الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الثورة السورية إلى أين؟

الثورة السورية إلى أين؟

05.01.2014
حسين سليمان


القدس العربي
السبت 3/4/2014
كان عمر أميرلاي قد غاب عن عالمنا قبيل بدء الثورة بشهر وبضعة أيام، فقد رحل المخرج السوري صاحب الفيلم التسجيلي الكبير’طوفان في بلاد البعث’ في 5 شباط/فبراير بينما انطلقت شرارة ـ الطوفان – الثورة السورية، في 15 آذار/مارس من عام 2011. لم ير ما كان يأمله، ولم ير الاختبارات الأولى للثورة الطويلة والبعيدة المدى. لقد بدأت خجولة، فردية. كان عدد من الأفراد في أحياء دمشق يتظاهرون منادين بخفر للحرية، يهتفون ‘الله حرية وبس لا يمكن نسيان صدى أصواتهم، يشجع أحدهم الآخر في الهتاف، وينظر إليه ثم يهتف بصوت خفيض بالكاد نسمعه، وبعد قليل يعلو الهتاف ويصبح شبه جماعي، حتى تحولت هذه التظاهرات الفردية بعد فترة قصيرة إلى مسيرات عارمة ملأت المدن والبلاد تنادي بإسقاط نظام حافظ أسد- نظام حافظ أسد لأنه هو النظام الحقيقي، ولا يلعب فيه بشار سوى لعب صوري غير حقيقي. مازال حافظ اسد بيننا وهدف الثورة ليس فقط إسقاطه، بل إلى جانب ذلك، إعادة إعمار إنسان المنطقة. يبدو الآن هذا الكلام ممجوجا بعض الشيء بعد أن انكشف العمق الآخر من الحقيقة، وتبينت الطرق التي دُفعت إليها الثورة السورية، إلا أنني أحب أن أذكر أن ما عاناه الشعب السوري خلال الأعوام الماضية من هيمنة الواحدية الفردية – وتحويل سورية كلها الى سورية الأسد، كان طغيانا يخيم على الجميع، هذه المعاناة الظاهرية – من دون نسيان الهيمنة الكلية للمؤسسة الأمنية التي حولت الإنسان السوري إلى خادم يملأه الخوف من نظام صدّر له الرعب والموت – هذه المعاناة التي تبدو ظاهرية، هي المعاناة الأشد قسوة من حيث أنها لوثت الروح الجمعية للمجتمع السوري وحولتها إلى حيوان خائف مسالم يسيّره راع إله.
إلا أن ذلك لم يدفع السوريين إلى الصمت الكلي، طيلة الأعوام الماضية كانت السجون ـ الجحيم- تمتلئ بالمعارضين والمناوئين للنظام، فالروح التي أراد الأسد أن يطوعها أبت عليه ذلك. كان مقت النظام مبيتا عند إنسان المنطقة، إلا من كان من أعضاء مزرعته الذين في العادة تسكنهم أراوح تابعة، يرى المرء أمثالها في كل مكان وزمان. هؤلاء هم الذين قالوا للأسد ‘الوطن العربي قليل عليك ولازم انت تقود العالم يا سيادة الرئيس. هم الذين سلط عليهم عمر أميرلاي الضوء في ‘طوفان في بلاد البعث’، من أمثال مدير المدرسة الحزبي وشيخ العشيرة الأمي، لقد اعتمد الأسد على هؤلاء في بناء مؤيديه وقوته وبناء عناصر مخابراته، روبوتات إنسانية أضاعت روحها وسجنت حريتها لصالح الأسد ولصالح نظامه الطائفي ومصالحه مع أنظمة العالم.
لولا اللعبة الدولية المتشعبة المتراكبة لكان نظام الأسد قد انتهى الآن واندثرت الديكتاتورية، لكن على الشعب السوري أن يثور ليس على الديكتاتورية المحلية ممثلة بحكم الأسد العسكري، بل يثور أيضا على ما هو أكبر، يثور على العالم الذي يحكم وله يد في كل شيء. كأن الثورة السورية هي السباحة ضد التيار- تيار العالم- وكل ثورة جذرية ستكون هكذا. تيار قوي وثورة تبدو ضعيفة، إلا أنها ليست كذلك، حيث الروح الشرقية هي روح متدينة، ومن الصعب القضاء عليها وتشتيتها، وقد انتبه الغرب إلى ذلك فحول