الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الثقافة والإعلام والإصلاح السياسي العربي

الثقافة والإعلام والإصلاح السياسي العربي

04.08.2013
وائل مرزا

الشرق القطرية
الاحد 4/8/2013
لقد بات واضحاً أن جوهر الإصلاح السياسي في البلاد العربية لا يكمن دائماً كما يظن البعض في استبدال أفراد بأفراد، لأن هناك موروثاً سياسياً / ثقافياً مشتركاً بين أفراد وجماعات النخبة السياسية التقليدية العربية بجميع ألوانها الأيديولوجية، سواء كانت في داخل إطار السلطة السياسية أو في صفوف المعارضة، وهو موروثٌ يغلب أن يُفرز لنا قياداتٍ سنُفاجأ كلّما وصلت إلى موقع صناعة القرار بأنها تشترك مع غيرها في كثير من الصّفات التقليدية، بغض النظر عن شعاراتها التقدمية في مراحل ومواقع المعارضة العتيدة.
ثم إن أي عملية إصلاح سياسي في البلاد العربية لا يمكن إلا أن تحصل في إطارٍ يأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الواقع السياسي الراهن إضافة إلى الإرث السياسي التاريخي للبلاد العربية. وهذا يتطلب، حتى في زمن الثورات، سلسلةً معقدةً وطويلةً من الإجراءات، لأن الإصلاح نفسُهُ أكثرُ تعقيداً وطولاً مما يعتقد البعض بناءً على الحماسة وردود الأفعال. فهو يتطلب وضعَ قواعد جديدة للحياة السياسية مختلفة كلياً عن القواعد المألوفة السابقة، ويتطلب أيضاً بناءَ هياكل ومؤسسات قد تختلف إلى درجةٍ كبيرة عما هو موجودٌ ومُتعارفٌ عليه في الحاضر. وهذا كله يحتاج إلى كوادر سياسية تستطيع استيعاب تلك القواعد والعمل من خلال تلك المؤسسات.
لكن الأصعب من هذا كله هو أن عملية الإصلاح السياسي تتطلب تشكيل ثقافة جديدة في المجتمع بشكل عام، وهي ثقافةٌ يمكن أن تتضارب مع كثيرٍ من الأعراف والتقاليد السائدة التي اختلطت فيها إلى درجةٍ كبيرة الثوابت بالمتغيرات.
إن السبب الأول والأساسي لحصول البلبلة في عمليات الإصلاح السياسي يتمثل في تفكّك وعدم تماسك الهياكل الأساسية للبنية العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وأحياناً في عدم وجود الهياكل أو البنية المطلوبة من الأساس. فما هو قائم من تلك الهياكل تمّ بناؤُه وفقاً لمعطيات مرحلةٍ سابقة، تختلف بشكل شمولي عن معطيات المرحلة الراهنة. الأمر الذي يعني أن صلاحية تلك الهياكل انتهت، ليس فقط بفعل التآكل والاهتراء الذي طرأ عليها من خلال هيمنة نفس الأشخاص ونفس طرق التفكير والعمل لفترة طويلة، وإنما أيضاً من واقع أنها لم تعد تصلح لتحقيق الوظائف المطلوبة منها في خضمّ المعطيات الجديدة التي تفرض نفسها على جميع المستويات.
والخطورة في المسألة أن يقوم البعضُ بعمليات قياسٍ خاطئة على بعض تجارب وأحداث سابقة، والتي استطاعت الهياكل التقليدية استيعابها بأقل حدٍ ممكن من التكاليف. أما مكمن الخطر فيكمن في التجاهل، عمداً حيناً وعن غير قصد حيناً آخر، لحجم التغيير الذي أصاب البنية السياسية والثقافية العالمية في السنوات الأخيرة. بحيث يُصبح الإصرار على معالجة الواقع والمستجدات بالهياكل القديمة وطرق التفكير القديمة مدخلاً للفشل، آجلاً إن لم يكن عاجلاً، لأن فيه معاندةً للتاريخ ولسنن وقوانين الاجتماع البشري.
