانيين، كانت “إبادة جماعية”، أشار في الوقت ذاته إلى أنه “لا يستهدف إلقاء اللوم ولكن لمنع تكرار ما حدث”، ما يعني أنه يحاول إمساك العصا من المنتصف، فرغم اعترافه بأنها “إبادة جماعية” صراحةً، حرص في الوقت ذاته على عدم تحميل تركيا مسؤولية هذه الإبادة. 
لذلك، يبدو أن إدارة بايدن ستستمر في الضغط على تركيا مع الحفاظ على تحالف عسكري عمره عقود من ناحية، وكذلك ستعمل على تعزيز التقارب المشترك مع الحفاظ على خيار العقوبات بموجب قانون “مكافحة أعداء الولايات المتحدة” (CAATSA)، والذي -بالفعل- فرضت واشنطن بمقتضاه في ديسمبر 2020 عقوبات على صناعات الدفاع التركية. 
بيد أن لعبة التوازن التي ربما سيلعبها بايدن، أو بالأحرى سياسة العصا والجزرة، قد لا ترضي مصالح الطرف التركي، الراغب بشدة في تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، خاصةً أن زيادة الضغط الأمريكي على تركيا ربما يدفعها لتعزيز علاقتها مع خصوم الولايات المتحدة، وبالتحديد روسيا والصين. 
من ناحية أخرى، نجد أن سياسة تركيا الخارجية في السنوات الأخيرة خلقت أعداء كثيرين لها إقليميًا وعالميًا، بما دفعها لتقديم تنازلات في سياستها الخارجية لاستعادة هذه العلاقات مع بعض الدول، ومن ثَمَّ لا ينبغي على واشنطن استغلال هذه الحاجة التركية للحلفاء، والضغط عليها بشكل متزايد، بما يضطرها للتوجه نحو الخصوم كما فعلت في نظام الدفاع الصاروخي الذي اشترته من روسيا بعد رفض الولايات المتحدة وأوروبا بيعه لها. 
ومن أجل تحقيق ذلك التوازن، من المتوقع أن يسعى الطرفان (روسيا والولايات المتحدة) إلى محاولة إيجاد نقاط تقارب للقضايا الخلافية بين البلدين، خاصة الصفقة العسكرية الروسية، وإمكانية التعامل معها دون الإضرار بأمن الولايات المتحدة وأعضاء حلف الناتو، فضلًا عن ملف الدعم الأمريكي للأكراد خاصةً في ظل تأكيد الولايات المتحدة بأنه يهدف فقط لمحاربة تنظيم “داعش” وليس لدعم استقلال الأكراد، وربما تتدخل الولايات المتحدة في الأزمة لاحقاً لإيجاد آلية للتوصل لحل سلمي للمشكلة الكردية في تركيا عبر الضغط على حزب العمال الكردستاني لنزع سلاحه، بعد إبداء تركيا حسن نيتها لحل الأزمة. 
ختامًا، ليس من شك في أن كل طرف يدرك مناطق قوته ونفوذه وحاجة الطرف الآخر إليه، بيد أن هناك عوامل مساعدة تُعزِّز حاجة كل طرف إلى الآخر، وفي هذه الحالة فإنه يبدو أن تركيا تحتاج إلى دعم الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى، نظرًا للتدهور الاقتصادي والسياسي في البلاد، وتردي العلاقات الإقليمية لها. 
وفي حين ستسعى الولايات المتحدة إلى استغلال هذه الظروف للضغط على تركيا لتعزيز المصالح الأمريكية في الأقاليم ذات الصلة، فينبغي -في الوقت ذاته- احتواء تركيا وإعادتها للبيت مرة أخرى، لتحقيق أكبر المكاسب من ورائها، وتجنبًا لتعزيز تقاربها مع خصوم الولايات المتحدة.