الثورة إلى صراعات طائفية شيعة وسنة على مبدأ الحديد بالحديد يفل، دفعها نحو تلك الصراعات كي ينتهي منها وتصبح سيطرته على البلاد أكبر مما كانت عليه من قبل. من جهة أخرى أراني أعلق ما يحصل الآن من حروب طائفية بين الشيعة والسنة على مشجب الغرب، إلا أن ذلك ليس صحيحا تماما ولا يمكن السكون إليه، فلولا قابلية النفوس الشرقية على حراث الظلم وعلى الحروب الطائفية لما نجح الغرب في استغلال مثل هذه الفرص. كان الاستغلال الوحيد الذي فعله هو وضع قدميه في الأراضي السورية عن طريق الحاكم نفسه، هذا الحاكم الذي حلل على نفسه ضرب مدنه وقصف أهله وحرم على نفسه التصدي لطائرات العدو التي اخترقت اجواءه ودمرت منشآته أكثر من مرة.
لم تنطلق الثورة السورية من العدم، لقد كانت لها أسبابها، ولم تحركها المؤامرة التي سيكون أصحابها في كل مكان من العالم يتربصون بالفرص كي ينتهزوها لتنفيذ مآربهم ومكاسبهم. إن الذي حرك الثورة السورية هو طموح ديني في التغيير، وهذا الطموح ليس طموح إمام جامع، ولا طموح جبهة النصرة أو داعش، ولا طموح سنة أو شيعة، بل هو طموح يعيش في الأعماق وقد استيقظ الآن ويأخذ بين فترة وأخرى أشكالا دينية في الأساس، أو أشكالا أخرى في الظاهر، إلا أنه في النهاية دلالة على بداية تحول جوهري في نفس الشرقي المتدين، الذي أمد العالم بأديان التوحيد.
هذه الثورة سوف تتقدم خطوات إلى الأمام ثم تعود القهقرى، إلى مكان يحسب من يراها فيه أنها انتهت وانطفأت، لكنها تستعر ومازالت متوهجة، وما رأيناه من نتائج لثورة مصر المحبطة وعودتها إلى مكان انطلاقها ليس سوى دليل على ما أقوله، هو القهقرى الذي ستقفز منه مرة أخرى نحو الأمام، وتنبذ العسكري وتعيد الأوراق كما تريد. إن كانت ثورة مصر هي ثورة رومانسية ومن السهل اللعب بنتائجها، فإن الثورة السورية هي ثورة دم بجدارة، لم تكن رومانسية لأنها نزلت وتلوثت بالطين والدم والدمار، وهذه الأضاحي لا تقبل النفس أن تمر من دون ثمن ومن دون نتائج. من قبيل أن العالم مركب على قانون لا يمكن خرقه، وهو العين بالعين، مبدأ المساواة، أو مبدأ حفظ الطاقة، وهو المبدأ الذي توسعت فيه وأشاعت سحره الفيزياء الحديثة التي أٌقرت أنه لا فوضى في هذا العالم، ما يحدث من نبض قلب هنا فإنه لا يضيع، لأنه سيتحول بعد فترة إلى علامة أخرى في مكان آخر. الكل مترابط ومتشابك، والظلام الذي يبدو للوهلة الأولى أنه سينتصر هو في الواقع يحفر حفرته كي يقع فيها.
لقد انتصرت الثورة السورية في اليوم الأول الذي قامت فيه، ذلك حين صعدت هتافها ‘الله حرية وبس. هذه الثورة التي تبدو الآن وكأنها تشوهت بالفصائل القادمة من خارج الحدود السورية، فصائل لمعاضدة الثورة وفصائل لإخمادها، سنة وشيعة، كل ذلك سيتم كنسه بمكنسة الزمن. إن مسبب هذه الفوضى هو النظام نفسه مع توجيه اسرائيل التي تحلم بحدودها من النيل إلى الفرات. في الواقع لقد كانت حدودها من النيل إلى الفرات ذلك حين كانت تتحكم في الأعوام الماضية وتسّير آلة مصر وسوريا، أما الآن فإن مخاض التغيير قد بدأ، وهذا التوسع غير المباشرة لها سوف تتم إعادة النظر فيه. ولا نرى الآن شيئا مختلفا سوى أن الثورة السورية قد كشفت الأقنعة، أقنعة العالم، وهالنا ما رأيناه من وجوه كان تبدي لنا عكس ما كانت عليه في الحقيقة.
 ‘ كاتب سوري