الرئيسة \  تقارير  \  “الجارديان”: ليست الدينية فقط.. كيف تمحو الصين ثقافة الإيغور الشعبية؟

“الجارديان”: ليست الدينية فقط.. كيف تمحو الصين ثقافة الإيغور الشعبية؟

19.12.2021
ساسة بوست


الساسة بوست        
السبت 18/12/2021
يُؤكد الإيغور المنفيون وبعض الباحثين أن الأضرحة القديمة والفولكلور الشفهي وأغاني التراث الشعبي، والتي تعد جزءًا من التراث الفني الثري للإيغور، تتعرض لحملة “طمس” قمعية في إقليم شينجيانج غرب الصين. وحول هذا الموضوع نشرت صحيفة “الجارديان” البريطانية تقريرًا سلَّطت فيه الضوء على الكيفية التي تمحو بها السلطات الصينية هوية الإيغور الثقافية وليست الدينية فقط.
هوية الإيغور الثقافية.. التفريغ من المحتوى!
وفي مستهل تقريرها، الذي أعدَّته الكاتبة المستقلة ديل برنينج سوا، تُشير الصحيفة إلى أن محكمة الإيغور أصدرت يوم الخميس الماضي حكمًا يُدين الصين بشأن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها في إقليم شينجيانج، وكانت محكمة الشعب التي تتخذ من لندن مقرًا لها، قد استمعت على مدار الأشهر الماضية إلى شهادات من علماء دوليين، بالإضافة إلى بعض الناجين من الاعتقالات الصينية و”معسكرات الاحتجاز” التي تقول الصين “إنها أُسِّست لإعادة تثقيف الإيغور وغيرهم من الأقليات الدينية”.
ويُوضِّح التقرير أنه في الوقت الذي يُنظَر فيه إلى هذا الحكم بأنه ليس له أي صفة قانونية، فإن الهدف منه هو تسليط الضوء على الطريقة التي تتعامل بها الصين مع أقليتي الإيغور والكازاخية وغيرهم من المسلمين الأتراك في شمال غرب الصين. ووصفت راشيل هاريس، الخبيرة البريطانية في الموسيقى الإثنية والمتخصصة في ثقافة الإيغور، إستراتيجية الصين بأنها محاولة “لتفريغ ثقافة كاملة من محتواها وترويع شعب بأسره”.
وقد كُتب كثير عن تدمير تراث الإيغور بداية من المساجد والأضرحة إلى المراكز الخاصة بالمدن القديمة والمدافن التقليدية، والتقت كاتبة التقرير بعشرة متخصصين وخبراء، ومنهم عدد من أقلية الإيغور في المنفى وبعض الباحثين الدوليين ذوي الخبرة الواسعة في هذا المجال، من أجل فهم الكيفية التي تتعرض لها هوية الإيغورالثقافية للطمس والمحو بالكامل.
منع أذان الصلاة وحظر لغة الإيغور!
يُنوِّه التقرير إلى أن الأذان الذي يُصدح به في جميع أنحاء العالم إيذانًا بحلول موعد الصلاة يُعد من أبرز ما يُميز الدين الإسلامي ومع ذلك، فإن الإيغور ظلوا محرومين من سماع أذان الصلاة منذ مدة طويلة في المناطق الحضرية، بل إنهم يتعرضون حاليًا للحرمان من أداء الصلاة منفردين، ومن خلال سياسة يطلق عليها “أن نصبح عائلة واحدة”، يُرسَل المسؤولون الحكوميون للبقاء في منازل الإيغور من أجل استئصال أي شيء يُعد غير قانوني (حيازة كتب بلغة الإيغور، وارتداء اللباس التقليدية).
وأشار التقرير إلى أن أعدادًا غفيرة من الأكاديميين والشخصيات المتعمقة في ثقافة الإيغور الشعبية تعرضوا للاختفاء، من بين حوالي 1.5 مليون شخص محتجزين في معسكرات “إعادة التثقيف”، حيث يُعزل أطفال لا تتجاوز أعمارهم شهورًا عن آبائهم ويوضعون في ملاجئ أيتام تابعة للدولة يُتحدَّث فيها باللغة الماندرينية (الصينية الرسمية)، ومُنعت المدارس من تعليم لغة الإيغور ولم يُنشر أي كتب بهذه اللغة في الصين منذ عام 2017، وتقول المصورة الأمريكية ليزا روس، “اعتاد الناس، الذين ينتمون إلى أقلية الإيغور، دفن كتبهم، لكن أصبحوا حاليًا يخشون فِعل ذلك”. وفي محاولة صينية لمحو ثقافة السكان الأصليين واقتلاعها من جذورها، حُظرت لغة الإيغور وأغانيهم وموسيقاهم من المجالات العامة والخاصة.