وهنا، ينبغي الانتباه أيضاً إلى خطورة الإعلام ودور من يمكن تسميتهم بـ (تُجار النزاعات) ومصالحهم الكامنة في غياب الإصلاح والمصالحة. فاشتعالُ النزاعات يعني اشتعال المنافسة بين المصالح. وكلما كانت النزاعات كبيرةً وشاملة كانت المصالحُ أكبر. وكلما كبُرت المصالح ارتفع حجم المكافآت والعوائد التي يجنيها مَن يخدمون تلك المصالح. وبما أننا نعيش في عالمٍ أصبح الإعلام يُعتبر السلاح الأول في معاركه السياسية والثقافية، فإن هناك إغراءً شديداً لأهل الإعلام للاستفادة من هذا الوضع، ولتحقيق مكاسب لايمكن تحقيق جزءٍ منها في أوقات الاستقرار والسلام.
والمفارقةُ في الإعلام الجديد تكمن في قدرته على أن يكون مدخلاً لتعميق وترسيخ الفرز الثقافي والاجتماعي بشكلٍ متزايد، بسبب مرونته وإمكانياته الهائلة، وتمكّنه من تقديم منابر وقنوات تُمثّلُ جميع أنواع الانتماءات والمدارس الفكرية. لهذا، يمكن أن تمتلك كل مجموعةٍ عرقيّة أو أيديولوجية وكل قبيلة أو منطقة موقعاً على الإنترنت وقناةً فضائية تُعبّر عن أفكارها وتوجهاتها وتركّز على اهتماماتها وتخدم حاجات أفرادها.
إلى هنا يكون الأمر طبيعياً ويمكن أن يدخل في إطار مفاهيم التنوع والتعارف. غير أن المشكلة تظهرُ حين تصبح الأداة الإعلامية وسيلةً للمبالغة في التمايز عن الآخر، وأحياناً إلى درجة التهجم عليه والحطّ من قدره. ثم تبلغُ المشكلة أَوجَها حين تتحول الأداة المذكورة إلى قوقعةٍ أخرى، ولكن بتكنولوجيا حداثيّة هذه المرة. بمعنى أنها تُصبح فرصةً لخلق فضاءٍ داخليٍ مُغلقٍ على أفراده، يغلب عليه التلقين، وتتضاءل فيه مساحة التساؤل والنقد والمراجعة، ويُعاد فيه تجميعُ الأتباع حول منظومةٍ نمطيةٍ مُوَحّدةٍ من الأفكار والآراء.
هنا يبدو الإعلام الجديد في أغرب صوره، ويَظهر حجم التعقيد الكامن في تركيبته العجيبة. وتتبيّن القدرات الهائلة التي يحملها معه للتأثير في الحياة البشرية. ففي مثالنا المذكور، تُصبح وسيلةُ الانفتاح نفسُها أداةً للانغلاق والانعزال ربما يكون مفعولُها أقوى من مفعول العزلة الجغرافية. وتضحى أداةُ التواصل بين المجتمعات أو بين شرائح المجتمع الواحد وسيلةً للانقطاع ولتوسيع مسافات التباعد بحيث تُصبح شاسعةً في تأثيرها، حتى لو كان أصحابُها يقطنون في نفس الحيّ!..
كثيرةٌ هي تحديات الإصلاح، ومسيرتهُ طويلة. لكنه يبدو حتمياً في جميع الأحوال. والخيارات في هذا المجال واضحة وصريحة. فإما أن يكون ذلك الإصلاح خارجاً عن نطاق السيطرة من خلال مزيجٍ من الانفجارات الداخلية و الضغوط الخارجية، ويكون بالتالي في غير مصلحة أحد، أو أن يكون مبرمجاً ومضبوطاً ومستوعِباً لجميع القوى الفاعلة في المجتمع، ويكون بالتالي قادراً على تحقيق مصلحة الجميع.