وعندما كان دارين بايلر، عالم الأنثروبولوجيا بجامعة كولورادو، في مدينة أورومتشي (عاصمة إقليم شينجيانج) في أوائل عام 2010، كانت حفلات بيوت الطلبة تقام في عطلات نهاية الأسبوع، يشترك فيها الجميع دومًا في عزف الموسيقى معًا. وكان الأصدقاء يجلبون الأدوات الموسيقية ويستمر الناس في الغناء. ويقول بايلر: “كان الجميع شعراء ويفكرون بطريقة شاعرية”.
ويشرح بايلر أن الإيغور كان يستمتعون غالبًا بإضافة لواحق قافية في نهايات أشعارهم التي يستخدمون فيها اللغة التركية، وتحدد هذه البراعة اللفظية أنماط سرد القصص القديمة مثل ملحمة داستان، الحكايا الملحمية المروية – التي قد يسمعها الزوار في المهرجانات التي تقام في صحراء تاكلاماكان، كما أنتجت هذه البراعة اللفظية مجموعة نابضة بالحياة من تراث موسيقى الهيب هوب المحلي في أورومتشي الذي شهده بايلر هناك.
هدم الأضرحة وإلغاء الاحتفالات التراثية!
أما الآن، صارت جميع التجمعات محظورة، مثل صلاة الجماعة واحتفاليات الأضرحة (المزارات الدينية) والاحتفال بمهرجان الحصاد التقليدي (مشرب)، وتراث موسيقى الـ”هيب هوب”، بل وحُظرت حتى مباريات كرة القدم، ويسلِّط تدمير المنشآت المبنية الضوء على ما تعانيه هوية الإيغور الثقافية والدينية من تفكيك، وخير مثال على ذلك، تدمير المزارات الدينية المنتشرة في جميع أنحاء الضواحي وفي البلدات والمدن أيضًا. وكانت هذه الأضرحة مغلقة قبل هدمها، وقد أدَّى ذلك إلى إغلاق منشآت المجتمعات المحلية الريفية، بالإضافة إلى وقف الممارسات الثقافية القديمة التي تساعد على تفعيل هذه المجتمعات.
وذكر التقرير أن احتفاليات المزارات الدينية كانت تقام كل خميس في أوقات معينة من كل عام: على سبيل المثال، طوال موسم التوت في ضريح “الإمام عاصم”، أو خلال موسم العنب في ضريح “كوك ماريم”. وبدءًا من أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وثَّقت المصورة ليزا روس المزارات على نحو مكثف، حيث صوَّرت أطنانًا من رايات الصلوات المصنوعة يدويًّا وغيرها من الأغراض التعبدية المثبتة على أعمدة خشبية، والتي يجلبها عشرات الآلاف من الزوار في ذلك اليوم من كل عام.
ويصف باحث من الإيغور، والذي لم يرغب في الإفصاح عن هويته، شعوره بالحضور في مثل هذه الأماكن. إذ كانت هناك أواني تندوري بحجم الغرف الصغيرة في ضريح الإمام عاصم، حيث يقوم مجموعة من الرجال بتقليب حساء يُسمى “شيلانج” بالمجارف. وكان الزائرون والسائحون يقدمون كل ما في وسعهم من نُذُور (شاة يحضرونها للذبح في الموقع، أو حتى حبة أرز واحدة)، أما عن الأغاني والأناشيد فقد أوضح الباحث أن: “هذه كانت مثل حفل زفاف وجنازة في آن واحد؛ إذ كانت هناك لقاءات حكايا داستان الملحمية، وقصص تذكِّر الزائرين بأسباب قدومهم ومن أين أتوا. كما كان هناك رقص وقرع للطبول وإنشاد ونحيب، وصلاة. إنه شيء لن تسمعه في أي مكان آخر”.
وعندما زارت راشيل هاريس، خبيرة الموسيقى الإثنية، ومعها رحيل داوت، خبير فولكلور أقلية الإيغور، الذي اختفى قبل أربع سنوات وجرى التأكد من اعتقاله منذ ذلك الحين، ضريح “أوردام باديشا” الذي يُعد الأكبر والأقدم، في عام 1995، كتبا أنه يمكن القول إن سخط الصين على الأضرحة يكمن في المظاهر الجمالية والمناظر والأصوات، وليس ردًا على أي تهديدات سياسية.
تدمير 80% من المساجد والأضرحة!     
يلفت التقرير إلى أن ضريح “أوردام باديشا” كان قد أُغلق في وجه الجمهور في عام 1997 وتظهر صور الأقمار الصناعية حاليًا أنه تهدم تمامًا، وكذلك ضريح “الإمام عاصم”. ويُقدِّر المعهد الأسترالي للسياسات الإستراتيجية عدد المساجد والمزارات الدينية والمقابر في شينجيانج التي تضررت أو دُمِّرت منذ عام 2017 بنسبة تصل إلى 80%.
يضيف التقرير أن السلطات الصينية وضعت في أماكن أخرى نسخة معاد هندستها من ثقافة الإيغور الحية، وتتجلى هذه العملية بوضوح في احتفاليات عيد الحصاد (مشرب). وفي هذا التقليد الاحتفالي الفريد للإيغور، كانت تُستخدم الموسيقى ورواية القصص لنقل المعرفة الثقافية أو الأخلاقية. ولكن عندما سعت الصين إلى إدراج احتفاليات “مشرب” في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي في عام 2009، رفضت راشيل، التي كانت تعمل بصفتها مدققة رسمية معتمدة، ذلك.
وتوضح راشيل قائلةً “اعتقدتُ أن الطريقة الوحيدة للحفاظ على احتفاليات “مشرب” ستكون من خلال التقديم الفولكلوري لها”. ومع ذلك، منحت اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) الصين المرتبة التراثية التي أرادتها، وحظرت الصين التجمعات الشعبية على الفور. ويوجد في القرى حاليًا مراكز معترف بها من الدولة مع جداريات تحمل شعارات، “ليرقص الجميع”، و”مرحبًا بكم في مهرجان مشرب” في محاولة لتقديم نسختها المعتمدة من هذه الثقافة. كما تعاد كتابة كلمات الأناشيد الدينية على اعتبار أنها وطنية ثورية وتُجبر السلطات الصينية الإيغور على الحضور للاستماع إليها.
الحق في تطوير الثقافة مثل الحق في ممارسة الشعائر
ألمح التقرير إلى أن مقدمي العروض يتعين عليهم أيضًا المشاركة في عروض الغناء والرقصات الغريبة التي تلبي احتياجات صناعة السياحة الوطنية المتنامية، وتقول راشيل هاريس: “يمكنك رؤية هذه العروض على يوتيوب، وأرى أنها رائعة، لكن هذه العروض تُحول أقلية الإيغور إلى “أوعية فارغة يغنون ويرقصون ويبتسمون للسائحين، لكن ليس لديهم الحق في تطوير ثقافتهم مثلما لديهم الحق في ممارسة شعائرهم الدينية”.
وتحدثت كاتبة التقرير إلى مُقدِّس مجيت، وهي أكاديمية وصانعة أفلام وراقصة من الإيغور ولدت في مدينة أورومتشي في ثمانينيات القرن الماضي. وكانت مُقدِّس قد غادرت إقليم شينجيانج لأول مرة متوجهة إلى باريس في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لمواصلة دراسات البيانو الكلاسيكية، لكن عندما أدركت أنه لا يوجد أحد في فرنسا يعرف أي شيء عن مكان نشأتها، تحولت إلى عِلم الموسيقى الإثني وتعمَّقت في دراسة تاريخ عائلتها، واكتشفت أن جدها الأكبر كان شيخًا صوفيًّا. وقالت مُقدِّس: “لقد تعرفت على تراثي من خلال دراستي. وأصبح يملأ عليَّ حياتي”.
وفي ختام تقريرها، أشارت الكاتبة إلى أن مُقدِّس وراشيل نظَّمتا في العام الماضي فعالية عبر الإنترنت وُصِفت بأنها أول حفل موسيقي للإيغور عابر للقارات، وتحت شعار “الحنين إلى الوطن”، عزف موسيقيون من جميع أنحاء العالم لمدة ساعتين من مؤلفات موسيقى المقام الكلاسيكية. وهذا الأمر أدَّى إلى أن تنهمر الدموع من عيون مُقدِّس، والتي قالت: “من الجميل حقًا سماع هذه الموسيقى، إنها أغاني جميلة وشعر جميل، وهي تعبر عنَّا نحن الإيغور وهذه هي أناشيدنا وثقافتنا”. لطالما كان المنفى سببًا في تقديم استعارات موسيقية قوية، لكنه في ضوء محنة شعب الإيغور، لا يمكن اعتبار هذه الموسيقى صورًا مجازية تعبر عن الحنين إلى الوطن، بل إنها حالة استثنائية.